قوله : ( بينا الناس بقباء ) بالمد والصرف وهو الأشهر ، ويجوز فيه القصر وعدم الصرف وهو يذكر ويؤنث : موضع معروف ظاهر المدينة ، والمراد هنا مسجد أهل قباء ففيه مجاز الحذف ، واللام في الناس للعهد الذهني والمراد أهل قباء ومن حضر معهم .
قوله : ( في صلاة الصبح ) ولمسلم " في صلاة الغداة " وهو أحد أسمائها ، وقد نقل بعضهم كراهية تسميتها بذلك . وهذا فيه مغايرة لحديث البراء المتقدم فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر ، والجواب أن لا منافاة بين الخبرين ; لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة وذلك في حديث البراء ، والآتي إليهم بذلك nindex.php?page=showalam&ids=4582عباد بن بشر أو ابن نهيك كما تقدم ، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر ، ولم يسم الآتي بذلك إليهم ، وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه nindex.php?page=showalam&ids=4582عباد بن بشر ففيه نظر ; لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر ، فإن كان ما نقلوا محفوظا فيحتمل أن يكون عباد أتى بني حارثة أولا في وقت العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في وقت الصبح . ومما يدل على تعددهما أن مسلما روى من حديث أنس nindex.php?page=hadith&LINKID=883943 " أن رجلا من بني سلمة مر وهم ركوع في صلاة الفجر " فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة ، وبنو سلمة غير بني حارثة .
قوله : ( قد أنزل عليه الليلة قرآن ) فيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي والليلة التي تليه مجازا ، والتنكير في قوله " قرآن " لإرادة البعضية ، والمراد قوله : قد نرى تقلب وجهك في السماء الآيات .
قوله : ( وقد أمر ) فيه أن ما يؤمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - يلزم أمته ، وأن أفعاله يتأسى بها كأقواله حتى يقوم دليل الخصوص .
[ ص: 604 ] قوله : ( فاستقبلوها ) بفتح الموحدة للأكثر أي فتحولوا إلى جهة الكعبة ، وفاعل " استقبلوها " المخاطبون بذلك وهم أهل قباء . وقوله : ( وكانت وجوههم . . . إلخ ) تفسير من الراوي للتحول المذكور ، ويحتمل أن يكون فاعل استقبلوها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ، وضمير " وجوههم " لهم أو لأهل قباء على الاحتمالين .
وفي رواية الأصيلي فاستقبلوها بكسر الموحدة بصيغة الأمر ، ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران ، وعوده إلى أهل قباء أظهر ، ويرجح رواية الكسر أنه عند المصنف في التفسير من رواية nindex.php?page=showalam&ids=16036سليمان بن بلال عن nindex.php?page=showalam&ids=16430عبد الله بن دينار في هذا الحديث بلفظ " وقد أمر أن يستقبل الكعبة ، ألا فاستقبلوها " فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن الذي بعده أمر لا أنه بقية الخبر الذي قبله ، والله أعلم .
ووقع بيان كيفية التحول في حديث ثويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم وقد ذكرت بعضه قريبا وقالت فيه " فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام " . قلت : وتصويره أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد ; لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس ، وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف ، ولما تحول الإمام تحولت الرجال حتى صاروا خلفه وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال ، وهذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة فيحتمل أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام ، ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة ، أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت مفرقة . والله أعلم .
وفي هذا الحديث أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه ; لأن أهل قباء لم يؤمروا بالإعادة مع كون الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم تلك بصلوات . واستنبط منه nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك فالفرض غير لازم له . وفيه جواز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنهم لما تمادوا في الصلاة ولم يقطعوها دل على أنه رجح عندهم التمادي والتحول على القطع والاستئناف ، ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد ، كذا قيل ، وفيه نظر لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نص سابق . ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مترقبا التحول المذكور فلا مانع أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحول . وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرر بطريق العلم به ; لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع لمشاهدتهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جهته ، ووقع تحولهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد ، وأجيب بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدمات أفادت القطع عندهم بصدق ذلك المخبر فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم ، وقيل : كان النسخ بخبر الواحد جائزا في زمنه - صلى الله عليه وسلم - مطلقا وإنما منع بعده ، ويحتاج إلى دليل . وفيه جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها ، وأن استماع المصلي لكلام من ليس في الصلاة لا يفسد صلاته .
وقد تقدم الكلام على تعيين الوقت الذي حولت فيه القبلة في الكلام على حديث البراء في كتاب الإيمان ، ووجه تعلق حديث ابن عمر بترجمة الباب أن دلالته على الجزء الأول منها من قوله " أمر أن يستقبل الكعبة " وعلى الجزء الثاني من حيث إنهم صلوا في أول تلك الصلاة إلى القبلة المنسوخة جاهلين بوجوب التحول عنها وأجزأت عنهم مع ذلك ولم يؤمروا بالإعادة فيكون حكم الساهي كذلك ، لكن يمكن أن يفرق بينهما بأنالجاهل مستصحب للحكم الأول مغتفر في حقه ما لا يغتفر في حق الساهي ; لأنه إنما يكون عن حكم استقر عنده وعرفه .