باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر وقال إبراهيم التيمي ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون
قوله : ( باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ) هذا الباب معقود للرد على المرجئة خاصة وإن كان أكثر ما مضى من الأبواب قد تضمن الرد عليهم ، لكن قد يشركهم غيرهم من أهل البدع في شيء منها ، بخلاف هذا . والمرجئة بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة ويجوز تشديدها بلا همز نسبوا إلى الإرجاء وهو التأخير ; لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان فقالوا : الإيمان هو التصديق بالقلب فقط ولم يشترط جمهورهم النطق ، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال وقالوا : لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا ، ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول . ومناسبة إيراد هذه الترجمة عقب التي قبلها من جهة أن اتباع الجنازة مظنة لأن يقصد بها مراعاة أهلها أو مجموع الأمرين ، وسياق الحديث يقتضي أن الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتسابا أي : خالصا ، فعقبه بما يشير إلى أنه قد يعرض للمرء ما يعكر على قصده الخالص فيحرم به الثواب الموعود وهو لا يشعر . فقوله " أن يحبط عمله " أي : يحرم ثواب عمله لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه . وبهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون : إن السيئات يبطلن الحسنات ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبو بكر بن العربي في الرد عليهم : القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان : أحدهما إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان ، وذلك في الجهتين إذهاب حقيقي . ثانيهما إحباط الموازنة إذا جعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة ، فمن رجحت حسناته نجا ، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة : إما أن يغفر له وإما أن يعذب . فالتوقيف إبطال ما ; لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها ، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار ، ففي كل منهما [ ص: 136 ] إبطال نسبي أطلق عليه اسم الإحباط مجازا ، وليس هو إحباط حقيقة لأنه إذا أخرج من النار وأدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله ، وهذا بخلاف قول الإحباطية الذين سووا بين الإحباطين وحكموا على العاصي بحكم الكافر ، وهم معظم القدرية . والله الموفق .
قوله : ( وقال إبراهيم التيمي ) هو من فقهاء التابعين وعبادهم ، وقوله " مكذبا " يروى بفتح الذال يعني خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفا لقولي فيقول : لو كنت صادقا ما فعلت خلاف ما تقول ، وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس . ويروى بكسر الذال وهي رواية الأكثر ، ومعناه أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل . وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل فقال كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون فخشي أن يكون مكذبا أي : مشابها للمكذب ، وهذا التعليق وصله المصنف في تاريخه عن أبي نعيم nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل في الزهد عن ابن مهدي كلاهما عن nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن إبراهيم المذكور .
قوله : ( وقال nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة . . . إلخ ) هذا التعليق وصله nindex.php?page=showalam&ids=12211ابن أبي خيثمة في تاريخه ، لكن أبهم العدد . وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له ، وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصرا كما هنا ، والصحابة الذين أدركهم nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء nindex.php?page=showalam&ids=54وأم سلمة والعبادلة الأربعة nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة وعقبة بن الحارث nindex.php?page=showalam&ids=83والمسور بن مخرمة ، فهؤلاء ممن سمع منهم ، وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء nindex.php?page=showalam&ids=8كعلي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=15973وسعد بن أبي وقاص ، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال ، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع ، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص . ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم ، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم . وقال ابن بطال : إنما خافوا لأنهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره ، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت .
قوله : ( ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل ) أي لا يجزم أحد منهم بعدم عروض النفاق لهم كما يجزم بذلك في إيمان جبريل ، وفي هذا إشارة إلى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان ، خلافا للمرجئة القائلين بأن إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة . وقد روي في معنى أثر nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة حديث عن عائشة مرفوع رواه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في الأوسط لكن إسناده ضعيف .
قوله : ( ويذكر عن الحسن ) هذا التعليق وصله nindex.php?page=showalam&ids=14907جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة . وقد يستشكل ترك nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري الجزم به مع صحته عنه ، وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ رحمه الله ، وهي : أن nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد ، بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا ، لما علم من الخلاف في ذلك ، فهنا كذلك وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه فقال النووي " ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق " . يعني الله تعالى . قال الله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان . وقال : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) . وكذا شرحه ابن التين وجماعة من المتأخرين ، وقرره الكرماني هكذا ، فقال : ما خافه أي : ما خاف من الله ، فحذف الجار وأوصل الفعل إليه . قلت : وهذا الكلام وإن كان صحيحا لكنه خلاف مراد [ ص: 137 ] المصنف ومن نقل عنه . والذي أوقعهم في هذا هو الاختصار . وإلا فسياق كلام nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري يبين أنه إنما أراد النفاق ، فلنذكره . قال nindex.php?page=showalam&ids=14907جعفر الفريابي : حدثنا قتيبة حدثنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن . وكان يقول : من لم يخف النفاق فهو منافق . وقال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان : حدثنا روح بن عبادة حدثنا هشام سمعت الحسن يقول : والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق ، وما أمنه إلا منافق ، انتهى . وهذا موافق لأثر nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة الذي قبله وهو قوله " كلهم يخاف النفاق على نفسه " . والخوف من الله وإن كان مطلوبا محمود لكن سياق الباب في أمر آخر ، والله أعلم .
قوله ( على التقاتل ) كذا في أكثر الروايات وهو المناسب لحديث الباب ، وفي بعضها ( على النفاق ) ومعناه صحيح وإن لم تثبت به الرواية .
قوله : ( nindex.php?page=showalam&ids=15914زبيد ) قدم أنه بالزاي والموحدة مصغرا ، وهو ابن الحارث اليامي بياء تحتانية وميم خفيفة ، يكنى أبا عبد الرحمن ، وقد روى هذا الحديث شعبة أيضا عن nindex.php?page=showalam&ids=17152منصور بن المعتمر وهو عند المصنف في الأدب ، وعن الأعمش وهو عند مسلم ، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان من طريق سليمان بن حرب عن شعبة عن الثلاثة جميعا عن أبي وائل ، وقال ابن منده : لم يختلف في رفعه عن زبيد واختلف على الآخرين . ورواه عن زبيد غير شعبة أيضا عند مسلم وغيره .
قوله : ( سألت أبا وائل عن المرجئة ) أي : عن مقالة المرجئة ، nindex.php?page=showalam&ids=14724ولأبي داود الطيالسي عن شعبة عن زبيد قال : لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فذكرت ذلك له . فظهر من هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم ، وأن ذلك كان حين ظهورهم ، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين ، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة ، وقد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث nindex.php?page=showalam&ids=15238عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن [ ص: 138 ] أبيه أخرجه الترمذي مصححا ولفظه nindex.php?page=hadith&LINKID=883476قتال المسلم أخاه كفر ، وسبابه فسوق ، ورواه جماعة عن nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود موقوفا ومرفوعا ، ورواه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص أيضا مرفوعا ، فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرد به .
قوله : ( سباب ) هو بكسر السين وتخفيف الموحدة ، وهو مصدر يقال : سب يسب سبا وسبابا ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=12352إبراهيم الحربي : السباب أشد من السب ، وهو أن يقول الرجل ما فيه وما ليس فيه يريد بذلك عيبه . وقال غيره : السباب هنا مثل القتال فيقتضي المفاعلة ، وقد تقدم بأوضح من هذا في باب المعاصي من أمر الجاهلية .
قوله : ( المسلم ) كذا في معظم الروايات ، ولأحمد عن غندر عن شعبة " المؤمن " ، فكأنه رواه بالمعنى .
قوله : ( فسوق ) الفسق في اللغة الخروج ، وفي الشرع : الخروج عن طاعة الله ورسوله ، وهو في عرف الشرع أشد من العصيان ، قال الله تعالى وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق ، ومقتضاه الرد على المرجئة . وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم كأنه قال : كيف تكون مقالتهم حقا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا ؟!
قوله : ( وقتاله كفر ) إن قيل : هذا وإن تضمن الرد على المرجئة لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي . فالجواب : إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك ، ولا متمسك للخوارج فيه ; لأن ظاهره غير مراد ، لكن لما كان القتال أشد من السباب - لأنه مفض إلى إزهاق الروح - عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر ، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة ، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير ، معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة ، مثل حديث الشفاعة ، ومثل قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقد أشرنا إلى ذلك في باب المعاصي من أمر الجاهلية . أو أطلق عليه الكفر لشبهه به ; لأن قتال المؤمن من شأن الكافر . وقيل : المراد هنا الكفر اللغوي وهو التغطية ; لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه ، فلما قاتله كان كأنه غطى على هذا الحق ، والأولان أليق بمراد المصنف وأولى بالمقصود من التحذير من فعل ذلك والزجر عنه بخلاف الثالث . وقيل أراد بقوله كفر أي قد يئول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر ، وهذا بعيد ، وأبعد منه حمله على المستحل لذلك لأنه لا يطابق الترجمة ، ولو كان مرادا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال ، فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضا . ثم ذلك محمول على من فعله بغير تأويل . وقد بوب عليه المصنف في كتاب المحاربين كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ومثل هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=hadith&LINKID=883477لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ففيه هذه الأجوبة ، وسيأتي في كتاب الفتن ، ونظيره قوله تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض بعد قوله : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم الآية . فدل على أن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظا . وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=883478لعن المسلم كقتله فلا يخالف هذا الحديث ; لأن المشبه به فوق المشبه ، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير : هذا في العرض ، وهذا في النفس . والله أعلم . وقد ورد لهذا المتن سبب ذكرته في أول كتاب الفتن في أواخر الصحيح .