ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين ، وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين ، فبرز إليهم ابن مقدم الأتابك فواقعهم عند بانياس ، فضعف عن مقاومتهم فهادنهم مدة ، ودفع إليهم أموالا جزيلة عجلها لهم ، ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك صلاح الدين لما هادنوه . ولما بلغ ذلك السلطان الملك صاحب الديار المصرية كتب إلى الأمراء - وخاصة صلاح الدين بن أيوب ابن مقدم - يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع [ ص: 495 ] الأموال إلى الفرنج ، وهم أقل وأذل ، وأخبرهم أنه عزم على قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج فردوا إليه كتابا فيه غلظة ، وكلام فيه بشاعة فلم يلتفت إليهم . ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ; ليدفعوا به الملك الناصر صاحب مصر فلم يفعل ; لأنه خاف أن يكون مكيدة منهم له ، وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة كمشتكين الذي كان قد جعله عنده الملك نور الدين عينا عليه وحافظا له من تعاطي ما لا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو ، فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سرا ، فحين تحقق غازي موت عمه تعب في طلب الخادم ففاته ، فاستحوذ على حواصله ودخل الطواشي حلب ، ثم سار إلى دمشق فاتفق مع الأمراء على أن يأخذ ابن أستاذه الملك الصالح إسماعيل إلى حلب ، فيربيه هنالك وتكون دمشق مسلمة إلى الأتابك شمس الدولة بن مقدم والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان . فلما سار الملك الصالح من دمشق ، خرج معه الأمراء والكبراء من دمشق إلى حلب وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة ، وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير مملكتها واحتاطوا على بني الداية ; شمس الدين بن الداية - أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين - وإخوته الثلاثة ، وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن أن ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه ; لأنه أحق الناس بذلك ، فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب ، فكتب الملك صلاح الدين إلى الأمراء يلومهم على نقل الولد من دمشق إلى حلب ومن سجنهم لبني الداية ، وقد كانوا من خيار الأمراء ورءوس الكبراء ، ولم لا يسلمون الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى [ ص: 496 ] الناس عند نور الدين وعند الناس منهم ؟! فكتبوا إليه يسيئون عليه الأدب ، وكل ذلك مما يزيده حنقا عليهم ، ويحرضه على القدوم بجيشه إليهم ، ولكنه في هذا الوقت في شغل شاغل لما دهم بلاده من الأمر الهائل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية .