[ ص: 144 ] فصل (
تعذيب قريش للمسلمين لاتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام )
قال
ابن إسحاق : ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء
مكة إذا اشتد الحر ; من استضعفوه منهم ، يفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم ، ومنهم من يصلب لهم ، ويعصمه الله منهم ، فكان
بلال مولى
أبي بكر لبعض
بني جمح مولدا من مولديهم ، وهو
بلال بن رباح وكان اسم أمه
حمامة ، وكان صادق الإسلام ، طاهر القلب ، وكان
أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا والله لا تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر
بمحمد ، وتعبد اللات والعزى . فيقول وهو في ذلك : أحد أحد .
قال
ابن إسحاق فحدثني
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة عن أبيه ، قال : كان
ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك ، وهو يقول : أحد أحد ، فيقول : أحد أحد والله يا
بلال . ثم يقبل على
أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من
بني جمح ، فيقول :
[ ص: 145 ] أحلف بالله ، لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا .
قلت : قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن
ورقة توفي بعد البعثة في فترة الوحي ، وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول
يا أيها المدثر فكيف يمر
ورقة ببلال وهو يعذب ؟ وفيه نظر . ثم ذكر
ابن إسحاق مرور أبي بكر ببلال وهو يعذب ، فاشتراه من
أمية بعبد له أسود ، فأعتقه وأراحه من العذاب ، وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والإماء ; منهم
بلال وعامر بن فهيرة وأم عبيس ، وزنيرة التي أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها ،
والنهدية وابنتها اشتراهما من
بني عبد الدار ، بعثتهما سيدتهما تطحنان لها ، فسمعها وهي تقول لهما : والله لا أعتقكما أبدا . فقال
أبو بكر : حلا يا أم فلان . فقالت : حلا ، أنت أفسدتهما فأعتقهما . قال : فبكم هما ؟ قالت : بكذا وكذا . قال : قد أخذتهما ، وهما حرتان ، أرجعا إليها طحينها . قالتا : أو نفرغ منه يا
أبا بكر ثم نرده إليها ؟ قال : ذلك إن شئتما : واشترى جارية
بني مؤمل حي من
بني عدي كان
عمر يضربها على الإسلام .
[ ص: 146 ] قال
ابن إسحاق : فحدثني
محمد بن عبد الله بن أبي عتيق عن
nindex.php?page=showalam&ids=16281عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله ، قال : قال
أبو قحافة لأبي بكر : يا بني ، إني أراك تعتق ضعافا ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك . قال : فقال
أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد ما أريد . قال : فيتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه
فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى [ الليل : 57 ] إلى آخر السورة .
وقد تقدم ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم بن بهدلة عن
زر عن
ابن مسعود قال :
أول من أظهر الإسلام سبعة ; رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأبو بكر وعمار وأمه
سمية ، وصهيب وبلال nindex.php?page=showalam&ids=53والمقداد فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه
وأبو بكر منعه الله بقومه ، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد ، وصهروهم في الشمس ، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا
بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى ، وهان على قومه ، فأخذوه فأعطوه الولدان ، فجعلوا يطوفون به في شعاب
مكة وهو يقول : أحد أحد . ورواه
الثوري عن
منصور عن
مجاهد مرسلا .
قال
ابن إسحاق nindex.php?page=hadith&LINKID=3510078 : وكانت بنو مخزوم يخرجون nindex.php?page=showalam&ids=56بعمار بن ياسر وبأبيه [ ص: 147 ] وأمه وكانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول فيما بلغني : صبرا آل ياسر موعدكم الجنة
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم عن
إبراهيم بن عصمة العدل حدثنا
السري بن خزيمة حدثنا
مسلم بن إبراهيم حدثنا
هشام بن أبي عبيد الله عن
nindex.php?page=showalam&ids=11862أبي الزبير عن
جابر nindex.php?page=hadith&LINKID=3510079أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار وأهله وهم يعذبون ، فقال : " أبشروا آل عمار وآل ياسر ، فإن موعدكم الجنة " . فأما أمه فقتلوها ; تأبى إلا الإسلام .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع عن
سفيان عن
منصور عن
مجاهد قال :
أول شهيد كان في الإسلام استشهد
أم عمار سمية ، طعنها
أبو جهل بحربة في قبلها . وهذا مرسل .
قال
محمد بن إسحاق : وكان
أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من
قريش ، إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة ، أنبه وخزاه ، وقال : تركت دين أبيك ، وهو خير منك ، لنسفهن حلمك ، ولنفيلن رأيك ،
[ ص: 148 ] ولنضعن شرفك . وإن كان تاجرا قال : والله لنكسدن تجارتك ، ولنهلكن مالك . وإن كان ضعيفا ضربه ، وأغرى به . لعنه الله وقبحه .
قال
ابن إسحاق : وحدثني
حكيم بن جبير عن
سعيد بن جبير ، قال : قلت
nindex.php?page=showalam&ids=11لعبد الله بن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال : نعم والله ، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ، حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ، حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم . افتداء منهم ; مما يبلغون من جهدهم .
قلت : وفي مثل هذا أنزل الله تعالى :
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم الآية [ النحل : 106 ] فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ . أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : حدثنا
أبو معاوية حدثنا
الأعمش عن
مسلم عن
مسروق عن
خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا ، وكان لي على
العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال : لا والله ، لا أقضيك حتى تكفر
[ ص: 149 ] بمحمد . فقلت : لا والله لا أكفر
بمحمد حتى تموت ، ثم تبعث . قال : فإني إذا مت ثم بعثت ، جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك . فأنزل الله تعالى
أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله
ونرثه ما يقول ويأتينا فردا [ مريم : 77 - 80 ] أخرجاه في " الصحيحين " ، وغيرهما من طرق ، عن
الأعمش به . وفي لفظ
nindex.php?page=showalam&ids=12070للبخاري : كنت قينا
بمكة فعملت
للعاص بن وائل سيفا ، فجئت أتقاضاه . فذكر الحديث .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14171الحميدي حدثنا
سفيان حدثنا
بيان وإسماعيل قالا : سمعنا
قيسا يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3510080سمعت خبابا يقول : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت ألا تدعو الله ؟ فقعد وهو محمر الوجه ، فقال : " قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، ما يخاف إلا الله عز وجل " . زاد بيان
" والذئب على غنمه " وفي
[ ص: 150 ] رواية :
" ولكنكم تستعجلون " . انفرد به
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري دون
مسلم . وقد روى من وجه آخر عن
خباب وهو مختصر من هذا . والله أعلم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : حدثنا
عبد الرحمن عن
سفيان . ح
وابن جعفر حدثنا
شعبة عن
أبي إسحاق عن
سعيد بن وهب عن
خباب قال :
شكونا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شدة الرمضاء ، فما أشكانا . يعني في الصلاة ، وقال
ابن جعفر : فلم يشكنا . وقال أيضا : حدثنا
سليمان بن داود حدثنا
شعبة عن
أبي إسحاق قال : سمعت
سعيد بن وهب يقول : سمعت
خبابا يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3510081شكونا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شدة الرمضاء ، فلم يشكنا . قال
شعبة : يعني في الظهر . ورواه
مسلم nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبي إسحاق السبيعي عن
سعيد بن وهب عن
خباب قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3510082شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء . زاد nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : في وجوهنا وأكفنا ، فلم يشكنا . وفي رواية
nindex.php?page=hadith&LINKID=3510083 : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في الرمضاء ، فلم يشكنا . ورواه
ابن [ ص: 151 ] ماجه عن
nindex.php?page=showalam&ids=14714علي بن محمد الطنافسي عن
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع عن
الأعمش عن
أبي إسحاق عن
حارثة بن مضرب العبدي عن
خباب قال :
شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء ، فلم يشكنا . والذي يقع لي والله أعلم أن هذا الحديث مختصر من الأول ، وهو أنهم شكوا إليه - صلى الله عليه وسلم - ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء ، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم ، وغير ذلك من أنواع العذاب ، كما تقدم عن
ابن إسحاق وغيره ، وسألوا منه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله لهم على المشركين ، أو يستنصر عليهم ، فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة ، وأخبرهم عمن كان قبلهم ; أنهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم ، ولا يصرفهم ذلك عن دينهم ، ويبشرهم أن الله سيتم هذا الأمر ، ويظهره ، ويعليه ، وينشره ، وينصره في الأقاليم والآفاق ، حتى يسير الراكب من
صنعاء إلى
حضرموت ، لا يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ; ولهذا قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3510084شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا ، فلم يشكنا أي لم يدع لنا في الساعة الراهنة ، فمن استدل بهذا الحديث على عدم الإبراد أو على وجوب مباشرة المصلي بالكف ، كما هو أحد قولي
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ففيه نظر . والله أعلم .