[ ص: 600 ] ثم دخلت
سنة أربع وثمانين وخمسمائة
في محرمها
حاصر السلطان صلاح الدين حصن كوكب فرآه منيعا صعبا ، ووقته مشغول بغيره ، فوكل به الأمير
قايماز النجمي في خمسمائة فارس يضيقون عليه المسالك ، وكذلك وكل
بصفد - وكانت للداوية - خمسمائة فارس مع
طغرل الجاندار يمنعون وصول الميرة والتقاوي ، وبعث إلى
الكرك والشوبك جيشا آخر يحاصرونه ويضيقون على أهله ، ليتفرغ من أموره لقتال هذه الأماكن وحصارها .
وكان دخول السلطان إلى
دمشق من هذه الغزاة في ربيع الأول ، ففرح به المسلمون ودقت البشائر وزين البلد ، ووجد
الصفي بن القابض وكيل الخزانة قد بنى للملك دارا بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي ، فغضب عليه وعزله من وظيفته ، وقال : إنا لم نخلق للمقام
بدمشق ، وإنما خلقنا للعبادة والجهاد .
وجلس السلطان بدار العدل فحضر عنده القضاة وأهل الفضل ، وزار
القاضي الفاضل في بستانه على الشرف في
جوسق ابن الفراش ، وحكى له ما
[ ص: 601 ] كان من الأمور ، واستشاره فيما يفعله في المستقبل من المهمات والغزوات ، ثم خرج من
دمشق في جيوشه ، فسلك على
جبل نبوس ، ودخل
البقاع وخيم على
بعلبك وسار إلى
حمص وجاءته عساكر
الجزيرة وهو على العاصي فسار إلى
السواحل الشامية ، ففتح
أنطرطوس وغيرها من الحصون ، وفتح
جبلة واللاذقية ، وكانت من أحسن المدن عمارة ورخاما ومحال ، وفتح
صهيون وبكاس والشغر ; وهما قلعتان على
العاصي حصينتان ، فتحهما عنوة ، وفتح
حصن برزيه ; وهي قلعة عظيمة على شاهق جبل عال منيع ، تحتها أودية عميقة يضرب المثل بحصانتها في سائر بلاد
الفرنج والمسلمين ، فحاصرها أشد حصار وركب عليها المجانيق الكبار ، وفرق الجيش ثلاث فرق ، كل فريق يلون القتال ، فإذا كلوا وتعبوا خلفهم الآخرون ، حتى لا يزال القتال مستمرا ليلا ونهارا صباحا ومساء ، فكان فتحها في نوبة السلطان ، فأخذها عنوة في أيام معدودات ، ونهب جميع ما فيها واستولى على حواصلها وأموالها ، وقتل حماتها ورجالها ، وسبى ذراريها وأطفالها ، ثم عدل عنها ففتح
حصن دربساك وحصن بغراس كل ذلك يفتحه عنوة فيغنم ويسلم ، ولله الحمد .
ثم سمت همته العالية إلى
فتح أنطاكية ; وذلك لأنه أهلك ما حولها من القرى ، واستظهر عليها بكثرة الجنود ، فراسله صاحب
أنطاكية يطلب منه الهدنة على أن يطلق من عنده من أسارى المسلمين ، فأجابه السلطان إلى ذلك لعلمه
[ ص: 602 ] بضجر من معه من المقاتلة والأعوان ، فوقعت الهدنة على سبعة أشهر ; ومقصود السلطان أن تستريح الجيوش من تعبها ، وتجم النفوس من نصبها ، وأرسل السلطان إليه من تسلم منه الأسارى وقد ذلت دولة
النصارى .
ثم سار السلطان فسأله ولده
الظاهر أن يجتاز
بحلب فأجابه إلى ما طلب ، فنزل بقلعتها ثلاث ليال ثم جدد العزم والترحال ، فاستقدمه ابن أخيه
تقي الدين إلى حماة فنزل بقلعتها ليلة ، كانت من أكبر مقاصده ومناه ، وأقطعه تلك الليلة
جبلة واللاذقية ، ثم سار فنزل بقلعة
بعلبك ودخل إلى حمامها ، ثم عاد إلى
دمشق مؤيدا منصورا مسرورا محبورا ، وجاءته البشائر بفتح
الكرك على المسلمين ، الذين كانوا محاصرين ، وأراح الله تلك الناحية ، وسهل حزنها على السالكين من التجار والحجاج والغزاة
فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ الأنعام : 45 ]