فصل
فلما استقرت له
دمشق بحذافيرها لم يلبث أن نهض إلى
حلب مسرعا ; لما فيها من التخبيط والتخليط واستناب على
دمشق أخاه
طغتكين بن أيوب ، [ ص: 502 ] الملقب بسيف الإسلام ، فلما اجتاز
بحمص أخذ ربضها ولم يشتغل بقلعتها لعلمه بحصولها ، ثم سار إلى
حماة فتسلمها من صاحبها
عز الدين جرديك ، وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين ، فأجابه إلى ذلك فسار إليهم فحذرهم بأس
صلاح الدين فلم يلتفتوا إليه ولم يعولوا عليه بل أمروا بسجنه واعتقاله فجمعوا بينه وببني الداية في البئر الذي هم فيه فأبطأ الجواب على
صلاح الدين ، فكتب إليهم كتابا بليغا يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف وعدم الائتلاف فردوا عليه أسوأ جواب ، وأحد من الحراب ، فأرسل إليهم يذكرهم أيامه وأيام أبيه وعمه في خدمة
نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد لهم بها أهل الدين ، ثم سار إلى
حلب فنزل على
جبل جوشن فخاف من سطوته كل ذي جوشن ، فنودي في أهل
حلب بالحضور في ميدان
باب العراق فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك
نور الدين فتودد إليهم وتباكى لديهم وحرضهم على قتال
صلاح الدين وذلك عن إشارة الأمراء المقدمين فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد واشترط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان ب : حي على خير العمل ، وأن يذكر في الأسواق ، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي ، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز وأن يكبروا على الجنازة خمسا وأن تكون عقود أنكحتهم إلى
[ ص: 503 ] الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني فأجيبوا إلى ذلك كله فأذن في الجامع وغيره بسائر البلد ب حي على خير العمل ، وعجز أهل البلد عن مقاومة
الناصر ، وأعملوا في مكيدته كل خاطر فأرسلوا أولا إلى
سنان صاحب الحشيشية فأرسل نفرا من أصحابه إلى
الناصر ; ليقتلوه فلم يظفروا منه بشيء ، بل قتلوا بعض الأمراء ، ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم فلله الحمد والمنة ، فراسلوا عند ذلك
القومص صاحب
طرابلس الفرنجي ، ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم السلطان
الملك الناصر ، وكان هذا
القومص قد أسره
نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين ، ثم افتدى نفسه بمائة ألف دينار وألف أسير من أسارى المسلمين ، فكان لا ينساها
لنور الدين رحمه الله ، فركب
القومص - لعنه الله - من بلده
طرابلس في جيشه ، فلم يتجاسر على مقاتلة السلطان ، بل قصد
حمص ليأخذها بغتة ، فركب إليه السلطان
الناصر ، وقد أرسل سرية إلى بلده فقتلوا منها وأسروا وغنموا ، فلما اقترب السلطان منه نكص على عقبيه وكر راجعا إلى بلده ، ورأى أنه قد أجابهم إلى ما أرادوا منه ، فلما رجع
صلاح الدين إلى
حمص لم يكن قد أخذ قلعتها في ذهابه فتصدى لأخذها فنصب عليها المنجنيقات التي ملكته إياها قسرا ، وقهرت ساكنيها قهرا ، ثم كر راجعا إلى
حلب فأناله الله في هذه الكرة ما طلب .
[ ص: 504 ] وكتب إليهم
القاضي الفاضل على لسان السلطان كتابا بليغا فصيحا رائقا فائقا على يدي الخطيب
شمس الدين يقول فيه : فإذا قضى التسليم حق اللقاء ، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى وجواري أمور إن قال فيها كثيرا ، فأكثر منه ما قد جرى ، وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا ، وليوضح الأحوال المستسرة فإن الله لا يعبد سرا :
ومن الغرائب أن تسير غرائب في الأرض لم يعلم بها المأمول كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى
والماء فوق ظهورها محمول
فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير ، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير ، ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير ، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعي التصدير ، ولابد أن نسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي ترد به الغصوب ، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذنا بحظ القلوب ، وكان أول أمرنا أنا كنا في
الشام نفتح الفتوح مباشرين بأنفسنا ، ونجاهد الكفار متقدمين بعساكرنا ، نحن ووالدنا وعمنا ، فأي مدينة فتحت أو معقل ملك أو عسكر للعدو كسر أو مصاف للإسلام معه ضرب ولم نكن فيه ؟ فما يجهل أحد صنعنا ، ولا يجحد عدونا أنا نصطلي الجمرة ونملك الكرة ، ونتقدم الجماعة
[ ص: 505 ] ونرتب المقاتلة ، وندبر التعبئة ، إلى أن ظهرت في
الشام الآثار التي لنا أجرها ، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها . ثم ذكر ما صنعوا
بمصر من كسر الكفر وإزالة المنكر وقمع الفرنج وهدم البدع التي كانت هنالك ، وما بسط من العدل ومد من الفضل ، وما أقامه من الخطب العباسية ببلاد
مصر واليمن والنوبة وإفريقية ، وغير ذلك بكلام بسيط حسن .
فلما وصلهم الكتاب أساءوا الجواب ، وقد كانوا كاتبوا صاحب
الموصل سيف الدين غازي بن مودود أخي
nindex.php?page=showalam&ids=17217نور الدين محمود بن زنكي فبعث إليهم أخاه
عز الدين في عساكره ، وأقبل عليهم في دساكره ، فانضاف إليهم الحلبيون وقصدوا
حماة في غيبة
الناصر واشتغاله بقلعة
حمص وعمارتها ، فلما بلغه خبرهم سار إليهم في قل من الجيش فانتهى إليهم وهم في جحافل كثيرة ، فواقفوه وطمعوا فيه لقلة من معه ، وهموا بمناجزته فجعل يداريهم ويدعوهم إلى المصالحة لعل الجيش يلحقونه حتى قال لهم في جملة ما قال : أنا أقنع
بدمشق وحدها ، وأقيم بها الخطبة للملك
الصالح إسماعيل ، وأترك ما عداها من أرض
الشام . فامتنع من المصالحة الخادم
سعد الدين كمشتكين إلا أن يجعل لهم
الرحبة التي هي بيد ابن عمه
nindex.php?page=showalam&ids=16183ناصر الدين بن أسد الدين ، فقال : ليس لي ذلك ، ولا أقدر عليه . فأبوا الصلح وأقدموا على القتال فجعل جيشه كردوسا واحدا ، وذلك يوم الأحد التاسع عشر من رمضان عند قرون
حماة وصبر صبرا عظيما ، وجاءه في أثناء الحال ابن أخيه
nindex.php?page=showalam&ids=16180تقي الدين عمر بن شاهنشاه ومعه أخوه
فروخشاه في طائفة من الجيش ، وقد ترجح دسته عليهم ، وخلص رعبه
[ ص: 506 ] إليهم فولوا هنالك هاربين ، وتولوا منهزمين فأسر من أسر من رءوسهم ونادى أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، ثم أطلق من وقع في أسره وسار على الفور إلى
حلب وقد انعكس عليهم الحال ، وآلوا إلى شر مآل ; فبالأمس كان يطلب منهم المصالحة والمسالمة ، وهم اليوم يطلبون منه أن يكف عنهم ويرجع ، على أن
المعرة وكفرطاب وبارين له زيادة على ما بيده من أراضي
حماة وحمص وبعلبك مع
دمشق فقبل ذلك ، وكف عنهم ، وحلف على أن لا يغزو بعدها
الملك الصالح ، وأن يدعو له على سائر منابر بلاده ، وشفع في
بني الداية أخوه
مجد الدين أن يخرجوا من السجن ، ففعل ذلك ثم رجع مؤيدا منصورا مسلما محبورا .
فلما كان
بحماة وصلت إليه رسل الخليفة
المستضيء بأمر الله ومعهم الخلع السنية والتشريفات العباسية والأعلام السود وتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد
مصر والشام ، وأفيضت الخلع على أهله وأقاربه وأصحابه وأصهاره وأعوانه وأنصاره ، وكان يوما مشهودا واستناب على
حماة ابن خاله وصهره الأمير
شهاب الدين محمودا ، ثم سار إلى
حمص فأطلقها إلى ابن عمه
ناصر الدين ، كما كانت من قبله لأبيه
nindex.php?page=showalam&ids=16184شيركوه أسد الدين ، ثم إلى
بعلبك ثم إلى
البقاع ورجع إلى
دمشق في ذي القعدة .
وفي هذه السنة ظهر رجل من قرية
مشغرا من معاملة
دمشق وكان مغربيا فادعى النبوة ، وأظهر شيئا من المخاريق والمخاييل والشعبذة والأبواب النيرنجية ،
[ ص: 507 ] فافتتن به طوائف من أهل تلك الناحية من الطغام والهمج والعوام فتطلبه السلطان فهرب في الليل من
مشغرا إلى معاملة
حلب فالتف عليه كل مقطوع الذنب وأضل خلقا من الفلاحين لا المفلحين ، وتزوج امرأة أحبها ، وكانت من أهل تلك البطاح فعلمها أن ادعت النبوة فأشبها قصة
مسيلمة وسجاح ، فلعنهما الله كلما غب الحمام وهدر ، وكلما ضب الغمام وقطر .
وفيها هرب وزير الخليفة ونهبت داره .
وفيها درس
nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج بن الجوزي بمدرسة أنشئت للحنابلة فحضر عنده قاضي القضاة
أبو الحسن بن الدامغاني والفقهاء والكبراء وكان يوما مشهودا وخلعت عليه خلعة سنية .