صفحة جزء
باب ما جاء في الانتفاع بالرهن

1254 حدثنا أبو كريب ويوسف بن عيسى قالا حدثنا وكيع عن زكريا عن عامر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يركب إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب نفقته قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عامر الشعبي عن أبي هريرة وقد روى غير واحد هذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحق وقال بعض أهل العلم ليس له أن ينتفع من الرهن بشيء
[ ص: 385 ] أي : بالشيء المرهون .

قوله : ( الظهر يركب ) بصيغة المجهول ، وكذلك يشرب ، وهو خبر بمعنى الأمر ، والمراد من الظهر ظهر الدابة ، وقيل الظهر الإبل القوي يستوي فيه الواحد والجمع ( ولبن الدر ) بفتح المهملة وتشديد الراء مصدر بمعنى الدارة أي : ذات الضرع ، وقوله لبن الدر من إضافة الشيء إلى نفسه كقوله تعالى وحب الحصيد قاله الحافظ ( وعلى الذي يركب ويشرب نفقته ) أي : كائنا من كان ، هذا ظاهر الحديث ، وفيه حجة لمن قال يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن إذا قام بمصلحته ، ولو لم يأذن له المالك ، وهو قول أحمد وإسحاق وطائفة قالوا : أينتفع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب بقدر النفقة ، ولا ينتفع بغيرهما لمفهوم الحديث ، وأما دعوى الإجمال فقد دل بمنطوقه على إباحة الانتقاع في مقابلة الإنفاق ، وهذا يختص بالمرتهن ؛ لأن الحديث ، وإن كان مجملا لكنه يختص بالمرتهن ؛ لأن انتفاع الراهن بالمرهون لكونه مالك رقبته لا لكونه متفقا عليه ، بخلاف المرتهن : وذهب الجمهور إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء ، وتأولوا الحديث لكونه ورد على خلاف القياس من وجهين : أحدهما التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه ، والثاني تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة ، قال ابن عبد البر : هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يرده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها ، ويدل على نسخه حديث ابن عمر : لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه رواه البخاري . انتهى ، وقال الشافعي يشبه أن يكون المراد من رهن ذات در ، وظهر لم يمنع الراهن من درها وظهرها ، فهي محلوبة ومركوبة له كما كانت قبل الرهن : واعترضه الطحاوي بما رواه هشيم عن زكريا في هذا الحديث ، ولفظه : إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها . الحديث ، قال : فتعين أن المراد المرتهن لا الراهن ، ثم أجاب عن الحديث بأنه محمول على أنه كان قبل تحريم الربا فلما حرم الربا ارتفع ما أبيح في هذا للمرتهن وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، والتاريخ في هذا متعذر والجمع بين الأحاديث ممكن ، وقد ذهب الأوزاعي والليث وأبو [ ص: 386 ] ثور إلى حمله على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون فيباح حينئذ للمرتهن الإنفاق على الحيوان حفظا لحياته ولابقاء المالية فيه ، وجعل له في مقابلة نفقته الانتفاع بالركوب ، أو بشرب اللبن بشرط ألا يزيد قدر ذلك ، أو قيمته على قدر علفه ، وهي من جملة مسائل الظفر ، كذا أفاد الحافظ في فتح الباري . قلت : حمل الحديث على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون خلاف الظاهر ، وقال في سبل السلام : إنه تقييد للحديث بما لم يقيد به الشارع ، وأما قول ابن عبد البر يدل على نسخه حديث ابن عمر : لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه ، ففيه ما قال الحافظ في جواب الطحاوي من أن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، والتاريخ في هذا متعذر ، والجمع بين الحديثين ممكن ، وقال في السبل : أما النسخ فلا بد له من معرفة التاريخ على أنه لا يحمل عليه إلا إذا تعذر الجمع ، ولا تعذر هنا ؛ إذ يخص عموم النهي بالمرهونة . انتهى ، وأما قوله بأن الحديث يرده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة ففيه أن هذا الحديث أيضا أصل من أصول الشريعة ، والجمع بين هذا الأصل وتلك الأصول المجمع عليها وتلك الآثار الثابتة التي أشار إليها ممكن ، وأما قول الجمهور بأن الحديث ورد على خلاف القياس من وجهين إلخ . ففيه ما قال الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين : ومن ذلك قول بعضهم : إن الحديث الصحيح ، وهو قوله الرهن مركوب ومحلوب وعلى الذي يركب ويحلب النفقة على خلاف القياس ، فإنه جوز لغير المالك أن يركب الدابة ويحلبها وضمنه ذلك بالنفقة ، فهو مخالف للقياس من وجهين ، والصواب ما دل عليه الحديث ، وقواعد الشريعة وأصولها لا تقتضي سواه ؛ فإن الرهن إذا كان حيوانا محترما في نفسه بحق الله سبحانه ، وكذلك فيه حق الملك ، وللمرتهن حق الوثيقة ، وقد شرع الله سبحانه الرهن مقبوضا بيد المرتهن فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلا ، وإن مكن صاحبه من ركوبه خرج عن يده وتوثيقه ، وإن كلف صاحبه كل وقت أن يأتي يأخذ لبنه شق عليه غاية المشقة ، ولا سيما مع بعد المسافة ، وإن كلف المرتهن بيع اللبن وحفظ ثمنه للراهن شق عليه . فكان بمقتضى العدل والقياس ، ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب ، ويعوض عنهما بالنفقة ، ففي هذا جمع بين المصلحتين وتوفير الحقين ، فإن نفقة الحيوان واجبة على صاحبه ، والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا ، وله فيه حق فله أن يرجع ببدله ، ومنفعة الركوب والحلب يصح أن يكونا بدلا ، فأخذها خير من أن تهدر على صاحبها باطلا ، ويلزم بعوض ما أنفق المرتهن ، وإن قيل للمرتهن : لا رجوع لك كان فيه إضرار به ، ولم تسمح نفسه بالنفقة على الحيوان ، فكان ما جاءت به الشريعة هو الغاية التي ما فوقها في العدل والحكمة والمصلحة شيء يختار ، ثم ذكر ابن القيم كلاما حسنا مفيدا من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى الإعلام ، وقال القاضي الشوكاني في النيل : ويجاب عن دعوى مخالفة هذا الحديث الصحيح للأصول بأن السنة الصحيحة من جملة الأصول فلا ترد إلا بمعارض أرجح منها [ ص: 387 ] بعد تعذر الجمع ، وعن حديث ابن عمر بأنه عام وحديث الباب خاص فيبنى العام على الخاص ، والنسخ لا يثبت إلا بدليل يقضي بتأخر الناسخ على وجه يتعذر معه الجمع لا بمجرد الاحتمال مع الإمكان . انتهى كلام الشوكاني ، فالحاصل أن حديث الباب صحيح محكم ليس بمنسوخ ، ولا يرده أصل من أصول الشريعة ، ولا أثر من الآثار الثابتة ، وهو دليل صريح في جواز الركوب على الدابة المرهونة بنفقتها وشرب لبن الدر المرهونة بنفقتها ، وهو قول أحمد وإسحاق كما ذكره الترمذي ، وأما قياس الأرض المرهونة على الدابة المرهونة والدر المرهونة فقياس مع الفارق ، هذا ما عندي ، والله تعالى أعلم . قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) أخرجه الجماعة إلا مسلما والنسائي . قوله : ( والعمل على هذا عند بعض أهل العلم ، وهو قول أحمد وإسحاق ) قالا : ينتفع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب بقدر النفقة ، ولا ينتفع بغيرهما ، لمفهوم الحديث ، قالالطيبي : وقال أحمد وإسحاق : للمرتهن أن ينتفع من المرهون بحلب وركوب دون غيرهما ويقدر بقدر النفقة ، واحتجا بهذا الحديث ، ووجه التمسك به أن يقال : دل الحديث بمنطوقه على إباحة الانتفاع في مقابلة الإنفاق وانتفاع الراهن ليس كذلك ؛ لأن إباحته مستفادة له من تملك الرقبة لا من الإنفاق وبمفهومه على أن جواز الانتفاع مقصور على هذين النوعين من المنفعة ، وجواز الانتفاع غير مقصور عليهما . فإذا المراد أن للمرتهن أن ينتفع بالركوب والحلب من المرهون بالنفقة ، وإنه إذا فعل ذلك لزمه النفقة . انتهى . قلت : قول أحمد وإسحاق هو الظاهر الموافق لحديث الباب ، وقد قال به طائفة أيضا كما عرفت في كلام الحافظ ، وقد قال بجواز انتفاع الركوب وشرب اللبن بقدر العلف إبراهيم النخعي أيضا ، قال الإمام البخاري في صحيحه : وقال المغيرة عن إبراهيم : تركب الضالة بقدر علفها ، والرهن مثله . انتهى ، قال الحافظ في الفتح : قوله والرهن مثله في الحكم المذكور ، وقد وصله سعيد بن منصور بالإسناد المذكور ولفظه : الدابة إذا كانت مرهونة تركب بقدر علفها ، وإذا كان لها لبن يشرب منه بقدر علفها ، ورواه حماد بن سلمة في جامعه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم ، ولفظه : إذا ارتهن شاة شرب المرتهن من لبنها بقدر ثمن علفها ، فإن استفضل من اللبن بعد ثمن العلف فهو ربا . انتهى . ( وقال بعض أهل العلم ليس له ) أي : للمرتهن ( أن ينتفع من الرهن ) ، أي : من الشيء المرهون ( بشيء ) أي : بشيء من الانتفاع ، وهو قول [ ص: 388 ] الجمهور ، واستدلوا بحديث أبي هريرة مرفوعا : لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه . رواه الشافعي والدارقطني ، وقال : هذا إسناد حسن متصل ، كذا في المنتقى ، قال الشوكاني : قوله له غنمه وعليه غرمه . فيه دليل لمذهب الجمهور ؛ لأن الشارع قد جعل الغنم والغرم للراهن ، ولكنه قد اختلف في وصله وإرساله ورفعه ووقفه ، وذلك مما يوجب عدم انتهاضه لمعارضة ما في صحيح البخاري ، وغيره . انتهى ، قلت حديث أبي هريرة الذي استدل به الجمهور قد بسط الكلام فيه الحافظ ابن حجر في التلخيص من شاء الوقوف عليه فليرجع إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية