ذكر
وفاة الملك الصالح إسماعيل بن الملك نور الدين صاحب حلب وما جرى بعده من الأمور
كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة بقلعة
حلب [ ص: 552 ] ودفن بها ، وكان سبب وفاته - فيما قيل - أن
الأمير علم الدين سليمان بن جندر سقاه سما في عنقود عنب في الصيد ، وقيل : بل سقاه
ياقوت الأسدي في شراب . وقيل : في
خشكنانجة . فاعتراه قولنج فما زال كذلك حتى مات ، رحمه الله ، وهو شاب حسن الصورة ، بهي المنظر ، ولم يبلغ عشرين سنة ، وكان من أعف الملوك ، ومن أشبه أباه فما ظلم ، وصف له الأطباء في مرضه شرب الخمر ، فاستفتى بعض الفقهاء في شربها تداويا ، فأفتاه بذلك ، فقال له : أيزيد شربها في أجلي ، أو ينقص منه شيئا ؟ قال : لا . قال : فوالله لا أشربها فألقى الله وقد شربت ما حرمه علي . ولما يئس من نفسه استدعى الأمراء ، فحلفهم لابن عمه
عز الدين مسعود صاحب
الموصل ; لقوة سلطانه وتمكنه ; ليمنعها من
صلاح الدين ، وخشي أن يبايع لابن عمه الآخر
عماد الدين زنكي ، صاحب
سنجار ، وهو زوج أخته وتربية والده ، فلا يمكنه حفظها من
صلاح الدين ، فلما مات استدعى الحلبيون
عز الدين مسعود بن قطب الدين ، صاحب
الموصل فجاء إليهم فدخل
حلب في أبهة عظيمة ، وكان يوما مشهودا ، وذلك في العشرين من شعبان ، فتسلم خزائنها وحواصلها ، وما فيها من السلاح ، وكان
تقي الدين عمه بمدينة
منبج فهرب إلى
حماة ، فوجد أهلها قد نادوا بشعار
عز الدين صاحب
الموصل وأطمع الحلبيون
عز الدين مسعودا في أخذ
دمشق ; لغيبة
صلاح الدين بالديار المصرية ، وأعلموه محبة
أهل الشام لهذا البيت الأتابكي ، فقال : بيننا وبينه أيمان وعهود ، وأنا أغدر به! فأقام
بحلب شهورا ، وتزوج
بأم [ ص: 553 ] الملك الصالح في شوال ، ثم سار إلى
الرقة فنزلها ، وجاءته رسل أخيه
عماد الدين زنكي يطلب منه أن يقايضه من
حلب إلى
سنجار ، وألح في ذلك ، وتمنع أخوه ثم فعل ذلك على كره منه ، فسلم إليه
حلب وسلمه
عماد الدين سنجار والخابور والرقة ونصيبين وسروج ، وغير ذلك من البلاد .
ولما سمع
الملك صلاح الدين بهذه الأمور ركب من الديار المصرية في عساكره ، فسار حتى أتى
الفرات فعبرها ، وخامر إليه بعض أمراء صاحب
الموصل فتقهقر عن لقائه ، فاستحوذ
صلاح الدين على بلاد
الجزيرة بكمالها ، وهم بمحاصرة
الموصل فلم يتفق ذلك ، ثم جاء إلى
حلب فتسلمها من
عماد الدين زنكي ; لضعفه عن ممانعتها ; لقلة ما ترك فيها عز الدين من الأسلحة وآلات القتال ، وذلك في السنة الآتية ، كما سنذكره .
وفي هذه السنة عزم
البرنس صاحب
الكرك لعنه الله ، على قصد
تيماء من أرض
الحجاز ; ليتوصل منها إلى
المدينة النبوية ، فجهزت له سرية من
دمشق تكون حاجزة بينه وبين
الحجاز ، فصده ذلك عن قصده ، ولله الحمد والمنة .
وفيها ولى
السلطان صلاح الدين أخاه
سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب نيابة
اليمن فملكه عليها ، وأرسله إليها ، وذلك لاختلاف نوابها واضطراب أصحابها ، بعد وفاة
المعظم تورانشاه أخي السلطان الذي كان افتتحها ، فلما وقعت الفتن بها ، وكثر التخليط والتخبيط ، سمت نفس أخيه
طغتكين إليها ، فأرسله أخوه إليها وولاه عليها ، فسار فوصلها في سنة ثمان وسبعين ، فسار فيها أحسن سيرة ، وأكمل بها المعدلة والسريرة ، واحتاط على أموال
حطان بن منقذ نائب
زبيد وكانت تقارب ألف ألف دينار أو أكثر ، وأما نائب
عدن فخر الدين عثمان الزنجيلي فإنه خرج من
اليمن قبل قدوم
طغتكين [ ص: 554 ] فسكن
الشام وله أوقاف مشهورة
باليمن ومكة ، وإليه تنسب المدرسة الزنجيلية ، خارج
باب توما ، تجاه دار الطعم ، وكان قد حصل منها أموالا عظيمة جدا .
وفيها غدرت الفرنج ونقضوا عهودهم ، وقطعوا السبل على المسلمين برا وبحرا ، وسرا وجهرا ، فأمكن الله من بطسة عظيمة لهم فيها نحو من ألفين وخمسمائة نفس من رجالهم المعدودين فيهم ، ألقاها الموج إلى ثغر
دمياط قبل خروج السلطان من
مصر ، فأحيط بها فغرق بعضهم وحصل في الأسر نحو ألف وسبعمائة منهم ، ولله الحمد والمنة .
وفيها سار
قراقوش إلى بلاد
إفريقية ، ففتح بلادا كثيرة ، وقاتل عسكر
ابن عبد المؤمن ، واستفحل أمره هناك ، وهو من جملة مماليك
تقي الدين عمر ابن أخي السلطان
صلاح الدين ، ثم عاد إلى الديار المصرية ، فأمره السلطان بأن يتم السور المحيط
بالقاهرة ومصر ، وذلك قبل خروجه منها في هذه السنة ، وكان ذلك آخر عهده بها حتى توفاه الله ، عز وجل ، بعد أن أراه الله مناه قبل حلول الوفاة ، فأقر عينه من أعداه ، وفتح على يده
بيت المقدس وما حوله وما حواه ، ولما خيم بارزا من
مصر ، أحضر أولاده حوله فجعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم ، فأنشد بعضهم :
تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار
فكان الأمر كما قال ، لم يعد إلى
مصر بعد هذا العام ، بل كان مقامه
بالشام .
[ ص: 555 ] وفي هذه السنة ولد للسلطان ولدان ; وهما المعظم
تورانشاه ، والملك
المحسن أحمد ، وكان بين ولادتهما سبعة أيام ، فزينت البلاد واستمر الفرح أربعة عشر يوما .