[ ص: 552 ] ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد
هم من ذرية
آدم بلا خلاف نعلمه ، ثم الدليل على ذلك ، ما ثبت في " الصحيحين " من طريق
الأعمش ، عن
أبي صالح ، عن
أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، قم فابعث بعث النار من ذريتك . فيقول : يا رب ، وما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة . فحينئذ يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد . قالوا : يا رسول الله ، أينا ذلك الواحد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشروا ; فإن منكم واحدا ، ومن يأجوج ومأجوج ألفا وفي رواية : فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509887أبشروا فإن فيكم أمتين ; ما كانتا في شيء إلا كثرتاه - أي غلبتاه - كثرة وهذا يدل على كثرتهم ، وأنهم أضعاف الناس مرارا عديدة . ثم هم من ذرية
نوح ; لأن الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده
نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله :
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] . وقال تعالى :
فأنجيناه وأصحاب السفينة [ العنكبوت : 15 ] . وقال :
وجعلنا ذريته هم الباقين [ الصافات : 77 ] . وتقدم في الحديث المروي في " المسند " و " السنن " : أن
نوحا ولد له ثلاثة ; وهم
سام ، وحام ، ويافث ، فسام أبو العرب ،
وحام أبو السودان
ويافث أبو الترك ،
فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك ، وهم مغل المغول ، وهم أشد بأسا وأكثر فسادا من هؤلاء ، ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم . وقد قيل : إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى
ذو القرنين السد وألجأ
يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه ، فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم فتركوا من ورائه . فلهذا قيل لهم : الترك .
ومن زعم أن
يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة
آدم حين احتلم ، فاختلطت بتراب فخلقوا من ذلك ، وأنهم ليسوا من حواء ، فهو قول حكاه الشيخ
أبو زكريا النواوي ، في " شرح مسلم " وغيره ، وضعفوه ، وهو جدير بذلك ; إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية
نوح ، بنص القرآن . وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا ; فمنهم من هو كالنخلة السحوق ، ومنهم من هو غاية في القصر ، ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى ، فكل هذه أقوال بلا دليل ، ورجم بالغيب بغير برهان .
[ ص: 554 ] والصحيح أنهم من بني
آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن وهذا فيصل في هذا الباب وغيره . وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفا ، فإن صح في خبر قلنا به ، وإلا فلا نرده ، إذ يحتمله العقل ، والنقل أيضا قد يرشد إليه . والله أعلم . بل قد ورد حديث مصرح بذلك ، إن صح ; قال
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني : حدثنا
عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني ، حدثنا
أبو مسعود أحمد بن الفرات ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14724أبو داود الطيالسي ، حدثنا
المغيرة ، عن
مسلم ، عن
أبي إسحاق ، عن
وهب بن جابر ، عن
عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509888إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معائشهم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا . وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل ، وتاريس ، ومنسك وهو حديث غريب جدا وإسناده ضعيف . وفيه نكارة شديدة . وأما الحديث الذي ذكره
ابن جرير في " تاريخه " ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم ليلة الإسراء فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته ، وأنه دعا تلك الأمم التي هناك ;
تاريس ،
وتاويل ،
ومنسك ، فأجابوه ، فهو حديث موضوع اختلقه
أبو نعيم عمر بن [ ص: 555 ] الصبح أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث . والله أعلم .
فإن قيل : فكيف دل الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة ، وأنهم في النار ، ولم يبعث إليهم رسل وقد قال الله تعالى :
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ؟ فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم ، والإعذار إليهم ، كما قال تعالى :
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فإن كانوا في الزمن الذي قبل بعث
محمد صلى الله عليه وسلم قد أتتهم رسل منهم ، فقد قامت على أولئك الحجة ، وإن لم يكن قد بعث الله إليهم رسلا ، فهم في
حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة . وقد دل الحديث المروي من طرق عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن من كان كذلك يمتحن في عرصات القيامة ، فمن أجاب الداعي دخل الجنة ، ومن أبى دخل النار . وقد أوردنا الحديث بطرقه وألفاظه ، وكلام الأئمة عليه في تفسيرنا عند قوله تعالى :
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقد حكاه الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة ، وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم ولا ينافي الإخبار عنهم بأنهم من أهل النار ; لأن الله يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يشاء من أمر الغيب ، وقد أطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء ، وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له ، فهم لا يجيبون الداعي يوم القيامة ، فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيبا للحق في الدنيا لو بلغهم
[ ص: 556 ] فيها ; لأن في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذبا في الدنيا ، فإيقاع الإيمان هناك لما يشاهد من الأهوال أولى وأحرى منه في الدنيا . والله أعلم . كما قال تعالى :
ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ السجدة : 12 ] . وقال تعالى :
أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ مريم : 38 ] . وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم ليلة الإسراء فلم يجيبوا ، فإنه حديث منكر ، بل موضوع ، وضعه
عمر بن الصبح .
وأما السد فقد تقدم أن
ذا القرنين بناه من الحديد والنحاس ، وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال ، فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ، ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم . قال البخاري :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509889وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : رأيت السد . قال : وكيف رأيته ؟ قال : مثل البرد المحبر . فقال : رأيته هكذا ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري معلقا بصيغة الجزم ، ولم أره مسندا من وجه متصل أرتضيه ، غير أن
ابن جرير رواه في " تفسيره " مرسلا فقال : حدثنا
بشر ، حدثنا
يزيد ، حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قال : ذكر لنا
أن رجلا قال : يا رسول [ ص: 557 ] الله ، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج . قال : انعته لي قال : كالبرد المحبر ، طريقة سوداء وطريقة حمراء . قال : قد رأيته .
وقد ذكر أن الخليفة
الواثق بعث رسلا من جهته ، وكتب لهم كتبا إلى الملوك يوصلونهم من بلاد إلى بلاد حتى ينتهوا إلى السد ، فيكشفوا عن خبره وينظروا كيف بناه
ذو القرنين ، وعلى أي صفة ، فلما رجعوا أخبروا عن صفته وأن فيه بابا عظيما وعليه أقفال ، وأنه بناء محكم شاهق منيف جدا ، وأن بقية اللبن الحديد والآلات في برج هناك ، وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد ، ومحلته في شرقي الأرض في جهة الشمال ، في زاوية الأرض الشرقية الشمالية . ويقال : إن بلادهم متسعة جدا ، وإنهم يقتاتون بأصناف من المعايش ، من حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر ، وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم . فإن قيل : فما الجمع بين قوله تعالى :
فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [ الكهف : 97 ] . وبين الحديث الذي رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم عن
زينب بنت جحش أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، قالت :
استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوم ، محمرا وجهه وهو يقول : لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق تسعين . قلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟! قال : نعم ، إذا كثر الخبث وأخرجاه في " الصحيحين " ، من حديث
وهيب ، عن
ابن طاوس ، عن أبيه ، عن
أبي [ ص: 558 ] هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ، مثل هذا وعقد تسعين فالجواب : أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن ، وأن هذا استعارة محضة وضرب مثل ، فلا إشكال . وأما على قول من جعل ذلك إخبارا عن أمر محسوس ، كما هو الظاهر المتبادر ، فلا إشكال أيضا ; لأن قوله :
فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا أي : في ذلك الزمان ، لأن هذه صيغة خبر ماض ، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدرا ، وتسليطهم عليه بالتدريج قليلا قليلا ، حتى يتم الأجل وينقضي الأمد المقدور ، فيخرجون ، كما قال الله تعالى :
وهم من كل حدب ينسلون [ الأنبياء : 96 ] . ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا ، وهو ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في " مسنده " قائلا : حدثنا
روح ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة ، عن
قتادة ، حدثنا
أبو رافع ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
" إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا . فيعودون إليه كأشد ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم ، وأراد الله أن يبعثهم على الناس ، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرون غدا إن شاء الله . ويستثني ، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون [ ص: 559 ] على الناس فينشفون المياه ، ويتحصن الناس منهم في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض ، وعلونا أهل السماء . فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم ، فيقتلهم بها " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ، إن دواب الأرض لتسمن شكرا من لحومهم ودمائهم " ورواه
أحمد أيضا عن
حسن بن موسى ، عن
شيبان ، عن
قتادة به . وهكذا رواه
ابن ماجه من حديث
سعيد ، عن
قتادة ، إلا أنه قال : حدث
أبو رافع . ورواه
الترمذي من حديث
أبي عوانة عن ،
قتادة به . ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه ، حتى كادوا ينظرون شعاع الشمس من ورائه ; لرقته ، فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظا ، وإنما هو مأخوذ عن
كعب الأحبار ، كما قاله بعضهم ، فقد استرحنا من المئونة ، وإن كان محفوظا فيكون محمولا على أن صنيعهم هذا يكون في آخر الزمان
[ ص: 560 ] عند اقتراب خروجهم ، كما هو المروي عن
كعب الأحبار ، أو يكون المراد بقوله :
وما استطاعوا له نقبا أي : نافذا منه ، فلا ينفي أن يلحسوه ولا ينفذوه . والله أعلم . وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في " الصحيحين " عن أبي هريرة ، رضي الله عنه :
فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين . أي : فتح فتحا نافذا فيه . والله أعلم .