صفحة جزء
وفيها توفي من الأعيان

إبراهيم بن أدهم ، أحد مشاهير العباد ، ومن أكابر من له همة عالية من العباد ، وداود الطائي ، أحد أئمة الصوفية ، وزهير بن محمد ، ويزيد بن إبراهيم التستري .

فأما إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر ، أبو إسحاق التميمي ، ويقال : العجلي . فهو أحد الزهاد ، أصله من بلخ . وسكن الشام ، ودخل دمشق ، وروى الحديث عن أبيه ، والأعمش ، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة ، وأبي إسحاق السبيعي ، وخلق .

وحدث عنه خلق منهم; بقية ، والثوري ، وأبو إسحاق الفزاري ، ومحمد بن حمير ، وحكى عنه الأوزاعي .

وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجزري ، عن الثوري ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : [ ص: 495 ] دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي جالسا ، فقلت : يا رسول الله ، إنك تصلي جالسا ، فما أصابك؟ قال : " الجوع يا أبا هريرة " . قال : فبكيت ، فقال : " لا تبك; فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا " .

ومن طريق بقية ، عن إبراهيم بن أدهم ، حدثني أبو إسحاق الهمداني ، عن عمارة بن غزية ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الفتنة تجيء فتنسف العباد نسفا ، وينجو العالم منها بعلمه .

قال النسائي : هو ثقة مأمون ، أحد الزهاد .

وذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري في " رسالته " أن إبراهيم بن أدهم كان من أبناء الملوك ، فبينما هو يتصيد إذ أتبع ثعلبا أو أرنبا ، فهتف به هاتف من قربوس سرجه : ألهذا خلقت أم بهذا أمرت؟ فنزل عن فرسه وجاء إلى راعي غنم لأبيه ، فأخذ جبة من صوف فلبسها ، وأعطاه فرسه ولباسه وما كان معه ، وذهب في البادية ، فدخل مكة ، وصحب الثوري ، والفضيل بن [ ص: 496 ] عياض ، ودخل الشام ومات بها .

وكان يأكل من عمل يده ، مثل الحصاد ، وحفظ البساتين ، وغير ذلك .

قال القشيري : وإنه رأى في البادية رجلا علمه اسم الله الأعظم ، فدعا به بعده ، فرأى الخضر ، فقال : إنما علمك أخي داود اسم الله الأعظم . ثم ساقه القشيري بإسناد ضعيف لا يصح . ورواها ابن عساكر أيضا من وجه آخر ضعيف ، وفيه أنه قال : إن إلياس هو علمك الاسم الأعظم .

قال القشيري : وكان إبراهيم بن أدهم كبير الشأن في باب الورع ، ويحكى عنه أنه قال : أطب مطعمك ، ولا عليك أن لا تقوم الليل ، وتصوم النهار .

وقيل : كان أكثر دعائه : اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك .

وقيل لإبراهيم بن أدهم : إن اللحم قد غلا . فقال : أرخصوه . أي لا تشتروه .

وقال بعضهم : هتف به الهاتف قائلا له من فوقه : يا إبراهيم ، ما هذا [ ص: 497 ] العبث؟ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ المؤمنون : 115 ] . اتق الله ، وعليك بالزاد ليوم الفاقة . قال : فنزل عن دابته ، ورفض الدنيا ، وأخذ في عمل الآخرة .

وروى ابن عساكر - بإسناد فيه نظر - عن ابتداء أمر إبراهيم بن أدهم قال : بينما أنا يوما في منظرة لي ببلخ ، وإذا بشيخ حسن قد استظل بفيئها ، فأخذ بمجامع قلبي ، فأمرت غلامي ، فطلبه فدخل ، فعرضت عليه الطعام ، فأبى ، فقلت : من أين أقبلت؟ قال : من وراء النهر . قلت : أين تريد؟ قال : الحج . قلت : في هذا الوقت؟ - وكان أول يوم من عشر ذي الحجة أو ثانيه - فقال : يفعل الله ما يشاء . فقلت : الصحبة . قال : إن أحببت ذلك فموعدك الليل . فلما كان الليل جاءني فقال : قم بسم الله . فأخذت ثياب سفري ، وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا ، ونحن نمر على البلدان ، ونقول هذه فلانة ، هذه فلانة . فإذا كان الصباح فارقني ويقول : موعدك الليل . فإذا كان الليل جاءني ، فانتهينا إلى المدينة النبوية ، فزرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سرنا إلى مكة ، فجئناها ليلا ، فقضينا الحج مع الناس ، ثم رجعنا إلى الشام ، فزرنا بيت المقدس ، وقال : إني عازم على المقام بالشام . ورجعت أنا إلى بلدي بلخ أسير سير الضعفاء ، حتى رجعت إليها ، ولم أسأله عن اسمه ، وكان ذلك أول أمري . وروي من وجه آخر فيه نظر .

وقال أبو حاتم الرازي ، عن أبي نعيم ، عن سفيان الثوري قال : كان [ ص: 498 ] إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل ، ولو كان في الصحابة لكان رجلا فاضلا .

وقال عبد الله بن المبارك : كان إبراهيم رجلا فاضلا ، له سرائر ، وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من عمله ، ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يده .

وقال بشر بن الحارث الحافي : أربعة رفعهم الله بطيب المطعم; إبراهيم بن أدهم ، وسليمان الخواص ، ووهيب بن الورد ، ويوسف بن أسباط .

وروى ابن عساكر من طريق معاوية بن حفص قال : إنما سمع إبراهيم بن أدهم من منصور حديثا ، فأخذ به ، فساد أهل زمانه ، قال : حدثنا منصور ، عن ربعي بن حراش قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس . قال : " إذا أردت أن يحبك الله فأبغض الدنيا ، وإذا أردت أن يحبك الناس فما كان عندك من فضولها فانبذه إليهم " .

وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو الربيع ، عن إدريس قال : جلس إبراهيم بن أدهم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيم ساكت ، ثم قال : حدثنا منصور . ثم سكت ، فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس ، فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ، فقال : إني لأخشى مضرة ذلك المجلس [ ص: 499 ] في قلبي إلى هذا اليوم .

وقال رشدين بن سعد : مر إبراهيم بن أدهم بالأوزاعي ، وحوله حلقة فقال : لو أن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم . فقام الأوزاعي وتركهم .

وقال إبراهيم بن بشار : قيل لابن أدهم : لم لا تكتب الحديث؟ فقال : إني مشغول بثلاث; بالشكر على النعم ، وبالاستغفار من الذنوب ، وبالاستعداد للموت . ثم صاح وغشي عليه ، فسمعوا هاتفا يقول : لا تدخلوا بيني وبين أوليائي .

وقال أبو حنيفة يوما لإبراهيم بن أدهم : قد رزقت من العبادة شيئا صالحا ، فليكن العلم من بالك; فإنه رأس العبادة وقوام الدين .

وقال إبراهيم بن أدهم : ماذا أنعم الله على الفقراء! لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ، ولا عن حج ، ولا عن جهاد ، ولا عن صلة رحم ، إنما يسأل هؤلاء المساكين . يعني الأغنياء .

وقال شقيق بن إبراهيم : لقيت ابن أدهم بالشام ، وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكريا . فقلت له : تركت خراسان ، وخرجت من [ ص: 500 ] نعمتك؟ فقال : قد تهنيت بالعيش هاهنا ، أفر بديني من شاهق إلى شاهق ، فمن يراني يقول : موسوس . أو : حمال . أو : ملاح . ثم قال : بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة ، فيوقف بين يدي الله ، عز وجل ، فيقول له : يا عبدي ، ما لك لم تحج؟ فيقول : يا رب لم تعطني شيئا أحج به . فيقول الله ، عز وجل : صدق عبدي ، اذهبوا به إلى الجنة .

وعن إبراهيم بن أدهم قال : أقمت بالشام أربعا وعشرين سنة لم أجئ لجهاد ولا رباط ، إنما جئت لأشبع من خبز الحلال .

وقال إبراهيم بن أدهم : الحزن حزنان; حزن لك وحزن عليك; فحزنك على الآخرة وخيرها لك ، وحزنك على الدنيا وزينتها عليك .

وقال : الزهد ثلاثة ، واجب ، ومستحب ، وزهد سلامة ، فالزهد في الحرام واجب ، والزهد عن الشهوات الحلال مستحب ، والزهد عن الشبهات سلامة .

وكان هو وأصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء ، ولا يجعلون في ملحهم أبزارا .

وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طيب رمى بطيبها إلى أصحابه ، وأكل [ ص: 501 ] هو الخبز والزيتون .

وقال إبراهيم بن أدهم : قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع ، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع .

وقال له رجل : هذه جبة أحب أن تقبلها مني . فقال : إن كنت غنيا قبلتها ، وإن كنت فقيرا لم أقبلها . قال : أنا غني . قال : كم عندك؟ قال : ألفان . قال : تود أن تكون أربعة آلاف؟ قال : نعم . قال : فأنت فقير لا أقبلها .

وقال له رجل : لو تزوجت؟! فقال : لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها .

ومكث بمكة خمسة عشر يوما لا شيء معه ، فلم يكن له زاد سوى الرمل بالماء .

وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة .

وأكل يوما على حافة الشريعة كسيرات مبلولة ، وضعها بين يديه أبو يوسف الغسولي ، ثم قام فشرب من الشريعة ، ثم جاء فاستلقى على قفاه ، وقال : يا أبا يوسف ، لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش . فقال أبو يوسف : طلب القوم الراحة [ ص: 502 ] والنعيم فأخطئوا الطريق المستقيم . فتبسم إبراهيم وقال : من أين لك هذا الكلام؟

وبينما هو يوما بالمصيصة في جماعة من أصحابه إذ جاءه راكب فقال : أيكم إبراهيم بن أدهم؟ فأرشد إليه ، فقال : يا سيدي ، أنا غلامك ، وإن أباك قد مات وترك مالا هو عند القاضي ، وقد جئتك بعشرة آلاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ ، وفرس وبغلة . فسكت إبراهيم طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : إن كنت صادقا فالدراهم والفرس والبغلة لك ، ولا تخبر به أحدا . ويقال إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ ، وأخذ المال من الحاكم ، وجعله كله في سبيل الله .

وكان معه بعض أصحابه ، فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شيء يأكلونه ، فقال له إبراهيم : ادخل إلى هذه الغيضة . وكان ذلك في يوم شات . قال : فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير ، فملأت منه جرابي ، ثم خرجت ، فقال : ما معك؟ فقلت : خوخ . فقال : يا ضعيف اليقين ، لو صبرت لوجدت رطبا جنيا ، كما رزقت مريم بنت عمران .

وشكا إليه بعض أصحابه الجوع ، فصلى ركعتين ، فإذا حوله دنانير كثيرة ، فقال لصاحبه : خذ منها دينارا . فأخذه واشترى لهم به طعاما .

وذكروا أنه كان يعمل بالفاعل ، ثم يذهب فيشتري الخبز الأبيض والزبد ، وتارة الشواء والجوذابات ، والخبيص فيطعمه أصحابه وهو صائم ، فإذا أفطر [ ص: 503 ] يأكل من رديء الطعام ، ويحرم نفسه المطعم الطيب ليؤثر به الناس; تأليفا لهم وتحببا وتوددا إليهم .

وأضاف الأوزاعي إبراهيم بن أدهم ، فقصر إبراهيم في الأكل ، فقال : ما لك قصرت؟ فقال : لأنك قصرت في الطعام . ثم عمل إبراهيم طعاما كثيرا ، ودعا الأوزاعي ، فقال الأوزاعي : أما تخاف أن يكون سرفا؟ فقال : لا ، إنما السرف ما كان في معصية الله ، فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه ، فهو من الدين .

وذكر أنه حصد مرة بعشرين دينارا ، فجلس مرة عند حجام هو وصاحب له ليحلق رءوسهم ويحجمهم ، فكأنه تبرم بهم ، واشتغل عنهم بغيرهم ، فتأذى صاحبه من ذلك ، ثم أقبل عليهم الحجام فقال : ماذا تريدون؟ قال إبراهيم : أريد أن تحلق رأسي وتحجمني . ففعل ذلك ، فأعطاه إبراهيم تلك العشرين دينارا ، وقال : أردت أن لا تحقر بعدها فقيرا أبدا .

وقال مضاء بن عيسى : ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ، ولكن بالصدقة والسخاء .

وكان إبراهيم بن أدهم يقول : فروا من الناس كفراركم من الأسد الضاري ، ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة .

[ ص: 504 ] وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يخدمه إبراهيم ، وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رءوسهم الطير; هيبة له وإجلالا .

وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة التامة إلى الصباح ، وكان الثوري يتحرز معه في الكلام .

ورأى رجلا ، فقيل له : هذا قاتل خالك . فذهب إليه وسلم عليه وأهدى له ، وقال : بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه .

وقال له رجل : طوبى لك; أفنيت عمرك في العبادة ، وتركت الدنيا والزوجات . فقال : ألك عيال؟ قال : نعم . فقال : لروعة الرجل بعياله - يعني في بعض الأحيان من الفاقة - أفضل من عبادة كذا وكذا سنة .

ورآه الأوزاعي ببيروت وعلى عنقه حزمة حطب فقال : يا أبا إسحاق ، إن إخوانك يكفونك هذا . فقال له : اسكت يا أبا عمرو ، فقد بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة .

وخرج إبراهيم بن أدهم من بيت المقدس ، فمر بطبرية ، فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا : أنت عبد؟ قال : نعم . قالوا : آبق؟ قال : نعم . فسجنوه . فبلغ أهل بيت المقدس خبره ، فجاءوا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا : علام [ ص: 505 ] سجنت إبراهيم بن أدهم؟ قال : ما سجنته . قالوا : بلى ، هو في سجنك . فاستحضره ، فقال : علام حبست؟ فقال : سل المسلحة ، قالوا : أنت عبد؟ قلت : نعم ، وأنا عبد الله . قالوا : وأنت آبق؟ قلت : نعم ، وأنا عبد آبق من ذنوبي . فخلى سبيله .

وذكروا أنه مر مع رفقة ، فإذا الأسد على الطريق ، فتقدم إليه إبراهيم بن أدهم فقال له : يا قسورة ، إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به ، وإلا فعودك على بدئك . قالوا : فولى السبع ذاهبا يضرب بذنبه ، ثم أقبل علينا إبراهيم فقال : قولوا : اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام ، واكنفنا بركنك الذي لا يرام ، وارحمنا بقدرتك علينا ، ولا نهلك وأنت رجاؤنا ، يا الله ، يا الله ، يا الله . قال خلف بن تميم : فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولا غيره .

وقد روي لهذا شواهد من وجوه أخر .

وروي أنه كان يصلي ذات ليلة ، فجاءه أسد ثلاثة ، فتقدم إليه أحدهم ، فشم ثيابه ، ثم ذهب ، فربض قريبا منه ، وجاء الثاني ففعل مثل كذلك ، وجاء الثالث ففعل كذلك ، واستمر إبراهيم في صلاته ، فلما كان وقت السحر قال لهم : إن كنتم أمرتم بشيء فهلم ، وإلا فانصرفوا . فانصرفوا .

وصعد مرة جبلا بمكة ومعه جماعة ، فقال لهم : لو أن وليا من أولياء الله [ ص: 506 ] قال لجبل : زل . لزال . فتحرك الجبل تحته ، فركله برجله وقال : اسكن ، فإنما ضربتك مثلا لأصحابي . وفي رواية : وكان الجبل أبا قبيس .

وركب مرة سفينة ، فأخذهم الموج ذات يوم من كل مكان ، فلف إبراهيم رأسه بكسائه ، واضطجع ، وعج أصحاب السفينة بالضجيج ، وأيقظوه ، وقالوا : ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فقال : ليس هذه شدة ، إنما الشدة الحاجة إلى الناس . ثم قال : اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك . فصار البحر كأنه قدح زيت .

وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين ، وألح عليه ، فخرج معه مرة إلى جزيرة في البحر ، فقال : أين الديناران . فتوضأ إبراهيم ، وصلى ركعتين ودعا ، فإذا ما حوله قد ملئ دنانير ، فقال له خذ حقك ، ولا تزد ، ولا تذكر هذا لأحد .

وعن حذيفة المرعشي قال : أويت أنا وإبراهيم بن أدهم إلى مسجد خراب بالكوفة ، وكان قد مضى علينا أيام لم نأكل فيها شيئا ، فقال لي : كأنك جائع . قلت : نعم . فأخذ رقعة فكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، أنت المقصود إليه بكل حال ، المشار إليه بكل معنى :


أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر أنا جائع أنا نائع أنا عاري [ ص: 507 ]     هي ستة وأنا الضمين لنصفها
فكن الضمين لنصفها يا باري     مدحي لغيرك وهج نار خضتها
فأجر عبيدك من دخول النار

ثم قال لي : اخرج ولا تعلق قلبك بغير الله ، وادفع هذه الرقعة لأول رجل تلقاه . فخرجت فإذا رجل على بغلة ، فدفعتها إليه ، فلما قرأها بكى ، ودفع إلي ستمائة دينار وانصرفت فسألت رجلا : من هذا الذي على البغلة؟ فقال : هو رجل نصراني . فجئت إبراهيم ، فأخبرته فقال : الآن يجيء فيسلم . فما كان غير قريب حتى جاء ، فأكب على رأس إبراهيم ، وأسلم .

وكان إبراهيم يقول : دارنا أمامنا ، وحياتنا بعد وفاتنا ، فإما إلى الجنة ، وإما إلى النار .

وكان إبراهيم يقول : مثل لبصر قلبك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك ، وانظر كيف تكون ، ومثل له هول المطلع ومساءلة منكر ونكير ، وانظر كيف تكون ، ومثل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب ، وانظر كيف تكون . ثم صرخ صرخة خر مغشيا عليه .

ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له : لا تطمع فيما لا يكون ، ولا تيأس مما يكون . فقيل له : كيف هذا يا أبا إسحاق؟ فقال : لا تطمع في البقاء والموت يطلبك ، فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب; إلى [ ص: 508 ] جنة أم إلى نار؟! ولا تيأس مما يكون ، الموت يأتيك صباحا أو مساء . ثم قال : أوه أوه . ثم خر مغشيا عليه .

وكان يقول : ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ، ولا نسأل كشفه من ربنا . ثم يقول : ثكلت عبدا أمه أحب الدنيا ، ونسي ما في خزائن مولاه .

وقال : إذا كنت بالليل نائما ، وبالنهار هائما ، وبالمعاصي دائما ، فكيف يرضى من هو بأمرك قائما .

ورآه بعض أصحابه بمسجد بيروت وهو يبكي ، ويضرب بيديه على رأسه ، فقال : ما يبكيك؟ فقال ذكرت يوما تنقلب فيه القلوب والأبصار .

وقال : إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية .

وكتب إلى الثوري : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ، ومن أطلق بصره طال أسفه ، ومن أطلق أمله ساء عمله ، ومن أطلق لسانه قتل نفسه .

وسأله بعض الولاة : من أين معيشتك؟ فأنشأ يقول :


نرقع دنيانا بتمزيق ديننا     فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات :

[ ص: 509 ]

لما توعد الدنيا به من شرورها     يكون بكاء الطفل ساعة يوضع
وإلا فما يبكيه منها وإنها     لأروح مما كان فيه وأوسع
إذا أبصر الدنيا استهل كأنما     يرى ما سيلقى من أذاها ويسمع

وكان يتمثل أيضا بهذه الأبيات :


رأيت الذنوب تميت القلوب     ويتبعها الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلو     ب والخير للنفس عصيانها
وما أهلك الدين إلا الملوك     وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس فلم يربحوا     ولم يغل بالبيع أثمانها
لقد وقع القوم في جيفة     تبين لذي اللب أنتانها

وقال إبراهيم بن أدهم : إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك ، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك ، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل ، فكر في ذنبك ، وتب إلى ربك يثبت الورع في قلبك ، واقطع الطمع إلا من ربك .

وقال أيضا : ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك ، ذم مولانا [ ص: 510 ] الدنيا فمدحناها ، وأبغضها فأحببناها ، وزهدنا فيها فآثرناها ، ورغبنا في طلبها ، ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها ، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها ، وأنذركم الكنوز فكنزتموها ، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها ، فأجبتم مسرعين مناديها ، خدعتكم بغرورها ، ومنتكم فأقررتم خاضعين لأمانيها ، تتمرغون في زهراتها ، وتتنعمون في لذاتها ، وتتقلبون في شهواتها ، وتتلوثون بتبعاتها ، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها ، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها .

وشكى رجل إلى إبراهيم بن أدهم كثرة العيال فقال : ابعث إلي منهم من لا رزقه على الله . فسكت الرجل .

وقال إبراهيم بن أدهم : مررت في بعض جبال الشام فإذا بحجر مكتوب عليه بالعربية :


كل حي وإن بقي     فمن العمر يستقي
فاعمل اليوم واجتهد     واحذر الموت يا شقي

فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي ، إذا برجل أشعث أغبر عليه مدرعة من شعر ، فسلم وقال : مم تبكي؟ فقلت : من هذا . فأخذ بيدي ومضى غير بعيد ، فإذا صخرة عظيمة مثل المحراب فقال : اقرأ وابك ، ولا تقصر . وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي :

[ ص: 511 ]

لا تبتغي جاها وجاهك ساقط     عند المليك وكن لجاهك مصلحا

وفي الجانب الآخر نقش بين عربي :


من لم يثق بالقضاء والقدر     لاقى هموما كثيرة الضرر

وفي الجانب الأيسر منه نقش بين عربي :


ما أزين التقى ،     وما أقبح الخنا
، وكل مأخوذ بما جنى ،     وعند الله الجزا

.

وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراع أو أكثر :


إنما الفوز والغنى     في تقى الله والعمل

قال : فلما فرغت من القراءة التفت فإذا ليس الرجل هناك ، فما أدري انصرف أو حجب عني؟

وقال إبراهيم بن أدهم : أثقل الأعمال في الميزان أثقلها على الأبدان ، ومن وفى العمل وفي له الأجر ، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير .

وقال أيضا : كل سلطان لا يكون عادلا فهو واللص بمنزلة واحدة ، وكل عالم لا يكون ورعا فهو والذئب بمنزلة واحدة ، وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلة واحدة .

[ ص: 512 ] وقال أيضا : أعربنا في المقال حتى لم نلحن ، ولحنا في الفعال حتى لم نعرب .

وقال : كنا إذا رأينا الشاب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره .

وقال إبراهيم لأصحابه : جانبوا الناس ، ولا تنقطعوا عن جمعة ولا جماعة .

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب : أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن محمد بن رامين الإستراباذي ، أنبأنا عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي ، أنبأنا القاضي أحمد بن محمد بن خرزاد الأهوازي ، حدثني علي بن محمد القصري ، حدثني أحمد بن محمد الحلبي ، سمعت سريا السقطي يقول : سمعت بشر بن الحارث الحافي يقول : قال إبراهيم بن أدهم : وقفت على راهب في جبل لبنان ، فأشرف علي فقلت له : عظني . فأنشأ يقول :


خذ عن الناس جانبا     كي يعدوك راهبا
إن دهرا أظلني     قد أراني العجائبا
[ ص: 513 ] قلب الناس كيف شئ     ت تجدهم عقاربا

قال بشر : فقلت لإبراهيم : هذه موعظة الراهب لك ، فعظني أنت . فأنشأ يقول :


توحش من الإخوان لا تبغ مؤنسا     ولا تتخذ خلا ولا تبغ صاحبا
وكن سامري الفعل من نسل آدم     وكن أوحديا ما قدرت مجانبا
فقد فسد الإخوان والحب والإخا     فلست ترى إلا مذوقا وكاذبا
فقلت ولولا أن يقال مدهده     وتنكر حالاتي لقد صرت راهبا

قال سري : فقلت لبشر : هذه موعظة إبراهيم لك ، فعظني أنت . فقال : عليك بلزوم بيتك . فقلت : بلغني عن الحسن أنه قال : لولا الليل وملاقاة الإخوان ما كنت أبالي متى مت . فأنشأ يقول :


يا من يسر برؤية الإخوان     مهلا أمنت مكائد الشيطان
خلت القلوب من المعاد وذكره     وتشاغلوا بالحرص والخسران
صارت مجالس من ترى وحديثهم     في هتك مستور وخلق قران

قال الحلبي : فقلت لسري : هذه موعظة بشر لك ، فعظني أنت . فقال : عليك بالإخمال . فقلت : إني أحب ذاك فأنشأ يقول :


يا من يريد بزعمه إخمالا     إن كان حقا فاستعد خصالا
ترك المجالس والتذاكر يا أخي     واجعل خروجك للصلاة خيالا
[ ص: 514 ] بل كن بها حيا كأنك ميت     لا يرتجي منه القريب وصالا

قال علي بن محمد القصري : قلت للحلبي : هذه موعظة سري لك ، فعظني أنت . فقال : يا أخي ، أحب الأعمال إلى الله ما أصدر إليه من قلب زاهد في الدنيا ، فازهد في الدنيا يحبك الله . ثم أنشأ يقول :


أنت في دار شتات     فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم     صمته عن شهواتك
واجعل الفطر إذا ما     صمته يوم وفاتك

قال ابن خرزاد : فقلت لعلي : هذه موعظة الحلبي لك ، فعظني أنت . فقال لي : احفظ وقتك واسخ بنفسك لله عز وجل ، وانزع قيمة الأشياء عن قلبك يصف لك بذلك سرك ، ويزك به ذكرك . ثم أنشدني :


حياتك أنفاس تعد فكلما     مضى نفس منها انتقصت به جزءا
فتصبح في نقص وتمسي بمثله     وما لك معقول تحس به رزءا
يميتك ما يحييك في كل ساعة     ويحدوك حاد ما يريد بك الهزءا

قال أبو محمد : قلت لأحمد : هذه موعظة علي لك ، فعظني . فقال : يا أخي ، عليك بلزوم الطاعة ، وإياك أن تبرح باب القناعة ، وأصلح مثواك ، ولا تؤثر هواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك . ثم أنشدني :


ندمت على ما كان مني ندامة     ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم
[ ص: 515 ] فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم     ستلقون ربا عادلا ليس يظلم
فليس لمغرور بدنياه زاجر     سيندم إن زلت به النعل فاعلم

قال القاضي أبو محمد بن رامين فقلت لأبي محمد : هذه موعظة أحمد لك ، فعظني أنت . فقال : اعلم ، رحمك الله ، أن الله عز وجل ، ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها ، فانظر أين أنزلت قلبك ، واعلم أنه تقرب القلوب على حسب ما قرب إليها ، فانظر من القريب من قلبك . وأنشدني :


قلوب رجال في الحجاب نزول     وأرواحهم فيما هناك حلول
بروح نعيم الأنس في عز قربه     بإفراد توحيد المليك تحول
لهم بفناء القرب من محض بره     عوائد بذل خطبهن جليل

قال الحافظ أبو بكر الخطيب : فقلت للقاضي أبي محمد بن رامين : هذه موعظة الحميدي لك ، فعظني . فقال : اتق الله ، وثق به ولا تتهمه; فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك . وأنشدني :


اتخذ الله صاحبا     وذر الناس جانبا
جرب الناس كيف شئ     ت تجدهم عقاربا

قال أبو الفرج غيث الصوري : فقلت للخطيب البغدادي : هذه موعظة ابن رامين لك ، فعظني أنت . فقال : احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها ، فذاك أعضل دائك ، واستشعر الخوف من الله بخلافها ، [ ص: 516 ] وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها ، فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء ، والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء ، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل دار الخلد قراره ومأواه . ثم أنشد لنفسه :


إن كنت تبغي الرشاد محضا     في أمر دنياك والمعاد
فخالف النفس في هواها     إن الهوى جامع الفساد

قال الحافظ ابن عساكر : المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة . وقال غيره : سنة إحدى . وقيل : سنة ثلاث . والصحيح ما قاله ابن عساكر ، كما ذكرنا . ولله الحمد .

وذكروا أنه توفي بجزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط ، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة وفاته نحوا من عشرين مرة ، وكل مرة يجدد الوضوء بعدها ، فلما غشيه الموت قال : أوتروا لي قوسي . وقبض على القوس ، ومات وهو كذلك ، رحمه الله ، وأكرم مثواه .

وقد قال أبو سعيد ابن الأعرابي : حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ قال : سمعت الشافعي يقول : سمعت السري بن حيان يقول - وكان سفيان معجبا به - :

[ ص: 517 ]

أجاعتهم الدنيا فجاعوا ولم يزل     كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما
أخو طيئ داود منهم ومسعر     ومنهم وهيب والغريب ابن أدهما
وفي ابن سعيد قدوة البر والنهى     وفي الوارث الفاروق صدقا مقدما
وحسبك منهم بالفضيل مع ابنه     ويوسف إن لم يأل أن يتسلما
أولئك أصحابي ، وأهل مودتي     فصلى عليهم ذو الجلال وسلما
فما ضر ذا التقوى نصال أسنة     وما زال ذو التقوى أعز وأكرما
وما زالت التقوى تريك على الفتى     إذا محض التقوى من العز ميسما

وروى البخاري في كتاب " الأدب " عن إبراهيم بن أدهم ، وأخرج له الترمذي في " جامعه " حديثا معلقا في المسح على الخفين .

وأما داود الطائي فهو داود بن نصير الطائي ، أبو سليمان الكوفي الفقيه الزاهد ، أخذ الفقه عن أبي حنيفة .

وقال سفيان بن عيينة : ثم ترك طلب الفقه ، وأقبل على العبادة ، ودفن كتبه .

[ ص: 518 ] قال عبد الله بن المبارك : وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي .

وقال يحيى بن معين : كان ثقة . وقال الخطيب البغدادي : ترك الفقه ، وأقبل على العبادة حتى مات ، وقد قدم على المهدي بغداد ثم عاد إلى الكوفة .

مات في سنة ستين ومائة . وقيل : في سنة خمس وستين ومائة .

قلت : وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي في " تاريخه " أنه توفي في هذه السنة ، أعني سنة ثنتين وستين ومائة . فالله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية