قوله : ( فقالت يا أبا عائشة ) هو كنية مسروق ( ثلاث ) أي ثلاث كلمات ( فقد أعظم الفرية ) بكسر الفاء وسكون الراء ، أي الكذب ، يقال فرى الشيء يفريه فريا ، وافتراه يفتريه افتراء : إذا اختلقه ، وجمع الفرية فرى ( من زعم أن محمدا رأى ربه ) أي ليلة الإسراء ( فقد أعظم الفرية على الله ) هذا هو مذهب عائشة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ير الله سبحانه وتعالى ليلة الإسراء .
قال الحافظ : قد اختلف السلف في رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه ، فهبت عائشة nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود إلى إنكارها واختلف عن أبي ذر ، وذهب جماعة إلى إثباتها وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه . وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة وبه قال سائر أصحاب ابن عباس ، وجزم به كعب الأخبار nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري وصاحبه [ ص: 351 ] معمر وآخرون وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ثم اختلفوا . هل رآه بعينه أو بقلبه ؟ وعن أحمد كالقولين .
قال الحافظ : جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة ، فيجب حمل مطلقها على مقيدها فمن ذلك ما أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي بإسناد صحيح وصححه nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد . وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة بلفظ : إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ، الحديث . وأخرج ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس : هل رأى محمد ربه ، فأرسل إليه أن نعم . ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال رأى ربه بفؤاده مرتين ، وله من طريق عطاء عن ابن عباس قال : رآه بقلبه . وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضا عن ابن عباس قال : لم يره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعينه إنما رآه بقلبه .
هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب ، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان عالما بالله على الدوام بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما يخلق الرؤية بالعين لغيره ، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا ولو جرت العادة بخلقها في العين .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال : رأى محمد ربه . وعند مسلم من حديث أبي ذر : nindex.php?page=hadith&LINKID=755190أنه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك فقال : " نور أنى أراه " ، nindex.php?page=showalam&ids=12251ولأحمد عنه قال : " رأيت نورا " ، nindex.php?page=showalam&ids=13114ولابن خزيمة عنه قال : رآه بقلبه ولم يره بعينه . وبهذا يتبين مراد أبي ذر بذكره النور ، أي أن النور حال بين رؤيته له ببصره .
وقد رجح القرطبي في المفهم قول الوقف في هذه المسألة وعزاه لجماعة من المحققين وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع . وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل ، قال : وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي ، وجنح nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره ، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرتين : مرة بقلبه . وفيما أوردته من ذلك مقنع ، وممن أثبت الرؤية لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإمام أحمد ، فروى الخلال في كتاب السنة عن المروزي :
[ ص: 352 ] قلت لأحمد : إنهم يقولون إن عائشة قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، فبأي شيء يدفع قولها بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأيت ربي قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . . . . . . . . . . . . . . . أكبر من قولها . وقد أنكر صاحب الهدي على من زعم أن أحمد قال رأى ربه بعيني رأسه قال وإنما قال مرة : رأى محمد ربه ، وقال مرة : بفؤاده ، وحكى عنه بعض المتأخرين رآه بعيني رأسه ، وهذا من تصرف الحاكي فإن نصوصه موجودة . انتهى كلام الحافظ . والله يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وجه الاستدلال بها أن الله عز وجل نفى أن تدركه الأبصار ، وعدم الإدراك يقتضي نفي الرؤية ، وأجاب مثبتو الرؤية بأن المراد بالإدراك الإحاطة وهم يقولون بهذا أيضا وعدم الإحاطة لا يستلزم نفي الرؤية . وقال النووي : لم تنف عائشة الرؤية بحديث مرفوع ولو كان معها فيه حديث لذكرته وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الآية ، وقد خالفها غيرها من الصحابة ، والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا .