[ ص: 255 ] قصة مصارعة ركانة وكيف أراه الشجرة التي دعاها فأقبلت - صلى الله عليه وسلم - .
قال
ابن إسحاق وحدثني
أبي إسحاق بن يسار قال : وكان
ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد
قريش ، فخلا يوما برسول الله في بعض شعاب
مكة ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه ؟ " قال : إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفرأيت إن صرعتك ، أتعلم أن ما أقول حق ؟ " . قال : نعم . قال : " فقم حتى أصارعك " . قال : فقام ركانة إليه فصارعه ، فلما بطش به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضجعه لا يملك من نفسه شيئا ، ثم قال : عد يا محمد . فعاد فصرعه ، فقال : يا محمد ، والله إن هذا للعجب أتصرعني ؟ ! قال : " وأعجب من ذلك إن شئت أريكه ، إن اتقيت الله واتبعت أمري " . قال وما هو ؟ قال : أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني " . قال : ادعها . فدعاها ، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال لها : " ارجعي إلى مكانك " . فرجعت إلى مكانها ، قال : فذهب ركانة إلى قومه . فقال : يا بني عبد مناف ، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض ، فوالله ما رأيت أسحر منه [ ص: 256 ] قط . ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع . هكذا روى
ابن إسحاق هذه القصة مرسلة بهذا السياق . وقد روى
أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي من حديث
أبي الحسن العسقلاني عن
أبي جعفر بن
محمد بن ركانة عن أبيه ،
أن ركانة صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم قال
الترمذي : غريب ، ولا نعرف
أبا الحسن ولا
ابن ركانة .
قلت : وقد روى
أبو بكر الشافعي بإسناد جيد ، عن
ابن عباس رضي الله عنهما ،
أن يزيد بن ركانة صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، كل مرة على مائة من الغنم ، فلما كان في الثالثة ، قال : يا محمد ، ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك ، وما كان أحد أبغض إلي منك ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . فقام عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد عليه غنمه .
وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت ، فسيأتي في كتاب " دلائل النبوة " بعد السيرة ، من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة إن شاء الله ، وبه الثقة . وقد تقدم عن
أبي الأشدين أنه صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثم ذكر
ابن إسحاق قصة قدوم
النصارى من
أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا إلى
مكة فأسلموا عن آخرهم ، وقد تقدم ذلك بعد قصة
النجاشي [ ص: 257 ] ولله الحمد والمنة .
قال
ابن إسحاق : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في المسجد ، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه ;
خباب وعمار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية وصهيب وأشباههم من المسلمين ، هزئت بهم
قريش ، وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون ، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق ؟ ! لو كان ما جاء به
محمد خيرا ، ما سبقنا هؤلاء إليه ، وما خصهم الله به دوننا . فأنزل الله عز وجل فيهم :
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم [ الأنعام : 52 - 54 ] . قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يجلس عند
المروة إلى مبيعة غلام نصراني ، يقال له :
جبر . عبد
لبني الحضرمي ، وكانوا يقولون : والله ما يعلم
محمدا كثيرا مما يأتي به إلا
جبر . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم :
[ ص: 258 ] إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ]
ثم ذكر
نزول سورة " الكوثر " في
العاص بن وائل حين قال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه أبتر ، لا عقب له ; فإذا مات انقطع ذكره . فقال الله تعالى :
إن شانئك هو الأبتر [ الكوثر : 3 ] . أي المقطوع الذكر بعده ، ولو خلف ألوفا من النسل والذرية ، وليس الذكر والصيت ولسان الصدق بكثرة الأولاد والأنسال والعقب ، وقد تكلمنا على هذه السورة في " التفسير " ولله الحمد .
وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11958أبي جعفر الباقر أن
العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات
القاسم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان قد بلغ أن يركب الدابة ، ويسير على
النجيبة .
ثم ذكر
نزول قوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر [ الأنعام : 8 ] ، وذلك بسبب قول
أبي بن خلف وزمعة بن الأسود والعاص بن وائل والنضر بن الحارث : لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك .
[ ص: 259 ] قال
ابن إسحاق : ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا
بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل بن هشام فهمزوه ، واستهزؤوا به ، فغاظه ذلك ، فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم :
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ الأنعام : 10 ]
قلت : وقال الله تعالى :
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين [ الأنعام : 34 ] . وقال تعالى :
إنا كفيناك المستهزئين [ الحجر : 95 ] . قال
سفيان : عن
nindex.php?page=showalam&ids=11937جعفر بن إياس عن
سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال : المستهزئون :
الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب أبو زمعة والحارث بن عيطل والعاص بن وائل السهمي فأتاه
جبريل ، فشكاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأراه
الوليد فأشار
جبريل إلى أبجله ، وقال : كفيته . ثم أراه
[ ص: 260 ] الأسود بن المطلب فأومأ إلى عنقه ، وقال : كفيته . ثم أراه
الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه ، وقال : كفيته . ثم أراه
الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه ، وقال : كفيته . ومر به
العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه ، وقال : كفيته . فأما
الوليد فمر برجل من
خزاعة وهو يريش نبلا له ، فأصاب أبجله فقطعها ، وأما
الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح ، فمات منها ، وأما
الأسود بن المطلب فعمي ، وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة ، فجعل يقول : يا بني ، ألا تدفعون عني ، قد قتلت . فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا . وجعل يقول : يا بني ، ألا تمنعون عني ، قد هلكت ، ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني . فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا . فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه . وأما
الحارث بن عيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه ، فمات منها ، وأما
العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوما ، إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها ، فمات منها . وقال غيره في هذا الحديث : فركب إلى
الطائف على حمار فربض به على شبرقة يعني شوكة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي بنحو من هذا السياق .
[ ص: 261 ] وقال
ابن إسحاق : وكان عظماء المستهزئين كما حدثني
يزيد بن رومان عن
عروة بن الزبير خمسة نفر ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم ;
nindex.php?page=hadith&LINKID=3510125الأسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده " . والأسود بن عبد يغوث والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والحارث بن الطلاطلة . وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم :
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون [ الحجر : 94 - 96 ] . وذكر أن
جبريل أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يطوفون
بالبيت ، فقام وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه ، فمر به
الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ، ومر به
الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه ، فمات منه حبنا ، ومر به
الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه ، كان أصابه قبل ذلك بسنين ، من مروره برجل يريش نبلا له من
خزاعة ، فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشا يسيرا ، فانتقض بعد ذلك ، فمات ، ومر به
العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله ، فخرج على حمار له يريد
الطائف ، فربض به على
[ ص: 262 ] شبرقة ، فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته ، ومر به
الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا فقتله .
ثم ذكر
ابن إسحاق : أن
الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة ; وهم
خالد وهشام والوليد فقال لهم : أي بني ، أوصيكم بثلاث ; دمي في
خزاعة فلا تطلوه ، والله إني لأعلم أنهم منه براء ، ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم ، ورباي في
ثقيف ، فلا تدعوه حتى تأخذوه ، وعقري عند
أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به ، وكان
أبو أزيهر قد زوج
الوليد بنتا له ، ثم أمسكها عنه ، فلم يدخلها عليه حتى مات ، وكان قد قبض عقرها منه ، وهو صداقها ، فلما مات
الوليد وثبت
بنو مخزوم على
خزاعة يلتمسون منهم عقل
الوليد وقالوا : إنما قتله سهم صاحبكم . فأبت عليهم
خزاعة ذلك ، حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الأمر ، ثم أعطتهم
خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا .
[ ص: 263 ] قال
ابن إسحاق : ثم عدا
هشام بن الوليد على
أبي أزيهر وهو
بسوق ذي المجاز فقتله ، وكان شريفا في قومه ، وكانت ابنته تحت
أبي سفيان وذلك بعد
بدر فعمد
يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس
لبني مخزوم ، وكان أبوه غائبا ، فلما جاء
أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه
يزيد فلامه على ذلك وضربه ، وودى
أبا أزيهر وقال لابنه : أعمدت إلى أن تقتل
قريش بعضها بعضا في رجل من
دوس ! وكتب
حسان بن ثابت قصيدة له يحرض
أبا سفيان في دم
أبي أزيهر فقال : بئس ما ظن
حسان أن يقتل بعضنا بعضا ، وقد ذهب أشرافنا يوم
بدر ، ولما أسلم
خالد بن الوليد وشهد
الطائف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله في ربا أبيه من
أهل الطائف .
قال
ابن إسحاق : فذكر لي بعض أهل العلم ، أن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك :
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين [ البقرة : 278 ] وما بعدها .
قال
ابن إسحاق : ولم يكن في
بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجز الإسلام
[ ص: 264 ] بين الناس ، إلا أن ضرار
بن الخطاب بن مرداس الفهري خرج في نفر من
قريش إلى أرض
دوس ، فنزلوا على امرأة يقال لها :
أم غيلان مولاة
لدوس ، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس ، فأرادت
دوس قتلهم
بأبي أزيهر فقامت دونه
أم غيلان ، ونسوة كن معها حتى منعتهم . قال
السهيلي : يقال : إنها أدخلته بين درعها وبدنها .
قال
ابن هشام : فلما كانت أيام
عمر بن الخطاب أتته
أم غيلان ، وهي ترى أن
ضرارا أخوه ، فقال لها
عمر : لست بأخيه إلا في الإسلام ، وقد عرفت منتك عليه . فأعطاها على أنها بنت سبيل .
قال
ابن هشام وكان
ضرار بن الخطاب لحق
عمر بن الخطاب يوم أحد ، فجعل يضربه بعرض الرمح ، ويقول : انج يا
بن الخطاب لا أقتلك . فكان
عمر يعرفها له بعد الإسلام ، رضي الله عنهما .