[ ص: 154 ] قوله : ( باب فضل من استبرأ لدينه ) كأنه أراد أن يبين أن الورع من مكملات الإيمان ، فلهذا أورد حديث الباب في أبواب الإيمان .
قوله : ( حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=15926زكرياء ) هو ابن أبي زائدة ، واسم أبي زائدة خالد بن ميمون الوادعي .
قوله : ( عن nindex.php?page=showalam&ids=14577عامر ) هو الشعبي الفقيه المشهور . ورجال الإسناد كوفيون . وقد دخل النعمان الكوفة وولي إمرتها . ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي حريز - وهو بفتح الحاء المهملة وآخره زاي - عن الشعبي أن النعمان بن بشير خطب به بالكوفة ، وفي رواية لمسلم أنه خطب به بحمص . ويجمع بينهما بأنه سمع منه مرتين ، فإنه ولي إمرة البلدين واحدة بعد أخرى ، وزاد مسلم nindex.php?page=showalam&ids=13779والإسماعيلي من طريق زكرياء فيه " وأهوى النعمان بإصبعه إلى أذنيه يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " وفي هذا رد لقول الواقدي ومن تبعه إن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وللنعمان ثماني سنين ، وزكرياء موصوف بالتدليس ، ولم أره في الصحيحين وغيرهما من روايته عن الشعبي إلا معنعنا ثم وجدته في فوائد ابن أبي الهيثم من طريق nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون عن زكرياء حدثنا الشعبي ، فحصل الأمن من تدليسه >[1] .
( فائدة ) : ادعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير النعمان بن بشير ، فإن أراد من وجه صحيح فمسلم ، وإلا فقد رويناه من حديث ابن عمر وعمار في الأوسط nindex.php?page=showalam&ids=14687للطبراني ، ومن حديث ابن عباس في الكبير له ، ومن حديث واثلة في الترغيب للأصبهاني ، وفي أسانيدها مقال . وادعى أيضا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي ، وليس كما قال ، فقد رواه عن النعمان أيضا خيثمة بن عبد الرحمن عند أحمد وغيره ، nindex.php?page=showalam&ids=16490وعبد الملك بن عمير عند أبي عوانة وغيره ، nindex.php?page=showalam&ids=16052وسماك بن حرب عند nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني ; لكنه مشهور عن الشعبي رواه عنه جمع جم من الكوفيين ، ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عون ، وقد ساق nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري إسناده في البيوع ولم يسق لفظه ، وساقه أبو داود ، وسنشير إلى ما فيه من فائدة إن شاء الله تعالى .
قوله : ( وبينهما مشبهات ) بوزن مفعلات بتشديد العين المفتوحة وهي رواية مسلم ، أي : شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين . وفي رواية الأصيلي " مشتبهات " بوزن مفتعلات بتاء مفتوحة وعين خفيفة مكسورة وهي رواية ابن ماجه ، وهو لفظ ابن عون ، والمعنى أنها موحدة اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين ، ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري فيه بلفظ " وبينهما متشابهات " .
قوله : ( لا يعلمها كثير من الناس ) أي : لا يعلم حكمها ، وجاء واضحا في رواية الترمذي بلفظ " لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام " ومفهوم قوله " كثير " أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس وهم المجتهدون ، فالشبهات على هذا في حق غيرهم ، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين .
[ ص: 155 ] قوله : ( فمن اتقى المشبهات ) أي : حذر منها ، والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير التي قبلها لكن عند مسلم nindex.php?page=showalam&ids=13779والإسماعيلي " الشبهات " بالضم جمع شبهة .
قوله : ( استبرأ ) بالهمز بوزن استفعل من البراءة ، أي : برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه ; لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه ، وفيه دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه ، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة .
قوله ( ومن وقع في الشبهات ) فيها أيضا ما تقدم من اختلاف الرواة . واختلف في حكم الشبهات فقيل التحريم ، وهو مردود . وقيل الكراهة ، وقيل الوقف . وهو كالخلاف فيما قبل الشرع . وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء : أحدها تعارض الأدلة كما تقدم ، ثانيها اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى ، ثالثها أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك ، رابعها أن المراد بها المباح ، ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه ، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى ، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته ، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج . ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول : المكروه عقبة بين العبد والحرام ، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام ، والمباح عقبة بينه وبين المكروه ، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه . وهو منزع حسن . ويؤيده رواية nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها ولم يسق لفظها فيها من الزيادة " nindex.php?page=hadith&LINKID=883513اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال ، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه ، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه " والمعنى أن الحلال حيث يخشى أن يئول فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه ، كالإكثار مثلا من الطيبات ، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضي إلى بطر النفس ، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية ، وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان . والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول على ما سأذكره ، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا ، ويختلف ذلك باختلاف الناس : فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل ، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال . ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة ، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه . أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه . ووقع عند المصنف في البيوع من رواية أبي فروة عن الشعبي في هذا الحديث " nindex.php?page=hadith&LINKID=883514فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان " وهذا يرجح الوجه الأول كما أشرت إليه .
( تنبيه ) : استدل به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي الاستدلال بذلك نظر ، إلا إن أراد به أنه مجمل في حق بعض دون بعض ، أو أراد الرد على منكري القياس فيحتمل ما قال . والله أعلم .
قوله : ( كراع يرعى ) هكذا في جميع نسخ nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري محذوف جواب الشرط إن أعربت " من " شرطية وقد ثبت المحذوف في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري فيه فقال " ومن وقع في الشبهات وقع في [ ص: 156 ] الحرام ، كالراعي يرعى " ويمكن إعراب " من " في سياق nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري موصولة فلا يكون فيه حذف ، إذ التقدير والذي وقع في الشبهات مثل راع يرعى ، والأول أولى لثبوت المحذوف في صحيح مسلم وغيره من طريق زكريا التي أخرجه منها المؤلف ، وعلى هذا فقوله " كراع يرعى " جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل للتنبيه بالشاهد على الغائب . والحمى المحمي ، أطلق المصدر على اسم المفعول . وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة ، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة ، فمثل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو مشهور عندهم ، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه ، فبعده أسلم له ولو اشتد حذره . وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه ، فلا يأمن أن تنفرد الفاذة فتقع فيه بغير اختياره ، أو يمحل المكان الذي هو فيه ويقع الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه . فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقا ، وحماه محارمه .
( تنبيه ) : ادعى بعضهم أن التمثيل من كلام الشعبي ، وأنه مدرج في الحديث ، حكى ذلك أبو عمرو الداني ، ولم أقف على دليله إلا ما وقع عند ابن الجارود nindex.php?page=showalam&ids=13779والإسماعيلي من رواية ابن عون عن الشعبي ، قال ابن عون في آخر الحديث : لا أدري المثل من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول الشعبي . قلت : وتردد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجا ; لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه ، فلا يقدح شك بعضهم فيه . وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة - كأبي فروة عن الشعبي - لا يقدح فيمن أثبته ; لأنهم حفاظ . ولعل هذا هو السر في حذف nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري قوله " nindex.php?page=hadith&LINKID=883515وقع في الحرام " ليصير ما قبل المثل مرتبطا به فيسلم من دعوى الإدراج . ومما يقوي عدم الإدراج رواية nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان الماضية ، وكذا ثبوت المثل مرفوعا في رواية ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=56وعمار بن ياسر أيضا .
قوله : ( nindex.php?page=hadith&LINKID=883516ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ) سقط " في أرضه " من رواية المستملي ، وثبتت الواو في قوله " ألا وإن حمى الله " في رواية غير أبي ذر ، والمراد بالمحارم فعل المنهي المحرم أو ترك المأمور الواجب ، ولهذا وقع في رواية أبي فروة التعبير بالمعاصي بدل المحارم . وقوله " ألا " للتنبيه على صحة ما بعدها ، وفي إعادتها وتكريرها دليل على عظم شأن مدلولها .
قوله ( مضغة ) أي : قدر ما يمضغ ، وعبر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية ، وسمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور ، أو لأنه خالص ما في البدن ، وخالص كل شيء قلبه ، أو لأنه وضع في الجسد مقلوبا . وقوله " إذا صلحت " و " إذا فسدت " هو بفتح عينهما وتضم في المضارع ، وحكى الفراء الضم في ماضي صلح ، وهو يضم وفاقا إذا صار له الصلاح هيئة لازمة لشرف ونحوه ، والتعبير بإذا لتحقق الوقوع غالبا ، وقد تأتي بمعنى إن كما هنا . وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن ، وبصلاح الأمير تصلح الرعية ، وبفساده تفسد . وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب ، والحث على صلاحه ، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرا فيه . والمراد المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه . ويستدل به على أن العقل في القلب ، ومنه قوله تعالى فتكون لهم قلوب يعقلون بها . وقوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب . قال المفسرون : أي : عقل . وعبر عنه بالقلب لأنه محل استقراره .
[ ص: 157 ] ( فائدة ) : لم تقع هذه الزيادة التي أولها " nindex.php?page=hadith&LINKID=883517ألا وإن في الجسد مضغة " إلا في رواية الشعبي ، ولا هي في أكثر الروايات عن الشعبي ، إنما تفرد بها في الصحيحين زكريا المذكور عنه ، وتابعه مجاهد عند أحمد ، ومغيرة وغيره عند nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني . وعبر في بعض رواياته عن الصلاح والفساد بالصحة والسقم ، ومناسبتها لما قبلها بالنظر إلى أن الأصل في الاتقاء والوقوع هو ما كان بالقلب ; لأنه عماد البدن . وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبى داود ، وفيه البيتان المشهوران وهما :
عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير البريه اترك المشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه
والمعروف عن أبي داود عد " nindex.php?page=hadith&LINKID=883518ما نهيتكم عنه فاجتنبوه . . . الحديث " بدل " ازهد فيما في أيدي الناس " وجعله بعضهم ثالث ثلاثة حذف الثاني ، وأشار nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام ، قال القرطبي : لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره ، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب ، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه . والله المستعان .