[ ص: 579 ] ثم دخلت
سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة
فيها كانت وقعة حطين التي كانت أمارة ومقدمة وبشارة لفتح
بيت المقدس على المؤمنين ، واستنقاذه من أيدي الكافرين ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير في الكامل : كان أول يوم منها يوم السبت ، وكان يوم النيروز ، وذلك أول سنة
الفرس ، واتفق أنه أول سنة
الروم أيضا ، وهو اليوم الذي نزلت فيه الشمس برج الحمل ، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضا . وقال : وهذا شيء يبعد وقوع مثله .
وبرز السلطان من
دمشق يوم السبت مستهل المحرم - وقيل : في أثنائه - في الجيش
العرمرم ليجاهد بأهل الجنة أهل جهنم ، فسار إلى رأس الماء ، فنزل ولده الأفضل هناك في طائفة من الجيش وتقدم السلطان ببقية الجيش إلى
بصرى فخيم على
قصر أبي سلامة ينتظر قدوم الحجاج ، وفيهم أخته
ست الشام وابنها
حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ، ليسلموا من معرة
إبرنس الكرك الذي غدر ونقض العهد وفجر . فلما اجتاز الحجيج في أواخر صفر ، سار السلطان فنزل
الكرك وقطع ما حوله من الأشجار ورعى الزروع وأكلوا الثمار ، وجاءته العساكر المصرية وتوافت الجيوش الشرقية بالرماح الخطية والسيوف
[ ص: 580 ] المشرقية ، فنزلوا عند ابن السلطان على رأس الماء ، وبعث
الأفضل سرية نحو بلاد الفرنج ، فقتلت وغنمت وسلمت وكسرت وأسرت ، ورجعت فبشرت بمقدمات الفتح والنصر ، وجاء السلطان في جحافله والتفت عليه جميع العساكر البادي منهم والحاضر ، فرتب الجيوش والأطلاب ، وسار قاصدا بلاد الساحل ، وكان جملة من معه من المقاتلة اثني عشر ألفا غير المطوعة ، فتسامعت الفرنج بمقدمه ، فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم ، ودخل معهم
قومص أطرابلس الغادر
وإبرنس الكرك الفاجر ، وجاءوا بقضهم وقضيضهم وأهل أوجهم وحضيضهم ، واستصحبوا معهم صليب الصلبوت يحمله منهم عباد الطاغوت ، وضلال الناسوت واللاهوت ، في خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، يقال : كانوا خمسين ألفا . وقيل : ثلاثا وستين ألفا . وقد خوفهم صاحب
طرابلس بأس المسلمين ، فاعترض عليه
الإبرنس أرناط صاحب
الكرك فقال له : لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا كثرتهم ، والنار لا تخاف من كثرة الحطب . فقال
القومص لهم : ما أنا إلا منكم ، وسترون غب ما أقول لكم . فتقدموا وأقبل السلطان ففتح
طبرية وتقوى بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك ، وتحصنت عنه القلعة فلم يشتغل بها ، وحاز البحيرة في حوزته ، ومنع الكفرة أن يصلوا منها إلى غرفة ، أو يروا للماء ريا ، وأقبلوا في عطش لا يعلمه إلا
[ ص: 581 ] الله عز وجل ، فبرز لهم السلطان إلى سطح الجبل الغربي من
طبرية عند قرية يقال لها :
حطين . التي يقال : إن فيها قبر
شعيب عليه السلام . فتواجه هنالك الجيشان وتقابل الفريقان ، وأسفر وجه الإيمان ، واغبر وأقتم وجه الكفران والخسران وذلك عشية يوم الجمعة ، وبات الناس على مصافهم وأسفر الصباح عن يوم السبت الذي كان يوما عسيرا على أهل يوم الأحد ، وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر في شدة الحر ، وطلعت الشمس على وجوه
النصارى وهم من شدة الحر سكارى وما هم بسكارى ، وكان تحت أقدام خيولهم هشيم حشيش ، فأمر السلطان النفاطة ، فرموه فتأجج تحت سنابك خيولهم نارا ، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش ، وحر النار من تحت أرجلهم ، وحر رشق السهام عن القسي القاسية ، فتبارز الشجعان في حومة الوغى ، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة ، فكان النصر من الله عز وجل ، فمنحهم الله أكتاف الكفرة الفجرة ، فقتل منهم ثلاثون ألفا في ذلك اليوم ، وأسر ثلاثون ألفا من شجعانهم وفرسانهم ، وكان في جملة الأسارى جميع ملوكهم سوى
قومص طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة ، وأخذ صليبهم الأعظم عندهم ، وهو الذي يزعمون أنه الذي صلب عليه المصلوب ، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفسية ، وكان يوما على الكافرين عسيرا ، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ، ودمغ الباطل وذله ، حتى إنه ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا من الفرنج ، قد ربطهم بطنب خيمة ، وباع بعضهم أسيرا بنعل
[ ص: 582 ] لبسها في رجله ، وجرت أمور لم يسمع بمثلها ولا وقعت العيون على شكلها ، فلله الحمد دائما حمدا كثيرا طيبا .
ولما تمت هذه الوقعة العظيمة والنعمة العميمة الجسيمة ، أمر السلطان بضرب مخيم عظيم ، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها ، وجيء بالأسارى تتهادى في قيودها ، فضربت أعناق جماعة من مقدمي
الداوية والإسبتارية بين يديه صبرا ، ولم يترك منهم من كان يذكر الناس عنه ذكرا ، ثم جيء بالملوك فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم ، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه ، وتحته
أرناط إبرنس الكرك - قبحه الله تعالى - وبين يديه بقية الملوك وعن يساره ، فجيء السلطان بشراب مثلوج من الجلاب ، فشرب ثم ناول الملك فشرب ، ثم ناول ملكهم
أرناط فشرب ، فغضب السلطان ، وقال : إنما سقيتك ولم آمرك أن تسقيه ، هذا لا عهد له عندي . ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل الخيمة واستدعى
أرناط ، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف وقال : نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته . ثم دعاه إلى الإسلام فامتنع ، فقتله وأرسل برأسه إلى الملوك ، وقال : إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلته ، ثم قتل السلطان جميع من كان من الأسارى من
الداوية والإسبتارية صبرا ، وأراح الله المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين ، ولم يسلم ممن عرض عليه الإسلام إلا القليل ، فيقال : إنه بلغت القتلى ثلاثين ألفا ، وكذلك الأسارى كانوا ثلاثين ألفا ، وكان جملة جيش الفرنج ثلاثة وستين ألفا ، ومن سلم منهم - مع قلتهم - أكثرهم
[ ص: 583 ] جرحى ، فماتوا ببلادهم بعد رجوعهم ، وممن مات كذلك
قومص طرابلس فإنه انهزم جريحا فمات ببلده بعد مرجعه ، لعنه الله ، ثم أرسل برؤساء الأسارى ورءوس أعيان القتلى ، وبصليب الصلبوت صحبة القاضي
ابن أبي عصرون إلى
دمشق ليودعوا في قلعتها ، فدخل بالصليب منكوسا ، فكان يوما مشهودا ، ولله الحمد والمنة .
ثم سار السلطان إلى
قلعة طبرية ففتحها ، وقد كانت
طبرية تقاسم
بلاد حوران والبلقاء وما حولها من
الجولان وتلك الأراضي كلها بالنصف ، فأراح الله المسلمين من تلك المقاسمة وتوفرت عليهم ، ثم سار إلى
عكا فنزل عليها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر ، فافتتحها صلحا يوم الجمعة ، وأخذ ما كان بها من حواصل وأموال وذخائر ومتاجر ، واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين ، فوجدوا بها أربعة آلاف أسير منهم ، ففرج الله عنهم ولله الحمد ، وأمر بإقامة الجمعة بها ، فكانت أول جمعة أقيمت بالساحل بعد أن أخذه الفرنج ، من سبعين سنة فلله الحمد دائما . وسار منها إلى
صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل فأخذها ، لخلوها من المقاتلة ومن الملوك ، ثم سار نحو
غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي
الغور فملك ذلك كله بحول الله وقوته ، واستناب السلطان على
نابلس ابن أخيه
حسام الدين عمر بن محمد بن [ ص: 584 ] لاجين ، وهو الذي افتتحها ; وكان جملة ما افتتحه في هذه المدة القريبة قريبا من خمسين بلدا كل بلدة لها مقاتلة وقلعة ومنعة ، فلله الحمد .
وغنم الجيش والمسلمون من هذه الأماكن شيئا كثيرا ، وسبوا شيئا كثيرا لا يحد ولا يوصف ، واستبشر الإسلام وأهله شرقا وغربا بهذا النصر العظيم والفتوحات الهائلة . وترك السلطان جيوشه ترتع في هذه الفتوحات والغنائم الكثيرة مدة شهور ; ليستريحوا ويجمعوا أنفسهم وخيولهم ليتأهبوا لفتح
بيت المقدس الشريف ، وطار في الناس أن السلطان عزم على فتح
بيت المقدس فقصده العلماء والصالحون والمتطوعة من كل فج عميق ، وجاء أخوه
العادل بعد وقعة
حطين وفتح
عكا ففتح بنفسه حصونا كثيرة أيضا ، فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش المتطوعة خلق كثير وجم غفير ، فعند ذلك قصد السلطان
بيت المقدس بمن معه ، كما سيأتي بيانه .
وقد امتدح الشعراء الملك
صلاح الدين بسبب وقعة
حطين فقالوا وأكثروا ، وأطابوا وأطنبوا ، وكتب إليه
القاضي الفاضل من
دمشق - وكان مقيما بها لمرض ناله - : ليهن المولى أن الله قد أقام به الدين القيم ، وأنه كما قيل : أصبحت مولاي ومولى كل مسلم . وأنه قد أسبغ عليه النعمتين ; الباطنة والظاهرة ، وأورثه الملكين ; ملك الدنيا وملك الآخرة ، كتب المملوك الخدمة ، والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها ، والدموع لم تمسح من خدودها ، وكلما فكر المملوك أن البيع تعود وهي مساجد ، والمكان الذي كان يقال فيه : إن الله ثالث ثلاثة ، يقال اليوم فيه : إنه الواحد . جدد لله شكرا تارة يفيض من لسانه ،
[ ص: 585 ] وتارة يفيض من أجفانه ، وجزى الله
يوسف خيرا عن إخراجه من سجنه ، والمماليك ينتظرون أمر المولى ، فكل من أراد أن يدخل الحمام
بدمشق قد عول على دخول حمام
طبرية .
تلك المكارم لا قعبان من لبن وذلك الفتح لا عمان واليمن
وذلك السيف لا سيف ابن ذي يزن
ثم قال : وللألسنة بعد في هذا الفتح سبح طويل وقول جليل .