[ ص: 310 ] ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
فيها وقعت مفاداة بجماعة من المسلمين الذين كانوا بأيدي
الروم على يدي الأمير
خاقان الخادم ، وذلك في المحرم من هذه السنة ، وكان عدة الأسارى الذين استنقذوا من أيدي الكفار أربعة آلاف وثلاثمائة واثنين وستين أسيرا . ولله الحمد والمنة .
وفيها كان
مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه ، وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو
nindex.php?page=showalam&ids=14215أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وجده
مالك بن الهيثم من أكبر الدعاة في الناس إلى دولة
بني العباس ، وكانت له وجاهة ورياسة ، وكان أبوه
نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث ، وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي عن المنكر حين كثرت الدعار والشطار في أرجاء
بغداد في زمان غيبة
المأمون عن
بغداد كما قدمنا بسط ذلك ، وبه تعرف سويقة نصر
ببغداد .
وكان
أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد
[ ص: 311 ] في الخير ، ومن أئمة المسلمين وأهل السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، وكان
هارون الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن ، يدعو إليه ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ; اعتمادا على ما كان أبوه
المعتصم وعمه
المأمون عليه في ذلك من غير دليل ولا برهان ، ولا حجة ولا بيان ، ولا سنة ولا قرآن ، فقام
أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها ، فاجتمع عليه جماعة من أهل
بغداد والتف عليه من الألوف أعداد ، وانتصب للدعوة إلى
أحمد بن نصر هذا رجلان وهما
أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي ، وطالب يدعو أهل الجانب الغربي .
ولما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة
nindex.php?page=showalam&ids=14215لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والخروج على السلطان لبدعته ، ودعوته إلى
القول بخلق القرآن . فتواعدوا على أنه في الليلة الثالثة من شهر شعبان وهي ليلة الجمعة يضرب طبل في الليل ، فيجتمع الناس الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه ، وأنفق
طالب وأبو هارون في أصحابه دينارا دينارا ، فكان في جملة من أعطوه رجلان من
بني أشرس ، وكانا يتعاطيان الشراب فلما
[ ص: 312 ] كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم ، واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد ، وكان ذلك قبله بليلة ، فقاما يضربان على طبل في الليل ; ليجتمع إليهما الناس ، فلم يجئ أحد وانخرم النظام ، وسمع الحرس في الليل ، فأعلموا نائب السلطنة وهو
محمد بن إبراهيم بن مصعب نائب أخيه
إسحاق بن إبراهيم ; لغيبته عن
بغداد فأصبح الناس متخبطين ، واجتهد نائب السلطنة على إحضار ذينك الرجلين فأحضرا فعاقبهما ، فأقرا على
أحمد بن نصر في الحال فطلبه ، وأخذ خادما له فاستقره ، فأقر بما أقر به الرجلان ، فجمع جماعة من رءوس أصحاب
أحمد بن نصر معه ، وأرسل بهم إلى الخليفة
بسر من رأى ، وذلك آخر يوم من شعبان من هذه السنة فأحضر له جماعة من الأعيان ، وحضر القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12212أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي ، ولم يظهر منه على
أحمد بن نصر عتب ، فلما أوقف
أحمد بن نصر بين يدي الخليفة
الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في أمر مبايعة العامة له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأعرض عن ذلك كله ، وقال له : ما تقول في القرآن ؟ فقال : هو كلام الله . قال : أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله . وكان
أحمد بن نصر قد
[ ص: 313 ] استقتل ، وحضر وقد تحنط وتنور ، فقال له
الواثق : فما تقول في ربك ، أتراه يوم القيامة ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قد جاء القرآن والأخبار بذلك ، قال الله تعالى :
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ القيامة : 22 ، 23 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512734إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فنحن على الخبر . زاد
الخطيب في إيراده : قال
الواثق : ويحك ، أيرى كما يرى المحدود المتجسم ؟ ويحويه مكان ويحصره الناظر ؟ أنا أكفر برب هذه صفته .
قلت : وهذا الذي قاله الخليفة
الواثق لا يرد ، ولا يلزم ، ولا يرد به مثل هذا الخبر الصحيح . والله أعلم .
ثم قال
أحمد بن نصر الخزاعي للواثق : وحدثني سفيان بحديث يرفعه
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512735إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الله يقلبه وكان النبي صلى الله عليه وسلم
[ ص: 314 ] يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512736يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال له
إسحاق بن إبراهيم : ويلك ، انظر ما تقول . فقال : أنت أمرتني بذلك . فأشفق
إسحاق من ذلك ، وقال : أنا أمرتك بذلك ؟ قال : نعم ، أنت أمرتني أن أنصح له . فقال
الواثق لمن حوله : ما تقولون في هذا ؟ فأكثروا القول فيه ; فقال
عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل وكان موادا
لأحمد بن نصر قبل ذلك : يا أمير المؤمنين ، هو حلال الدم . وقال
أبو عبد الله الأرمني صاحب
أحمد بن أبي دؤاد : اسقني دمه يا أمير المؤمنين . فقال
الواثق : يأتي على ما تريد . وقال القاضي
أحمد بن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، هو كافر يستتاب ، لعل به عاهة أو نقص عقل . فقال
الواثق : إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي ، فإني أحتسب خطاي . ثم نهض إليه بالصمصامة وقد كانت سيفا
لعمرو بن معدي كرب الزبيدي أهديت
لموسى الهادي في أيام خلافته ، وكانت صفيحة موصولة في أسفلها ، مسمورة بثلاثة مسامير فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه ، وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط رحمه الله صريعا على النطع ميتا فإنا لله وإنا إليه راجعون .
[ ص: 315 ] ثم انتضى
سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه ، وحز رأسه ، وحمل معترضا حتى أتي به الحظيرة التي فيها
بابك الخرمي فصلب فيها ، وفي رجليه زوج قيود ، وعليه سراويل ، وقميص ، وحمل رأسه إلى
بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما ، وفي الجانب الغربي أياما ، وعنده الحرس في الليل والنهار وفي أذنه رقعة مكتوب فيها : هذا رأس الكافر المشرك الضال
أحمد بن نصر ، ممن قتل على يدي
عبد الله هارون الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=15465الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ، ونفي التشبيه ، وعرض عليه التوبة ، ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح ، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر ، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه .
ثم أمر الخليفة
الواثق بتتبع رءوس أصحابه ، فأخذ منهم نحوا من سبعة وعشرين رجلا ، فأودعوا في السجون وسموا الظلمة ، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد ، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين ، وهذا ظلم عظيم . هذا ملخص ما قاله
ابن جرير رحمه الله .
وقد كان
أحمد بن نصر هذا - رحمه الله - من أكابر العلماء العاملين وممن كان قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسمع الحديث من
حماد بن زيد ، nindex.php?page=showalam&ids=16008وسفيان بن عيينة ، nindex.php?page=showalam&ids=17249وهشيم بن بشير ، وكانت عنده مصنفاته كلها ،
[ ص: 316 ] وسمع من الإمام
مالك بن أنس أحاديث جيدة ، ولم يحدث بكثير من حديثه .
وحدث عنه
nindex.php?page=showalam&ids=12218أحمد بن إبراهيم الدورقي ، وأخوه
يعقوب بن إبراهيم ، nindex.php?page=showalam&ids=17336ويحيى بن معين ، وذكره يوما فترحم عليه ، وقال : قد ختم الله له بالشهادة ، وقد كان لا يحدث ; يقول : لست أهل ذاك . وأحسن
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين الثناء عليه .
وذكره الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل يوما فقال : رحمه الله ، ما كان أسخاه لقد جاد بنفسه لله ، عز وجل .
وقال
جعفر بن محمد الصائغ : بصر عيناي وإلا فعميتا ، وسمعت أذناي وإلا فصمتا
أحمد بن نصر الخزاعي حيث ضربت عنقه ، يقول رأسه : لا إله إلا الله .
وقد سمعه بعض الناس ، ورأسه مصلوب يقرأ على الجذع
الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ العنكبوت : 1 ، 2 ] قال : فاقشعر جلدي . ورآه بعضهم في النوم فقال له : ما فعل بك ربك ؟
[ ص: 317 ] فقال : ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلي .
ورأى بعض الناس في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه
أبو بكر وعمر وقد مروا على الجذع الذي عليه رأس
أحمد بن نصر ، فلما حاذوه أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه الكريم عنه ، فقيل له : يا رسول الله ما لك أعرضت عن
أحمد بن نصر ؟ فقال : استحياء منه حين قتله رجل من أهل بيتي .
ولم يزل رأس
أحمد بن نصر منصوبا
ببغداد من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين - إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين ، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من
بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية ، رحمه الله ، وذلك بأمر
المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه
nindex.php?page=showalam&ids=15465الواثق بالله وقد دخل
عبد العزيز بن يحيى الكناني صاحب كتاب " الحيدة " على أمير المؤمنين
المتوكل على الله وكان من خيار الخلفاء ; لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة ، بخلاف أخيه
الواثق ، وأبيه
المعتصم ، وعمه
المأمون فإنهم أساءوا إلى أهل السنة ، وقربوا
[ ص: 318 ] أهل البدع والضلال من
المعتزلة وغيرهم ، فأمره أن ينزل جثة
أحمد بن نصر ، ويدفنه ففعل ، وقد كان
المتوكل يكرم الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل إكراما زائدا جدا ، كما سيأتي بيانه في موضعه .
والمقصود أن
عبد العزيز الكناني قال
للمتوكل : يا أمير المؤمنين ، ما رئي أعجب من أمر
الواثق ; قتل
أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن . فوجد
المتوكل من ذلك ، وساءه ما سمع في أخيه
الواثق ، فلما دخل عليه الوزير
محمد بن عبد الملك بن الزيات ، قال له
المتوكل : في قلبي من قتل
أحمد بن نصر . فقال : يا أمير المؤمنين ، أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين
الواثق إلا كافرا . ودخل عليه
هرثمة فقال له في ذلك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قطعني الله إربا إربا إن قتله
الواثق إلا كافرا . ودخل عليه القاضي
أحمد بن أبي دؤاد ، فقال له مثل ذلك ، فقال : ضربني الله بالفالج إن قتله
الواثق إلا كافرا . قال المتوكل : فأما
ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار ، وأما
هرثمة فإنه هرب وتبدى فاجتاز بقبيلة
خزاعة فعرفه رجل من الحي ، فقال : يا معشر
خزاعة ، هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه . فقطعوه إربا إربا ، وأما
[ ص: 319 ] nindex.php?page=showalam&ids=12212ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده يعني بالفالج ضربه الله به قبل موته بأربع سنين ، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جدا ، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه .
وروى
أبو داود في كتاب " المسائل " عن
nindex.php?page=showalam&ids=12218أحمد بن إبراهيم الدورقي ، عن
أحمد بن نصر قال : سألت
سفيان بن عيينة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512737القلوب بين أصبعين من أصابع الله ، وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق " . فقال : ارووها كما جاءت بلا كيف .
وفي هذه السنة كان
الواثق قد عزم على الحج ، واستعد لذلك ، فذكر له أن الماء بالطريق قليل ، فترك الحج عامئذ .
وفيها تولى
جعفر بن دينار نيابة
اليمن ، فسار إليها في أربعة آلاف فارس .
وفيها عدا قوم من العامة على بيت المال فأخذوا منه شيئا من الذهب والفضة فأخذوا ، وسجنوا .
وفيها ظهر خارجي ببلاد
ربيعة ، فقاتله نائب
الموصل فكسره ، وانهزم بقية أصحابه .
[ ص: 320 ] وفيها قدم وصيف الخادم بجماعة من الأكراد نحوا من خمسمائة في القيود ، كانوا قد أفسدوا في الطرقات وقطعوها ، فأطلق الخليفة لوصيف الخادم خمسة وسبعين ألف دينار ، وخلع عليه خلعة سنية .
وفي هذه السنة قدم خاقان الخادم من بلاد
الروم ، وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين
الروم ، وقدم معه جماعة من رءوس أهل الثغور فأمر
الواثق بامتحانهم في القول بخلق القرآن ، وأن الله لا يرى في الآخرة ، فأجابوا إلا أربعة ، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يجيبوا بمثل ما أجاب به بقيتهم . وأمر
الواثق أيضا بامتحان الأسارى المسلمين الذين فودي عنهم بذلك ، فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودي ، وإلا ترك في أيدي الكفار ، وهذه بدعة صلعاء شنعاء عمياء صماء لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح ، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافها ، كما هو مقرر في موضعه ، وبالله المستعان .
وكان وقوع المفاداة عند نهر يقال له : اللامس . عند سلوقية بالقرب من
طرسوس بدل كل مسلم أو مسلمة في أيدي
الروم أو ذمي أو ذمية كان تحت عقد المسلمين - أسير من
الروم كان بأيدي المسلمين ممن لم يسلم ،
[ ص: 321 ] فنصبوا جسرين على النهر فإذا أرسل
الروم رجلا أو امرأة في جسرهم فانتهى إلى المسلمين كبر وكبر المسلمون . ويرسل المسلمون أسيرا من
الروم على جسرهم ، فإذا انتهى إليهم تكلم بكلام يشبه التكبير أيضا ، ولم يزالوا كذلك مدة أربعة أيام ، بدل كل نفس نفس ، ثم بقي مع
خاقان جماعة من
الروم الأسارى ، فأطلقهم
للروم ; ليكون له الفضل عليهم .
قال
ابن جرير : في هذه السنة مات
الحسن بن الحسين ، أخو
طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان . وفيها مات
الخطاب بن وجه الفلس ، وفيها مات
أبو عبد الله بن الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان ، وهو ابن ثمانين سنة ، وفيها ماتت
أم أبيها بنت موسى أخت
علي بن موسى الرضا ، وفيها مات
مخارق المغني ، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية
الأصمعي ، وعمرو بن أبي عمرو الشيباني ، ومحمد بن سعدان النحوي .