[ ص: 639 ] ثم
دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
استهلت nindex.php?page=showalam&ids=16236والسلطان صلاح الدين مخيم بالقدس الشريف ، وقد قسم السور بين أولاده وأمرائه وهو يعمل فيه بنفسه ويحمل الحجر بين القربوس وبينه ، والناس يقتدون به وبالعلماء ، والفقراء يعملون بأنفسهم ،
والفرنج - لعنهم الله - حول البلد من ناحية
عسقلان وما والاها لا يتجاسرون أن يتقربوا من الحرس واليزك الذين حول
القدس الشريف إلا أنهم على نية محاصرة
القدس مصممون ولكيد الإسلام مجمعون وهم والحرس تارة يغلبون وتارة يغلبون وتارة ينهبون وتارة ينهبون .
وفي ربيع الآخر وصل
الأمير سيف الدين المشطوب إلى السلطان وهو
بالقدس من الأسر وكان نائبا على
عكا حين أخذت فافتدى نفسه منهم بخمسين ألف دينار ، فأعطاه السلطان شيئا كثيرا منها واستنابه على
مدينة نابلس فتوفي بها في شوال منها .
وفي ربيع الآخر قتل
المركيس صاحب
صور لعنه الله ، أرسل إليه ملك الإنكلتير اثنين من الفداوية فقتلوه فأظهرا التنصر ولزما الكنيسة حتى ظفرا بالمركيس فقتلاه وقتلا ، فاستناب ملك الإنكلتير عليها ابن أخته لأمه
الكندهري وهو ابن أخت ملك إفرنسيس لأبيه فهما خالاه - لعنه الله - ولما صار إلى
صور [ ص: 640 ] ابتنى بزوجة
المركيس بعد موته بليلة واحدة وهي حبلى أيضا وذلك لشدة العداوة التي كانت بين الإنكلتير وبينه ، وقد كان
السلطان صلاح الدين يبغضهما ولكنه قد كان صانعه
المركيس ببعض الشيء فلم يهن قتله عليه .
وفي تاسع جمادى الأولى استولى الفرنج لعنهم الله على قلعة الداروم فخربوها وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وأسروا طائفة من الذرية فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم أقبلوا بخيلهم ورجلهم جملة نحو
القدس الشريف فبرز إليهم السلطان في حزب الإيمان وهو مشتمل على الرجالة والفرسان والأبطال والشجعان فلما تراءى الجمعان نكص حزب الشيطان على عقبيه وانقلبوا راجعين قبل القتال والنزال وعاد السلطان إلى
القدس وقد
رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ الأحزاب : 25 ] ثم إن ملك الإنكلتير - لعنه الله - وهو أكبر ملوك
الفرنج ذلك الوقت ظفر ببعض قفول المسلمين فكبسهم ليلا فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم خمسمائة أسير وغنم منهم شيئا كثيرا من الأموال والجمال والخيل والبغال فكان جملة الجمال ثلاثة آلاف بعير فتقوى
الفرنج بذلك شيئا كثيرا وساء ذلك السلطان مساءة عظيمة جدا وخاف من غائلة ذلك واستخدم الإنكلتير الجمالة على الجمال والخربندية على البغال والساسة على الخيل ، وأقبل وقد قويت نفسه جدا ، وصمم على محاصرة
القدس وأرسل إلى ملوك
الفرنج الذين
[ ص: 641 ] بالساحل فاستحضرهم ومن معهم من المقاتلة فتعبأ السلطان لهم وتهيأ وأكمل السور وعمر الخنادق ونصب الآلات والمجانيق وأمر بتغوير ما حول
القدس من المياه وأحضر السلطان أمراءه ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة وفيهم
أبو الهيجاء السمين والمشطوب والأسدية بكمالهم واستشارهم فيما قد دهمه من هذا الأمر الفظيع الموجع المؤلم فأفاضوا في ذلك وأشاروا كل برأيه وأشار
العماد الكاتب بأن يتحالفوا على الموت عند الصخرة كما كان الصحابة يفعلون فأجابوا إلى ذلك ، هذا كله والسلطان ساكت واجم مفكر ، فسكت القوم كأنما على رءوسهم الطير ثم قال : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم معلقة في ذممكم ، فإن هذا العدو أمن له من المسلمين من تلقاه إلا أنتم فإن لويتم أعنتكم - والعياذ بالله - طوى البلاد كطي السجل للكتاب وكان ذلك في ذمتكم ، فإنكم أنتم الذين تصديتم لهذا وأكلتم مال بيت المال فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام
فانتدب لجوابه
سيف الدين المشطوب وقال : يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك وأنت الذي أعطيتنا وكبرتنا وعظمتنا ، وليس لنا إلا رقابنا ونحن بين يديك ، والله ما يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن يموت فقال الجماعة مثل ما قال ففرح السلطان بذلك وطاب قلبه ومد لهم سماطا حافلا وانصرفوا من بين يديه على ذلك
[ ص: 642 ] ثم بلغه بعد ذلك عن بعض الأمراء أنه قال : إنا نخاف أن يجري علينا في هذا البلد كما جرى على
أهل عكا ثم يأخذون بلاد الإسلام بلدا بلدا والمصلحة أن نلتقيهم بظاهر البلد فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم وإن تكن الأخرى سلم العسكر ومضى
القدس وقد انخفضت بلاد الإسلام بدون القدس مدة طويلة وبعثوا إلى السلطان يقولون له : إن كنت تريدنا نقيم
بالقدس تحت حصار
الفرنج فكن أنت معنا أو بعض أهلك حتى يكون الجيش تحت أمرك فإن
الأكراد لا تطيع
الترك والترك لا تطيع
الأكراد .
فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة وبات ليلته أجمع مهموما كئيبا يفكر فيما قالوا ثم انجلى الأمر واتفق الحال على أن يكون
الملك الأمجد صاحب
بعلبك مقيما عندهم نائبا عنه
بالقدس وكان ذلك نهار الجمعة فلما حضر إلى صلاة الجمعة وأذن المؤذن للظهر قام فصلى ركعتين بين الأذانين وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالا عظيما وتضرع إلى ربه وتمسكن وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة .
فلما كان يوم السبت من الغد جاءت الكتب من الحرس حول البلد بأن
الفرنج قد اختلفوا فيما بينهم في محاصرة
القدس فقال ملك الإفرنسيس : إنا إنما جئنا من البلاد البعيدة وأنفقنا الأموال العديدة في تخليص
بيت المقدس ورده إلينا وقد بقي بيننا وبينهم مرحلة فقال الإنكلتير : إن هذا البلد يشق علينا
[ ص: 643 ] حصاره ; لأن المياه حوله قد عدمت ومتى بعثنا من يأتينا بالماء من المشقة البعيدة تعطل الحصار وتلف الجيش ثم اتفق الحال بينهم على أن حكموا عليهم ثلاثمائة منهم فردوا أمرهم إلى اثني عشر منهم فردوا أمرهم إلى ثلاثة منهم فباتوا ليلتهم ينظرون ثم أصبحوا وقد حكموا عليهم بالرحيل فلم يمكنهم مخالفتهم فسحبوا راجعين ، - لعنهم الله - أجمعين فساروا حتى نزلوا على
الرملة ، وقد طالت عليهم الغربة
والرملة وذلك في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة ، وبرز السلطان بجيشه إلى خارج
القدس وسار نحوهم خوفا أن يسيروا إلى
مصر لكثرة ما معهم من الظهر والأموال ، وكان الإنكلتير يلهج بذلك كثيرا ، فخذلهم الله عن ذلك ، وترددت الرسل من الإنكلتير إلى السلطان في طلب الصلح ووضع الحرب بينه وبينهم ثلاث سنين وعلى أن يعيد لهم
عسقلان ويهب لهم كنيسة
بيت المقدس وهي القمامة وأن يمكن
النصارى من زيارتها وحجها بلا شيء ، فامتنع السلطان من إعادة عسقلان وأطلق لهم القمامة وفرض على الزوار مالا يؤخذ من كل منهم فامتنع الإنكلتير إلا أن تعاد لهم
عسقلان ويعمر سورها كما كانت فصمم السلطان على عدم الإجابة .
ثم ركب السلطان حتى وافى
يافا فحاصرها حصارا شديدا فافتتحها وغنم جيشه منها شيئا كثيرا وامتنعت القلعة فبالغ في أمرها حتى هانت ولانت ودانت ، وكادوا أن يبعثوا إليه بأقاليدها ، ويأخذوا الأمان لكبيرها وصغيرها ، فبينما هم كذلك إذ أشرقت عليهم مراكب الإنكلتير على وجه البحر فقويت رءوسهم واستعصت نفوسهم وهجم اللعين فأعاد البلد وقتل من تأخر بها من المسلمين صبرا بين يديه وتقهقر السلطان عن منزلة الحصار إلى ما وراءها خوفا على
[ ص: 644 ] الجيش من معرة
الفرنج فجعل ملك الإنكلتير يتعجب من شدة سطوة السلطان كيف فتح مثل هذا البلد العظيم في يومين وغيره لا يمكنه فتحه في عامين ولكن ما ظننت أنه مع شهامته وصرامته يتأخر من منزلته بمجرد قدومي وأنا ومن معي لم نخرج من البحر إلا جرائد بلا سلاح ثم ألح في طلب الصلح وأن تكون
عسقلان داخلة في صلحهم فامتنع السلطان أشد الامتناع ثم إن السلطان كبس في تلك الليالي الإنكلتيز وهو في سبعة عشر فارسا وحوله قليل من الرجالة فأوكب السلطان بجيشه حوله وحصره حصرا لم يبق له معه نجاة لو صمم معه الجيش ، ولكنهم نكلوا كلهم عن الجملة فلا قوة إلا بالله وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء .
هذا والإنكلتير - لعنه الله - قد ركب في أصحابه وأخذ عدة قتاله وحرابه واستعرض الميمنة إلى أولها إلى آخر الميسرة يعني ميمنة المسلمين وميسرتهم فلم يتقدم إليه أحد من الفرسان ولا بهش في وجهه بطل من الشجعان فعند ذلك كر السلطان راجعا وقد أحزنه أنه لم ير من الجيش مطيعا ولا سامعا فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم حصل للإنكلتير بعد ذلك مرض شديد وبعث إلى السلطان يطلب فاكهة وثلجا فأمده السلطان بذلك من باب الفتوة والإحسان وإظهار القوة والامتنان ثم عوفي - لعنه الله - وتكررت الرسل منه يطلب من السلطان المصالحة وذلك لكثرة شوقه إلى بلاده وتوقه إلى ملاذه وطاوع السلطان على ما يقول ونزل عن طلب
عسقلان ورضي بما رسم به السلطان ، وكتب كتاب الصلح على ما رسم به السلطان في ثامن عشر شعبان وأكدت العهود والمواثيق
[ ص: 645 ] من كل ملك من ملوكهم وأسقف وجاثليق ، وحلف الأمراء من المسلمين وكتبوا خطوطهم واكتفي من السلطان بالقول المجرد ، كما جرت به عادة السلاطين وفرح كل من الفريقين فرحا كثيرا ، وأظهروا سرورا ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاث سنين وثمانية أشهر ، وعلى أن يقر ما بأيديهم من البلاد الساحلية وللمسلمين ما يقابلها من البلاد الجبلية وما بينهما من المعاملات ، فقسمها على المناصفة ، وأرسل السلطان مائة نقاب صحبة أمير لتخريب سور
عسقلان وإخراج من بها من
الفرنج والألمان .
وعاد السلطان إلى
القدس الشريف فرتب أحواله ووطدها ، وسدد أموره وأكدها وزاد وقف المدرسة سوقا بدكاكينها وأرضا ببساتينها ، وزاد وقف الصوفية أيضا وعزم على الحج عامه ذلك فكتب إلى
الحجاز واليمن والديار المصرية والشامية ليعلموا بذلك ويتأهبوا له فكتب
القاضي الفاضل ينهاه عن ذلك خوفا على البلاد ويذكر له أن النظر في أحوال المسلمين وإصلاح أمرهم الذي قد تداعى إلى الفساد وسد ثغورهم ومصابرة أعدائهم في هذا الوقت ، أفضل لك مما عزمت عليه في عامك هذا ، والعدو المخذول مخيم بعد
بالشام لم يقلع منه مركب إلى بلادهم ، وأنت تعلم أنهم إنما يهادنون ليتقووا ويكثروا ثم يمكروا ويغدروا .
فسمع السلطان منه وشكر نصحه وقبله ، وعزم على ترك الحج عامه ذلك ، وكتب به إلى سائر الممالك واستمر السلطان مقيما
بالقدس جميع شهر رمضان
[ ص: 646 ] في صيام وصلاة وقرآن وكلما وفد أحد من رؤساء
النصارى للزيارة أولاه غاية الإكرام والإحسان تأليفا لقلوبهم وتأكيدا لما حلفوه من الأيمان ، ورغبة أن يدخل في قلوبهم شيء من الإيمان ، ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القمامة متنكرا ، ويحضر سماط السلطان فيمن يحضر من جمهورهم بحيث لا يرى ، والسلطان لا يعلم ذلك جملة ولا تفصيلا ولهذا يعاملهم بالإكرام ويريهم صفحا جميلا وبرا جزيلا وظلا ظليلا
فلما كان خامس شوال ركب في عساكره وجحافله فبرز من
القدس الشريف قاصدا
دمشق المحروسة واستناب على
القدس عز الدين جرديك وعلى قضائها
بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم الشافعي ، واجتاز على
وادي الجيب وبات على
بركة الداوية ، ثم أصبح في
نابلس فنظر في أحوالها وأمورها ثم ترحل عنها ، فجعل يمر بالمعاقل والحصون والبلدان للنظر في الأحوال والأموال وكشف المظالم والمحارم والمآثم وترتيب المكارم ، وفي أثناء الطريق جاء إلى خدمته
بيمند صاحب
أنطاكية فأكرمه وأحسن إليه وأطلق له أموالا جزيلة وخلعا جميلة ، وكان
العماد الكاتب في صحبته ، فأخبر عن منازله منزلة منزلة ومرحلة مرحلة إلى أن قال : وعبر يوم الاثنين
عين الجر إلى
مرج يبوس وقد زال البوس ، وهناك توافد أعيان
دمشق وأماثلها وأفاضلها
[ ص: 647 ] وفواضلها ، ونزلنا يوم الثلاثاء على
العرادة جرى المتلقون بالطرف والتحف على العادة ، وأصبحنا يوم الأربعاء - يعني سادس عشر شوال بكرة - إلى جنة
دمشق داخلين بسلام آمنين لولا أننا غير خالدين ، وكانت غيبة السلطان عنها طالت أربع سنين فأخرجت
دمشق أثقالها ، وأبرزت نساءها ورجالها ، وكان يوم الزينة وخرج كل من في المدينة ، وحشر الناس ضحى وأشاعوا استبشارا وفرحا ، واجتمع بأولاده الكبار والصغار ، وقدم عليه رسل الملوك من سائر الأمصار ، وأقام بقية عامه في اقتناص الصيد وحضور دار العدل للفصل ، والعمل بالإحسان والفضل .
ولما كان عيد الأضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدة يقول فيها :
وأبيها لولا تغزل عينيها لما قلت في التغزل شعرا ولكانت مدائح الملك الناصر
أولى ما فيه أعمل فكرا ملك طبق الممالك عدلا
مثلما أوسع البرية برا فتحل الأعياد صوما وفطرا
وتلق الهناء برا وبحرا يا مسر الطاعات لله إن
أضحى مليك على الهنات مصرا نلت ما تبتغي من الدين والدن
يا فتيها على الملوك وفخرا قد جمعت المجدين أصلا وفرعا
وملكت الدارين دنيا وأخرى
ومما وقع في هذه السنة من الحوادث
غزوة عظيمة بين صاحب غزنة شهاب الدين السبكتكيني ، وبين ملك الهند وأصحابه الذين كانوا قد كسروه في سنة
[ ص: 648 ] ثلاث وثمانين فأظفره الله بهم في هذه السنة فكسرهم وقتل خلقا منهم وأسر خلقا وكان من جملة من أسره ملكهم الأعظم وثمانية عشر فيلا من جملتها الذي كان جرحه فأحضر الملك بين يديه فأهانه ولم يكرمه واستحوذ على حصنه وأخبر بما كان فيه من كل جليل وحقير ثم قتله بعد ذلك وعاد إلى
غزنة مؤيدا منصورا مسرورا محبورا
وفي هذه السنة اتهم أمير الحج
ببغداد - وهو
طاشتكين وقد كان على إمرة الحجيج من مدة عشرين سنة وكان في غاية حسن السيرة - بأنه يكاتب
nindex.php?page=showalam&ids=16236صلاح الدين بن أيوب بالقدوم إلى
العراق ليأخذها فإنه ليس يرده أحد وقد كان مكذوبا عليه ومع هذا حبس وأهين وصودر .