قوله : ( حديث الإسراء ، وقول الله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) سيأتي البحث في لفظ ( أسرى ) في تفسير سورة سبحان إن شاء الله تعالى . قال ابن دحية : جنح nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري إلى أن ليلة الإسراء كانت غير ليلة المعراج ؛ لأنه أفرد لكل منهما ترجمة . قلت : ولا دلالة في ذلك على التغاير عنده ، بل كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما ، وذلك أنه ترجم " باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء " والصلاة إنما فرضت في المعراج ، فدل على اتحادهما عنده ، وإنما أفرد كلا منهما بترجمة ؛ لأن كلا منهما يشتمل على قصة مفردة وإن كانا وقعا معا ، وقد روى كعب الأحبار أن باب السماء الذي يقال له : مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس ، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويا من غير تعويج ، وفيه نظر ، لورود أن في كل سماء بيتا معمورا ، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة ، وكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور بغير تعويج ؛ لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور ، وقد ذكر غيره مناسبات أخرى ضعيفة فقيل : الحكمة في ذلك أن يجمع - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة بين رؤية القبلتين ، أو [ ص: 237 ] لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشتات الفضائل ، أو لأنه محل الحشر ، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية ، فكان المعراج منه أليق بذلك . أو للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى ، أو ليجتمع بالأنبياء جملة كما سيأتي بيانه ، وسيأتي مناسبة أخرى للشيخ ابن أبي جمرة قريبا ، والعلم عند الله .
وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة : فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي - صلى الله عليه وسلم - وروحه بعد المبعث ، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة ، ولا ينبغي العدول عن ذلك ؛ إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل ، نعم جاء في بعض الأخبار ما يخالف بعض ذلك ، فجنح لأجل ذلك بعض أهل العلم منهم إلى أن ذلك كله وقع مرتين مرة في المنام توطئة وتمهيدا ، ومرة ثانية في اليقظة كما وقع نظير ذلك في ابتداء مجيء الملك بالوحي ، فقد قدمت في أول الكتاب ما ذكره ابن ميسرة التابعي الكبير وغيره أن ذلك وقع في المنام ، وأنهم جمعوا بينه وبين حديث عائشة بأن ذلك وقع مرتين .
وإلى هذا ذهب المهلب شارح nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وحكاه عن طائفة nindex.php?page=showalam&ids=12851وأبو نصر بن القشيري ومن قبلهم أبو سعيد في " شرف المصطفى " قال : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - معاريج ، منها ما كان في اليقظة ومنها ما كان في المنام ، وحكاه السهيلي عن nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي واختاره ، وجوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام وقعت قبل المبعث لأجل قول شريك في روايته عن أنس " وذلك قبل أن يوحى إليه " وقد قدمت في آخر صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان ما يرتفع به الإشكال ولا يحتاج معه إلى هذا التأويل ، ويأتي بقية شرحه في الكلام على حديث شريك ، وبيان ما خالفه فيه غيره من الرواة والجواب عن ذلك وشرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى . وقال بعض المتأخرين : كانت قصة الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة . متمسكا بما ورد في حديث أنس من رواية شريك من ترك ذكر الإسراء ، وكذا في ظاهر حديث مالك بن صعصعة هذا ، ولكن ذلك لا يستلزم التعدد بل هو محمول على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر كما سنبينه .
وذهب بعضهم إلى أن الإسراء كان في اليقظة والمعراج كان في المنام ، أو أن الاختلاف في كونه يقظة أو مناما خاص بالمعراج لا بالإسراء ، ولذلك لما أخبر به قريشا كذبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه ولم يتعرضوا للمعراج ، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فلو وقع المعراج في اليقظة لكان ذلك أبلغ في الذكر ، فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع مع كونه شأنه أعجب وأمره أغرب من الإسراء بكثير دل على أنه كان مناما ، وأما الإسراء فلو كان مناما لما كذبوه ولا استنكروه لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس .
وقيل : كان الإسراء مرتين في اليقظة ، فالأولى رجع من بيت المقدس وفي صبيحته أخبر قريشا بما وقع ، والثانية أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من ليلته إلى السماء إلى آخر ما وقع ، ولم يقع لقريش في ذلك اعتراض ؛ لأن ذلك عندهم من جنس قوله : إن الملك يأتيه من السماء في أسرع من طرفة عين ، وكانوا يعتقدون استحالة ذلك مع قيام الحجة على صدقه بالمعجزات الباهرة ، لكنهم عاندوا في ذلك واستمروا على تكذيبه فيه ، بخلاف إخباره أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة ورجع ، فإنهم صرحوا بتكذيبه فيه فطلبوا منه نعت بيت المقدس لمعرفتهم به وعلمهم بأنه ما كان رآه قبل ذلك فأمكنهم استعلام صدقه في ذلك بخلاف المعراج ، ويؤيدوقوع المعراج عقب الإسراء في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم ، ففي أوله nindex.php?page=hadith&LINKID=889589أتيت بالبراق فركبت حتى أتيت بيت المقدس فذكر القصة إلى أن قال : " ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا " وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق " فلما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج " فذكر [ ص: 238 ] الحديث ، ووقع في أول حديث مالك بن صعصعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسري به فذكر الحديث ، فهو وإن لم يذكر الإسراء إلى بيت المقدس فقد أشار إليه وصرح به في روايته فهو المعتمد . واحتج من زعم أن الإسراء وقع مفردا بما أخرجه البزار nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني وصححه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في " الدلائل " من حديث شداد بن أوس قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=889590قلت : يا رسول الله ، كيف أسري بك ؟ قال : صليت صلاة العتمة بمكة فأتاني جبريل بدابة فذكر الحديث في مجيئه بيت المقدس وما وقع له فيه ، قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=889591ثم انصرف بي ، فمررنا بعير لقريش بمكان كذا فذكره قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=889592ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة وفي حديث أم هانئ عند ابن إسحاق وأبي يعلى نحو ما في حديث أبي سعيد هذا ، فإن ثبت أن المعراج كان مناما على ظاهر رواية شريك عن أنس فينتظم من ذلك أن الإسراء وقع مرتين : مرة على انفراده ومرة مضموما إليه المعراج وكلاهما في اليقظة ، والمعراج وقع مرتين مرة في المنام على انفراده توطئة وتمهيدا ، ومرة في اليقظة مضموما إلى الإسراء . وأما كونه قبل البعث فلا يثبت ، ويأتي تأويل ما وقع في رواية شريك إن شاء الله تعالى .
ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره : كان الإسراء في النوم واليقظة ، ووقع بمكة والمدينة . فإن كان يريد تخصيص المدينة بالنوم ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب فيحتمل ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج وفرضت فيه الصلوات في اليقظة بمكة والآخر في المنام بالمدينة ، وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء في المنام تكرر في المدينة النبوية ، وفي الصحيح حديث سمرة الطويل الماضي في الجنائز ، وفي غيره حديث عبد الرحمن بن سمرة الطويل ، وفي الصحيح حديث ابن عباس في رؤياه الأنبياء ، وحديث ابن عمر في ذلك وغير ذلك ، والله أعلم .
قوله : ( سبحان ) أصلها للتنزيه وتطلق في موضع التعجب ، فعلى الأول المعنى تنزه الله عن أن يكون رسوله كذابا ، وعلى الثاني عجب الله عباده بما أنعم به على رسوله ، ويحتمل أن تكون بمعنى الأمر أي سبحوا الذي أسرى .
قوله : ( أسرى ) مأخوذ من السرى وهو سير الليل ، تقول : أسرى وسرى إذا سار ليلا بمعنى ، هذا قول الأكثر ، وقال الحوفي : أسرى : سار ليلا ، وسرى سار نهارا ، وقيل : أسرى سار من أول الليل ، وسرى سار من آخره وهذا أقرب . والمراد بقوله : أسرى بعبده أي جعل البراق يسري به كما يقال : أمضيت كذا أي جعلته يمضي ، وحذف المفعول لدلالة السياق عليه ، ولأن المراد ذكر المسرى به لا ذكر الدابة ، والمراد بقوله : بعبده محمد عليه الصلاة والسلام اتفاقا والضمير لله تعالى والإضافة للتشريف ، وقوله " ليلا " ظرف للإسراء وهو للتأكيد ، وفائدته رفع [ ص: 239 ] توهم المجاز ؛ لأنه قد يطلق على سير النهار أيضا ، ويقال : بل هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه ، والعرب تقول : سرى فلان ليلا : إذا سار بعضه ، وسرى ليلة : إذا سار جميعها ، ولا يقال أسرى إلا إذا وقع سيره في أثناء الليل ، وإذا وقع في أوله يقال : أدلج ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل : فأسر بعبادي ليلا أي من وسط الليل .
قوله : ( سمعت nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله ) كذا في رواية الزهري عن أبي سلمة وخالفه عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة فقال : " عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة " أخرجه مسلم ، وهو محمول على أن لأبي سلمة فيه شيخين ؛ لأن في رواية عبد الله بن الفضل زيادة ليست في رواية الزهري . قوله : ( لما كذبني ) في رواية الكشميهني " كذبتني " بزيادة مثناة وكلاهما جائز ، وقد وقع بيان ذلك في طرق أخرى : فروى nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في " الدلائل " من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن أبي سلمة قال : " افتتن ناس كثير - يعني عقب الإسراء - فجاء ناس إلى أبي بكر فذكروا له فقال : أشهد أنه صادق . فقالوا : وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة ؟ قال : نعم ، إني أصدقه بأبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء . قال : فسمي بذلك الصديق " قال : سمعت جابر يقول فذكر الحديث .