[ ص: 460 ] ثم دخلت
سنة ثمان وأربعين ومائتين
ففيها
أغزى المنتصر وصيفا التركي الصائفة لقتال الروم ; وذلك أن ملك
الروم قصد بلاد
الشام فعند ذلك جهز
المنتصر وصيفا وجهز معه جيشا كثيفا ورجالا وعددا وأمر بنفقات كثيرة ، وأمره إذا فرغ من قتال
الروم أن يقيم
بالثغر أربع سنين ، وكتب له إلى
محمد بن عبد الله بن طاهر ، نائب
العراق كتابا عظيما فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه .
وفي ليلة السبت لسبع بقين من صفر من هذه السنة المباركة خلع
أبو عبد الله محمد المعتز والمؤيد إبراهيم أخوا أمير المؤمنين ، وليا العهد أنفسهما من الخلافة ، وأشهدا عليهما بذلك ، وأنهما عاجزان عن الخلافة ، وأن المسلمين في حل من بيعتهما ، وذلك بعدما تهددهما أخوهما
المنتصر ، وتوعدهما بالقتل إن لم يفعلا ذلك ، ومقصوده تولية ابنه
عبد الوهاب بإشارة
[ ص: 461 ] أمراء
الأتراك بذلك ، وخطب بذلك على رءوس الأشهاد بحضرة القواد ، والقضاة ، وأعيان
بني هاشم والناس عامة ، وكتب بذلك إلى الآفاق والأقاليم ; ليعلموا بذلك ويخطبوا له بذلك على المنابر ، ويتوالى على محال الكتابة والله غالب على أمره ، فأراد أن يسلبهما الملك ويجعله في عقبه ، والأقدار تكذبه وتخالفه ; وذلك أنه لم يستكمل بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر ، ففي أواخر صفر من هذه السنة عرضت له علة ، كان فيها حتفه ، على ما سنذكره .
وقد كان
المنتصر رأى في منامه كأنه يصعد سلما ، فبلغ إلى آخر خمس وعشرين درجة ، فقصها على بعض المعبرين ، فقال له : هذه خمس وعشرون سنة تلي فيها الخلافة . وإذا هي مدة عمره ، قد استكملها في هذه السنة . وقال بعضهم : دخلنا عليه يوما فإذا هو يبكي وينتحب شديدا ، فسأله بعض أصحابه عن بكائه ، فقال : رأيت أبي
المتوكل في منامي هذا وهو يقول : ويلك يا
محمد قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي ، والله لا متعت بها بعدي إلا أياما يسيرة ثم مصيرك إلى النار . قال : فما أملك عيني ولا جزعي . فقال له بعض أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم : هذه رؤيا وهي تصدق وتكذب ،
[ ص: 462 ] فقم بنا إلى الشراب ; ليذهب همك وحزنك . فأمر بالشراب فأحضر وجاء ندماؤه ، فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة ، وما زال كذلك مكسورا حتى مات .
وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه ، فقيل : إنه أصابه داء في رأسه فقطر في أذنه دهن ، فلما وصل إلى دماغه عوجل بالموت . وقيل : بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات . وقيل : بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات . وقيل : بل فصده الحجام بمفصد مسموم فمات من يومه .
قال
ابن جرير أخبرني بعض أصحابنا أن هذا الحجام رجع إلى منزله وهو محموم ، فدعا تلميذا له ليفصده فأخذ مباضع أستاذه فاختار منها أجودها فإذا به ذلك المبضع المسموم الذي فصد به الخليفة ، ففصد أستاذه ، وهو لا يشعر ، وأنسى الله سبحانه الحجام ، فما ذكر حتى رآه قد فصده به ، وتحكم فيه السم فأوصى عند ذلك ومات من يومه .
وذكر
ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه ، وهو في مرضه الذي مات فيه ، فقالت له : كيف حالك ؟ فقال : ذهبت مني الدنيا والآخرة .
[ ص: 463 ] ويقال : إنه أنشد لما أحيط به وأيس من الحياة وهو في السياق :
فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها ولكن إلى الرب الكريم أصير
فمات يوم الأحد لخمس مضين من ربيع الآخر من هذه السنة ، وقت صلاة العصر ، عن خمس وعشرين سنة ، قيل : وستة أشهر . ولا خلاف أنه إنما ولي الخلافة ستة أشهر لا أزيد منها .
وذكر
ابن جرير عن بعض أصحابه أنه لم يزل يسمع الناس يقولون ، العامة وغيرهم حين ولي
المنتصر : إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر ، كما مكث
شيرويه بن كسرى حين قتل أباه لأجل الملك ، وكذلك وقع سواء .
وقد كان
المنتصر أعين أقنى قصيرا مهيبا جيد البدن ، وهو أول خليفة من
بني العباس أبرز قبره ، وذلك بإشارة أمه
حبشية الرومية .
ومن جيد كلامه قوله : والله ما عز ذو باطل قط ، ولو طلع القمر من جبينه ، ولا ذل ذو حق قط ، ولو أصفق العالم عليه .