صفحة جزء
فصل

فيما اعترض به المشركون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما تعنتوا عليه في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات ، وخرق العادات ، على وجه العناد ، لا على وجه طلب الهدى والرشاد ; فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا ، ولا ما إليه رغبوا ; لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا ، لاستمروا في طغيانهم يعمهون ، ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون .

قال الله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون . [ الأنعام : 109 - 111 ] وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 96 - 97 ] [ ص: 127 ] وقال تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [ الإسراء : 59 ] وقال تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ الإسراء : 90 - 93 ] . وقد تكلمنا على هذه الآيات وما يشابهها في أماكنها في التفسير ولله الحمد .

وقد روى يونس وزياد عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم وهو شيخ من أهل مصر يقال له : محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : اجتمع علية من أشراف قريش وعدد أسماءهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه . فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك . فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعا ، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء ، وكان حريصا يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك ، وإنا والله لا [ ص: 128 ] نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ; لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وسفهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرقت الجماعة ، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فربما كان ذلك ، بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل علي كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا نذيرا ، فبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم " . أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك ، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ، ولا أقل مالا ، ولا أشد عيشا منا . فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ; فإنه كان شيخا صدوقا ، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل ؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك ، صدقناك وعرفنا به منزلتك [ ص: 129 ] عند الله ، وأنه بعثك رسولا كما تقول . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما بهذا بعثت ، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به ، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " . قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك ; فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وتسأله فيجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ، ويغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم في الأسواق ، وتلتمس المعايش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك ، إن كنت رسولا كما تزعم . فقال لهم : " ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فإن تقبلوا ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " . قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل . فقال : " ذلك إلى الله ، إن شاء فعل بكم ذلك " . فقالوا : يا محمد ، ما علم ربك أنا سنجلس معك ، ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به ؟ فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة ، يقال له : الرحمن . وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا . وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، وهي بنات الله ، وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله [ ص: 130 ] والملائكة قبيلا . فلما قالوا ذلك ، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمد ، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ; ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب ، فوالله لا أومن لك أبدا ، حتى تتخذ إلى السماء سلما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة ، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم الله ، لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك . ثم انصرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله حزينا أسفا ; لما فاته مما طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه

وهذا المجلس الذي اجتمع عليه هؤلاء الملأ مجلس ظلم وعدوان وعناد ، ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ألا يجابوا لي ما سألوا ; لأن الله علم أنهم لا يؤمنون بذلك ، فيعاجلهم بالعذاب .

كما قال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا ، فقيل له : إن شئت أن [ ص: 131 ] تستأني بهم ، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم . قال : " لا ، بل أستأني بهم " . فأنزل الله تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها [ الإسراء : 59 ] الآية وهكذا رواه النسائي من حديث جرير به .

وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران أبي الحكم عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك . قال : " وتفعلون ؟ " . قالوا : نعم قال : فدعا ، فأتاه جبريل ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة . قال : " بل التوبة والرحمة " . وهذان إسنادان جيدان ، وقد جاء مرسلا عن جماعة من التابعين ; منهم سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغير واحد .

[ ص: 132 ] وروى الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عرض علي ربي عز وجل أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : لا يا رب ، أشبع يوما وأجوع يوما أو نحو ذلك فإذا جعت ، تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت ، حمدتك وشكرتك " . لفظ أحمد . وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وعلي بن يزيد يضعف في الحديث .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهما : سلوهم عن محمد وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالت لهم أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم ; سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب ، وسلوه عن رجل طواف [ ص: 133 ] طاف مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ، ما هي ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فهو رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور . فأخبراهم بها . فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، أخبرنا . فسألوه عما أمروهم به . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أخبركم غدا بما سألتم عنه " . ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله تعالى : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء : 85 ] وقد تكلمنا على ذلك كله في " التفسير " مطولا فمن أراده فعليه بكشفه من هناك . [ ص: 134 ] ونزل قوله : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا [ الكهف : 9 ] . ثم شرع في تفصيل أمرهم ، واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء ، تحقيقا لا تعليقا ، في قوله ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت [ الكهف : 23 ، 24 ] ثم ذكر قصة موسى ; لتعلقها بقصة الخضر ثم ذي القرنين ثم قال : ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا [ الكهف : 83 ] ثم شرح أمره ، وحكى خبره ، وقال في سورة " سبحان " : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي أي خلق عجيب من خلقه ، وأمر من أمره ، قال لها : كوني . فكانت ، وليس لكم الاطلاع على كل ما خلقه ، وتفسير كيفيته في نفس الأمر يصعب عليكم ، بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته ; ولهذا قال وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء : 85 ] وقد ثبت في " الصحيحين " أن اليهود سألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فتلا عليهم هذه الآية . فإما أنها نزلت مرة ثانية ، أو ذكرها جوابا ، وإن كان نزولها متقدما ، ومن قال : إنها إنما نزلت بالمدينة . واستثناها من سورة " سبحان " ، ففي قوله نظر . والله أعلم .

قال ابن إسحاق : ولما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع [ ص: 135 ] قومه ، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة ، وبمكانها منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه ، فقال :


ولما رأيت القوم لا ود فيهم وقد قطعوا كل العرى والوسائل     وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل     وقد حالفوا قوما علينا أظنة
يعضون غيظا خلفنا بالأنامل     صبرت لهم نفسي بسمراء . سمحة
وأبيض عضب من تراث المقاول     وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل     قياما معا مستقبلين رتاجه
لدى حيث يقضي حلفه كل نافل     وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم
بمفضى السيول من إساف ونائل     موسمة الأعضاد أو قصراتها
مخيسة بين السديس وبازل     ترى الودع فيها والرخام وزينة
بأعناقها معقودة كالعثاكل     أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل [ ص: 136 ]     ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول     وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه
وراق لبر في حراء ونازل     وبالبيت حق البيت من بطن مكة
وبالله إن الله ليس بغافل     وبالحجر المسود إذ يمسحونه
إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل     وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة
على قدميه حافيا غير ناعل     وأشواط بين المروتين إلى الصفا
وما فيهما من صورة وتماثل     ومن حج بيت الله من كل راكب
ومن كل ذي نذر ومن كل راجل     وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له
إلالا إلى مفضى الشراج القوابل     وتوقافهم فوق الجبال عشية
يقيمون بالأيدي صدور الرواحل     وليلة جمع والمنازل من منى
وهل فوقها من حرمة ومنازل     وجمع إذا ما المقربات أجزنه
سراعا كما يخرجن من وقع وابل     وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها
يؤمون . قذفا رأسها بالجنادل     وكندة إذ هم بالحصاب عشية
تجيز بهم حجاج بكر بن وائل [ ص: 137 ]     حليفان شدا عقد ما احتلفا له
وردا عليه عاطفات الوسائل     وحطمهم سمر الصفاح وسرحه
وشبرقه وخد النعام الجوافل     فهل بعد هذا من معاذ لعائذ
وهل من معيذ يتقي الله عاذل     يطاع بنا العدى وودوا لو اننا
تسد بنا أبواب ترك وكابل     كذبتم وبيت الله نترك مكة
ونظعن إلا أمركم في بلابل     كذبتم وبيت الله نبزى محمدا
ولما نطاعن دونه ونناضل     ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل     وينهض قوم بالحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل     وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه
من الطعن فعل الأنكب المتحامل     وإنا لعمر الله إن جد ما أرى
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل     بكفي فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقة حامي الحقيقة باسل     شهورا وأياما وحولا مجرما
علينا وتأتي حجة بعد قابل [ ص: 138 ]     وما ترك قوم لا أبا لك سيدا
يحوط الذمار غير ذرب مواكل     وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل     يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في رحمة وفواضل     لعمري لقد أجرى أسيد وبكره
إلى بغضنا وجزآنا لآكل     وعثمان لم يربع علينا وقنفذ
ولكن أطاعا أمر تلك القبائل     أطاعا أبيا وابن عبد يغوثهم
ولم يرقبا فينا مقالة قائل     كما قد لقينا من سبيع ونوفل
وكل تولى معرضا لم يجامل     فإن يلفيا أو يمكن الله منهما
نكل لهما صاعا بصاع المكايل .     وذاك أبو عمرو أبى غير بغضنا
ليظعننا في أهل شاء وجامل     يناجي بنا في كل ممسى ومصبح
فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل     ويؤلي لنا بالله ما إن يغشنا
بلى قد نراه جهرة غير حائل     أضاق عليه بغضنا كل تلعة
من الأرض بين أخشب فمجادل [ ص: 139 ]     وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا
بسعيك فينا معرضا كالمخاتل     وكنت امرأ ممن يعاش برأيه
ورحمته فينا ولست بجاهل     فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح
حسود كذوب مبغض ذي دغاول     ومر أبو سفيان عني معرضا
كما مر قيل من عظام المقاول     يفر إلى نجد وبرد مياهه
ويزعم أني لست عنكم بغافل     ويخبرنا فعل المناصح أنه
شفيق ويخفي عارمات الدواخل     أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة
ولا معظم عند الأمور الجلائل     ولا يوم خصم إذ أتوك ألدة
أولي جدل من الخصوم المساجل     أمطعم إن القوم ساموك خطة
وإني متى أوكل فلست بوائل     جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
عقوبة شر عاجلا غير آجل     بميزان قسط لا يخس شعيرة
له شاهد من نفسه غير عائل     لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا
بني خلف قيضا بنا والغياطل     ونحن الصميم من ذؤابة هاشم
وآل قصي في الخطوب الأوائل [ ص: 140 ]     وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا
علينا العدى من كل طمل وخامل     فعبد مناف أنتم خير قومكم
فلا تشركوا في أمركم كل واغل     لعمري لقد وهنتم وعجزتم
وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل     وكنتم حديثا حطب قدر وأنتم
ألان حطاب أقدر ومراجل     ليهن بني عبد مناف عقوقنا
. وخذلاننا وتركنا في المعاقل     فإن نك قوما نتئر ما صنعتم
وتحتلبوها لقحة غير باهل     وسائط كانت في لؤي بن غالب
نفاهم إلينا كل صقر حلاحل     ورهط نفيل شر من وطئ الحصى
وألأم حاف من معد وناعل     فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا
وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل     ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة
إذا ما لجأنا دونهم في المداخل     ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم
لكنا أسى عند النساء المطافل     فكل صديق وابن أخت نعده
لعمري وجدنا غبه غير طائل [ ص: 141 ]     سوى أن رهطا من كلاب بن مرة
براء إلينا من معقة خاذل     وهنا لهم حتى تبدد جمعهم
ويحسر عنا كل باغ وجاهل     وكان لنا حوض السقاية فيهم
ونحن الكدى من غالب والكواهل     شباب من المطيبين وهاشم
كبيض السيوف بين أيدي الصياقل     فما أدركوا ذحلا ولا سفكوا دما
ولا حالفوا إلا شرار القبائل     بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم
ضواري أسود فوق لحم خرادل     بني أمة محبوبة هندكية
بني جمح عبيد قيس بن عاقل     ولكننا نسل كرام لسادة
بهم نعي الأقوام عند البواطل     ونعم ابن أخت القوم غير مكذب
زهير حساما مفردا من حمائل     أشم من الشم البهاليل ينتمي
إلى حسب في حومة المجد فاضل     لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
وإخوته دأب المحب المواصل     فمن مثله في الناس أي مؤمل
إذا قاسه الحكام عند التفاضل      [ ص: 142 ] حليم رشيد عادل غير طائش
يوالي إلها ليس عنه بغافل     كريم المساعي ماجد وابن ماجد
له إرث مجد ثابت غير ناصل     وأيده رب . العباد بنصره
وأظهر دينا حقه غير زائل     فوالله لولا أن أجيء بسبة
تجر على أشياخنا في المحافل     لكنا اتبعناه على كل حالة
من الدهر جدا غير قول التهازل     لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل     فأصبح فينا أحمد في أرومة
تقصر عنها سورة المتطاول     حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة ، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها .

قلت : هذه قصيدة عظيمة فصيحة بليغة جدا ; لا يستطيع أن يقولها إلا [ ص: 143 ] من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلقات السبع ، وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعا ، وقد أوردها الأموي في " مغازيه " مطولة بزيادات أخر . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية