[ ص: 480 ] فصل في
وفاة الملك العادل nindex.php?page=showalam&ids=17217نور الدين محمود زنكي بن آق سنقر التركي السلجوقي في هذه السنة ، وذكر شيء من مسيرته العادلة وأيامه الكاملة
هو الملك العادل
نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك الأتابك قسيم الدولة
عماد الدين أبي سعيد زنكي ، الملقب بالشهيد بن الملك آق سنقر الأتابك الملقب بقسيم الدولة أيضا التركي السلجوقي مولاهم ، ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة
بحلب ، ونشأ في كفالة والده صاحب
حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة وتعلم الفروسية والرمي ، وكان شهما شجاعا ذا همة عالية وقصد صالح وحرمة وافرة وديانة متينة ، فلما قتل أبوه سنة إحدى وأربعين وهو محاصر
جعبر كما ذكرنا صار الملك
بحلب إلى ابنه هذا وأعطاه أخوه
سيف الدين غازي الموصل كما تقدم .
ثم افتتح الملك
نور الدين دمشق في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد والربط ووسع الطرق والأسواق ، ووضع المكوس بدار البطيخ والغنم والعرصة وغير ذلك وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم ويحسن إليهم ، ويقوم في أحكامه
[ ص: 481 ] بالمعدلة الحسنة واتباع الشرع المطهر ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه ويجتمع إليه القاضي والفقهاء والمفتون من سائر المذاهب ، ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق الذي بالكشك ; ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة وأحاط السور على حارة اليهود ، وكان خرابا وأغلق باب
كيسان وفتح باب
الفرج ولم يكن قبله هناك باب بالكلية ، وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة ، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة ، حي على الفلاح ، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده ، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل ; لأن شعار الرفض كان ظاهرا بها . وأقام الحدود وفتح الحصون
وكسر الفرنج غير مرة ، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من بلاد المسلمين ، كما تقدم بسط ذلك في السنين المتقدمة في أيامه .
وأقطع أمراء العرب إقطاعات ; لئلا يتعرضوا للحجيج ، وبنى
بدمشق مارستانا حسنا لم يبن في
الشام قبله مثله ولا بعده أيضا ، ووقف وقفا على من يعلم الأيتام الخط والقرآن ، وجعل لهم نفقة وكسوة وعلى من يقرئ الأيتام وعلى المجاورين بالحرمين .
وكان الجامع داثرا فولى نظره القاضي
كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري الموصلي الذي قدم به فولاه قضاء القضاة
بدمشق فأصلح أموره وفتح المشاهد الأربعة ، وقد كانت حواصل الجامع بها من حين احترق سنة إحدى وستين وأربعمائة ، وأضاف إلى أوقاف الجامع المعلومة الأوقاف التي لا يعرف واقفوها ، ولا يعرف شروطهم فيها وجعلها قلما واحدا ، وسماه مال
[ ص: 482 ] المصالح فرتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك وشاكله .
وقد كان الملك
نور الدين حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية ، متبعا للآثار النبوية ، محافظا على الصلوات في الجماعات ، كثير التلاوة محبا لفعل الخيرات ، عفيف البطن والفرج ، مقتصدا في الإنفاق على نفسه وأهله وعياله في المطعم والملبس ، ولم تسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير : لم يكن في ملوك الإسلام بعد
عمر بن عبد العزيز مثل الملك
نور الدين ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه ، كان قد استفتى العلماء في مقدار يحل له في بيت المال فكان يتناوله لا يزيد عليه . وكانت له دكاكين
بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم ، فزاد كراءها لامرأته على نفقتها حين استقلتها عليها .
وكان يكثر اللعب بالكرة ، فعاتبه بعض الصالحين في ذلك فقال : إنما أريد تمرين الخيل وتعليمها الكر والفر . وكان لا يلبس الحرير ، ويأكل من كسب يده رحمه الله .
وركب يوما مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما ، وظلها بين أيديهما لا يدركانه ، ثم رجعا فصار الظل وراءهم ، فساق الملك
نور الدين وجعل يلتفت وظله يتبعه ، ثم قال لصاحبه : قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا ، تهرب ممن
[ ص: 483 ] يطلبها وتطلب من يهرب منها . وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى :
مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعا
فإذا وليت عنه تبعك
وكان فقيها على مذهب
أبي حنيفة ، وسمع الحديث وأسمعه وكان كثير الصلاة بالليل من وقت السحر إلى أن يركب :
جمع الشجاعة والخشوع لديه ما أحسن المحراب في المحراب
وكذلك كانت زوجته
عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين أنر ، تكثر قيام الليل فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى ، فسألها عن أمرها فذكرت ما حصل لها من النوم الذي قطعها عن وردها ، فأمر بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر ; ليوقظها وأمثالها من النوم لقيام الليل :
وألبس الله هاتيك العظام وإن بلين تحت الثرى عفوا وغفرانا
سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت مثوى قبورهم روحا وريحانا
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير أن الملك
نور الدين بينما هو يوما يلعب بالكرة إذ رأى رجلا يحدث آخر ويومئ إليه فبعث الحاجب ; ليسأله ما شأنه فإذا هو رجل معه رسول من جهة
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم ، وهو يزعم أن له على الملك
نور الدين حقا يريد
[ ص: 484 ] خلوته وإياه إلى القاضي ، فلما أعلمه الحاجب بذلك ألقى الجوكان من يده ، وأقبل مع خصمه إلى القاضي
كمال الدين الشهرزوري ، وقد أرسل إليه من أثناء الطريق أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم ، فحين وصلا وقف
نور الدين مع خصمه حتى انفصلت الحكومة ، ولم يثبت للرجل حق بل ثبت الحق للسلطان ، فلما تبين ذلك قال السلطان : إنما جئت معه ; لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع ، فإنما نحن شحنكية بين يديه ، وأنا أعلم أنه لا حق له عندي ، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك ووهبته له .
وأرسل القاضي
تاج الدين رسولا من جهته يقال له : سويد . ليحضر الملك
نور الدين إلى مجلس الحكم ; لسماع دعوى من رجل عليه ، فبلغ سويد الرسالة إلى الحاجب ، فدخل عليه وهو يضحك ويقول : ليقم المولى إلى القاضي لسماع دعوى . وكأنه يستهزئ بذلك ، فقال له الملك : وما لك تستهزئ بذلك! ثم قال : ائتوني بفرسي . فنهض وهو يقول :
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا [ النور : 51 ] وذهب إلى الحاكم وكان يوما مطرا كثير الوحل رحمه الله تعالى .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير : وهو أول من ابتنى دارا للعدل ، فكان يجلس فيها في الأسبوع يومين ، وقيل : أربعة . وقيل : خمسة . ويحضر القاضي والفقهاء من المذاهب ، ولا يحجبه يومئذ حاجب بل يصل إليه القوي والضعيف فيكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه فيكشف الظالم وينصف المظلوم من
[ ص: 485 ] الظالم ، قال : كان سبب ذلك أن
أسد الدين شيركوه بن شاذي كان قد عظم شأنه حتى صار كأنه شريكه في المملكة ، واقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى ; فربما ظلم نوابه جيرانهم في الأراضي ، وكان القاضي
كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الأمراء إلا
أسد الدين هذا ، فلما ابتنى الملك
نور الدين دار العدل تقدم
أسد الدين إلى نوابه أن لا يدعوا لأحد عنده ظلامة ، وإن كان عظيما ، فإن زوال ماله أحب إليه من أن يراه
نور الدين بعين ظالم ، أو يوقفه مع خصم من العامة ففعلوا ذلك ، فلما جلس
نور الدين بدار العدل مدة متطاولة لم ير أحدا يستعدي على
أسد الدين ، فسأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال فسجد
نور الدين شكرا لله وقال : الحمد لله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم .
وأما شجاعته فكان يقال : إنه لم ير على ظهر الفرس أحسن ولا أثبت منه . وكان يحسن اللعب بالكرة ، وربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده ، ثم يرميها إلى آخر الميدان ولم ير جوكانه يعلو على رأسه ، ولا يرى الجوكان في يده ; لأن الكم ساتر لها ، ولكنه استهانة بلعب الكرة .
وكان شجاعا صبورا في الحرب ، يضرب المثل به في ذلك ، وكان يقول : قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك . وقال له يوما الفقيه
قطب الدين النيسابوري : بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك ; فإنك لو قتلت قتل جميع من معك وأخذت البلاد . فقال : اسكت يا
قطب الدين ، من هو
[ ص: 486 ] محمود ؟ من كان يحفظ البلاد قبلي ؟ الله لا إله إلا هو . قال : فبكى من حضر .
وقد أسر بنفسه في بعض الغزوات بعض ملوك الفرنج فاستشار الأمراء فيه ; هل يقتله أو يأخذ ما يبذل له من المال في الفداء ؟ فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء ، فحين جهز بعث الفداء ، مات ببلده فأعجب ذلك
نور الدين وأصحابه ، وابتنى
نور الدين من ذلك المال البيمارستان الذي بني بدمشق ، وهو أحسن مما بني من البيمارستانات بالبلاد ، ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعز وجودها إلا فيه فلا يمنع منه الأغنياء ، ومن جاء مستوصفا فلا يمنع من شرابه ، ولهذا جاء إليه
نور الدين وشرب من شرابه رحمه الله .
قلت : ويقول بعض الناس : إنه لم تخمد منه النار منذ بني إلى زماننا هذا ، فالله أعلم .
وقد بنى الخانات في الطرق والأبراج ، ورتب الخفراء في الأماكن المخوفة ، وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطالع الأخبار في أسرع مدة ، وبنى الربط والخانقاهات ، وكان يجمع الفقهاء عنده للبحث ، والمشايخ والصوفية للزيارة ، ويكرمهم ويعظمهم وقد نال بعض الأمراء عنده من بعض العلماء ; وهو
قطب الدين النيسابوري ، فقال له
نور الدين : ويحك! إن كان ما تقول حقا فله من الحسنات الكثيرة ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقا ، على أني والله لا أصدقك ، وإن عدت ذكرته أو أحدا غيره بسوء لأدبتك . قال : فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك .
[ ص: 487 ] وابتنى
بدمشق دارا لسماع الحديث وإسماعه ، قال
ابن الأثير : وهو أول من بنى دار حديث ، وقد كان مهيبا وقورا شديد الهيبة في قلوب أمرائه ; لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه ، ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير
نجم الدين أيوب ; وأما
أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب
حلب والأكابر وغيرهم فكانوا يقفون بين يديه ، ومع هذا إذا دخل أحد من الفقهاء والفقراء ، قام له ومشى له خطوات وأجلسه معه على سجادته ، وشرع يحادثه في وقار وسكون ، وإذا أعطى أحدا منهم يقول : هؤلاء لهم في بيت المال حق ; أضعاف ما أعطيهم ، فإذا رضوا منا ببعضه فلهم المنة علينا .
وقد سمع عليه جزء حديث وفيه : "
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا السيف " . فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس ، وكيف يربط الأجناد السيوف في أوساطهم ولا يفعلون هذا ، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها ، ثم خرج في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف ، وجميع الجيش كذلك ، يريد به الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقص عليه وزيره موفق الدين
خالد بن محمد بن نصر بن صغير ابن القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه أنه يغسل ثياب الملك
نور الدين فأمره أن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد ، وقال : هذا تفسير رؤياك .
وكتب إلى الناس يستعجل منهم في حل مما كان أخذ منهم ، ويقول : إنما
[ ص: 488 ] صرف في قتال أعدائكم من الكفرة ، قبحهم الله ولعنهم .
وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه ، وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار
لنور الدين ، وكان يقول في سجوده : اللهم ارحم العشار المكاس . وقيل : إن
برهان الدين البلخي أنكر على الملك
نور الدين في استعانته في الحروب بأموال المكوس ، وقال : كيف تنصرون وفي عساكركم الخمور والطبول والزمور ؟! ويقال : إن سبب وضعه المكوس عن الناس أن الواعظ
أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي - وكان من الصالحين الكبار - أنشد
نور الدين :
مثل وقوفك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين رحت مسلما فاحذر بأن تبقى وما لك نور
أنهيت عن شرب الخمور وأنت من كأس المظالم طافح مخمور
عطلت كاسات المدام تعففا وعليك كاسات الحرام تدور
ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى فردا وجاءك منكر ونكير
وتعلقت فيك الخصوم وأنت في يوم الحساب مسحب مجرور
وتفرقت عنك الجنود وأنت في ضيق اللحود موسد مقبور
ووددت أنك ما وليت ولاية يوما ولا قال الأنام أمير
[ ص: 489 ] وبقيت بعد العز رهن حفيرة في عالم الموتى وأنت حقير
وحشرت عريانا حزينا باكيا قلقا وما لك في الأنام مجير
أرضيت أن تحيا وقلبك دارس عافي الخراب وجسمك المعمور
أرضيت أن يحظى سواك بقربه أبدا وأنت مبعد مهجور
مهد لنفسك حجة تنجو بها يوم المعاد لعلك المعذور
فلما سمعها الملك
نور الدين بكى وأمر بوضع المكوسات والضرائب في سائر بلاده
وكتب إليه الشيخ
عمر الملاء من
الموصل ، وكان قد أمر الولاة بها أن لا يفصلوا بها أمرا حتى يعلموه ، فما أمرهم به من شيء امتثلوه - وكان من الصالحين الزاهدين ، وكان
نور الدين يستقرض منه في كل شهر رمضان ما يفطر عليه ، فكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه - كتب إليه : إن المفسدين قد كثروا ويحتاج إلى نوع سياسة ، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب ، وإذا أخذ مال إنسان في البرية ، من يجيء فيشهد له ؟ فكتب الملك
نور الدين على ظهر الكتاب : إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم ، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها ، فما لنا حاجة إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى . قال : فجمع الشيخ
عمر الملاء جمع الناس
بالموصل وأقرأهم الكتاب ، ويقول : انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك ، وكتاب الملك إلى الزاهد!
[ ص: 490 ] وجاء إليه أخو الشيخ
أبي البيان يستعديه على رجل أنه يسبه ويرميه بأنه مراء متنامس ، وجعل يبالغ في شكايته منه فقال له السلطان : أليس الله تعالى يقول :
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ الفرقان : 63 ] فسكت الشيخ ولم يحر جوابا .
وقال الفقيه
أبو الفتح الأشتري معيد النظامية
ببغداد - وكان قد جمع سيرة مختصرة
لنور الدين - قال : وكان يحافظ على الصلوات في أوقاتها في جماعة بتمام شروطها وأركانها وركوعها وسجودها ، وكان كثير الصلاة بالليل ، والابتهال إلى الله عز وجل في أموره كلها .
قال : وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد
القدس للزيارة أيام
الفرنج ، فسمع الكفار يقولون :
ابن القسيم - يعنون نور الدين - له مع الله سر ; فإنه ما يظفر علينا بكثرة جنده وجيشه ، وإنما يظفر علينا بالدعاء وصلاة الليل ، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعوه ، فالله سبحانه وتعالى ، يستجيب له دعاءه ، ويعطيه سؤله ، وما يرد يده خائبة ، فيظفر علينا . قال : فهذا كلام الكفار في حقه ، رحمه الله .
وحكى الشيخ
شهاب الدين أن الملك
نور الدين وقف بستان الميدان ; - سوى الغيضة التي تليه - نصفه على تطييب جامع
دمشق والنصف الآخر يقسم أحد عشر جزءا ; جزآن منها على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنفية والتسعة
[ ص: 491 ] أجزاء الباقية على تطييب المساجد التسعة ; وهي جامع الصالحين
بجبل قاسيون ، وجامع
القلعة ، ومسجد عطية ، ومسجد ابن لبيد بالفسقار ، ومسجد الرماحين ، والمسجد العباسي ، والمسجد المعلق بالصاغة ، ومسجد دار البطيخ المعلق ، والمسجد الذي جدده
نور الدين جوار بيعة اليهود ، لكل من هذه المساجد جزء من أحد عشر جزءا من النصف .
ومناقبه ومآثره ومحاسنه كثيرة جدا ، وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بها على ما عداها .
وقد ذكر الشيخ
شهاب الدين في أول " الروضتين " شيئا كثيرا من ذلك ، وذكر ما مدح به من القصائد ، وقد أوردنا في غبون دولته طرفا صالحا من عدله وقصده الصالح ، وذكرنا أنه لما فتح
أسد الدين الديار المصرية ثم مات ، ثم تولى
صلاح الدين ، هم بعزله عنها واستنابة غيره فيها غير مرة ، ولكن يعوقه عن ذلك القدر ، ويصده اقتراب أجله وفراغ عمله ، ولكن كان في هذه السنة - سنة تسع وستين - وهي آخر مدته قد صمم على الدخول إلى الديار المصرية ، وأرسل إلى عساكر من بلاد
الموصل وغيرها ; ليكونوا ببلاد
الشام ويركب هو في جمهور جيشه إلى
مصر ، وقد خاف منه الملك
صلاح الدين خوفا شديدا . فلما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة ، وهو في
الميدان الأخضر القبلي وصلى به
الخطيب فيه صلاة العيد ، وكان ذلك يوم الأحد ، ورمى القبق في
الميدان الأخضر [ ص: 492 ] الشمالي ، والقدر يقول له : هذا آخر الأعياد . ومد يوم العيد سماطا حافلا ، وأمر بانتهابه على العادة ، وطهر ولده
الملك الصالح إسماعيل في هذا اليوم ، وزين له البلد ، وضربت البشائر للعيد وللختان ، وركب يوم الاثنين في الموكب على العادة ، ثم لعب بالكرة في يومه ; فحصل له غيظ من بعض الأمراء ، ولم يكن ذلك من سجيته فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب وحصل له انزعاج ، ودخل في حيرة سوء المزاج واشتغل بنفسه وانزعاجه ، وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه ، واحتبس أسبوعا عن الناس ، والناس في شغل عنه بما هم فيه من اللعب والانشراح بالزينة التي قد نصبوها ، فهذا يجود بروحه وهذا يروح بجوده ، وانعكست تلك الأفراح بالأتراح ، ونسخ الجد ذلك المزاح ، وحصلت للملك خوانيق في حلقه منعته من أداء النطق ، وهذا شأن أوجاع الحنق ، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يفعل ، وكان أمر الله قدرا مقدورا ، وكان ذلك في الكتاب مسطورا .
فلما كان يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال من هذه السنة قبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة ، وله في الملك ثمان وعشرون سنة ، وصلي عليه
بجامع القلعة بدمشق ، ودفن بها حتى حول إلى تربة بنيت له بباب المدرسة التي أنشأها للحنفية رحمه الله ، وبل بالرحمة ثراه ، وجعل الجنة مأواه .
وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة قد أوردها
أبو شامة في " الروضتين " . وما أحسن ما قال
العماد :
[ ص: 493 ] عجبت من الموت كيف اهتدى إلى ملك في سجايا ملك
وكيف ثوى الفلك المستدي ر في الأرض والأرض وسط الفلك
وقال
حسان الشاعر الملقب بالعرقلة في مدرسة
نور الدين حين دفن فيها :
ومدرسة سيدرس كل شيء وتبقى في حمى علم ونسك
تضوع ذكرها شرقا وغربا بنور الدين محمود بن زنكي
يقول وقوله حق وصدق بغير كناية وبغير شك
دمشق في المدائن بيت ملكي وهذي في المدارس بيت ملكي
وقبره مشهور
بدمشق يزار ويخلق شباكه ، فيطيب بريحه كل مار ، وإنما يقول الناس :
nindex.php?page=showalam&ids=17217نور الدين الشهيد لما حصل له في حلقه من الخوانيق ، وكذا كان يقال لأبيه : الشهيد . ويلقب بالقسيم ، وكانت
الفرنج يقولون له :
ابن القسيم .