[ ص: 754 ] ثم دخلت
سنة أربع وستمائة
فيها رجع الحجاج إلى
العراق وهم يدعون الله ، ويشتكون إلى الناس ما لقوا من
صدرجهان البخاري الحنفي ، الذي كان قدم
بغداد في رسالة ، فاحتفل به الخليفة ، وخرج إلى الحج في هذه السنة ، فضيق على الناس في المياه والميرة ، فمات نحو من ستة آلاف من الحجيج العراقي بسببه في هذه السنة ، وكان - فيما ذكر - يسبق غلمانه إلى المناهل فيتحجرون على الماء ، ويأخذونه فيرشون حول خيمة مخدومهم في قيظ
الحجاز ، ويسقون البقولات التي تحمل معه في ترابها ، ويمنعون منه ابن السبيل ، الآمين البيت الحرام ، فلما رجع مع الناس لعنته العامة ، ولم تحتفل به الخاصة ، ولا أكرمه الخليفة ، ولا أرسل إليه أحدا ، وخرج من
بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه ، وسماه الناس : صدر جهنم . نعوذ بالله من الخذلان .
وفيها قبض الخليفة على وزيره
ابن مهدي العلوي ؛ وذلك لأنه نسب إليه أنه يروم الخلافة ، وقيل : غير ذلك من الأسباب . والمقصود أنه حبس بدار
طاشتكين حتى مات بها ، وكان جبارا عنيدا ، حتى قال بعضهم فيه :
خليلي قولا للخليفة أحمد توق وقيت السوء ما أنت صانع وزيرك هذا بين أمرين فيهما
صنيعك يا خير البرية ضائع [ ص: 755 ] فإن كان حقا من سلالة حيدر
فهذا وزير في الخلافة طامع وإن كان فيما يدعي غير صادق
فأضيع ما كانت لديه الصنائع
وقيل : إنه كان عفيفا عن الأموال حسن السيرة ، جيد المباشرة ، فالله سبحانه وتعالى أعلم بحاله .
وفي رمضان رتب الخليفة عشرين دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء ، يطبخ في كل يوم فيها طعام كثير ، ويحمل إليها أيضا من الخبز النقي والحلواء شيء كثير أيضا - فجزاه الله خيرا - وهذا الصنيع يشبه ما كانت تفعله
قريش من الرفادة في زمن الحج ، وكان يتولى ذلك عمه
أبو طالب ، كما كان
العباس يتولى السقاية ، وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة ، كما تقدم بيان ذلك في مواضعه ، وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الأحوال في الخلفاء العباسيين ، رحمهم الله .
وفيها أرسل الخليفة الشيخ
شهاب الدين السهروردي وفي صحبته
سنقر السلحدار إلى الملك
العادل بالخلعة السنية ، وفيها الطوق والسواران ، وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا .
وفيها ملك
الأوحد بن العادل صاحب
ميافارقين مدينة
خلاط بعد قتل صاحبها
ابن بكتمر ، وكان شابا جميل الصورة جدا ، قتله بعض مماليكهم ، ثم قتل القاتل أيضا ، فخلا البلد عن ملك ، فأخذها
الأوحد بن العادل ، كما ذكرنا .
وفيها ملك
nindex.php?page=showalam&ids=15839خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد
ما وراء النهر من
الخطا بعد حروب طويلة .
[ ص: 756 ] اتفق في بعض الأيام أمر عجيب ، وهو أن المسلمين انهزموا عن السلطان
خوارزم شاه في بعض المواقف ، وبقي هو ومعه عصابة قليلة من أصحابه ، فقتل منهم الكفار من
الخطا من قتلوا ، وأسروا خلقا منهم ، وكان السلطان
خوارزم شاه في جملة من أسر ، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك ، وأسر معه أميرا يقال له :
ابن مسعود . فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الإسلامية إلى مقرها ، فقدوا من بينهم السلطان ، فاختبطوا فيما بينهم ، واختلفوا اختلافا كثيرا ، وانزعجت
خراسان بكمالها ، ومن الناس من ظن أن السلطان قد قتل .
وأما ما كان من السلطان وذاك الأمير ; فإن الأمير قال للسلطان : إني أرى من المصلحة أن تترك الملك عنك في هذه الحالة ، وتظهر أنك غلام لي . فقبل منه ما أشار به ، وجعل يخدمه ، ويلبسه ثيابه ، ويسقيه ويضع الطعام بين يديه ، ولا يألو جهدا في خدمته ، فقال الذي أسرهما : إني أرى هذا يخدمك ، فمن أنت ؟ فقال : أنا
ابن مسعود الأمير ، وهذا غلامي ، فقال : والله لولا علم الأمراء بأني قد أسرت أميرا لأطلقتك . فقال : إني إنما أخشى على أهلي ، فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم ، فإن رأيت أن تفاديني على مال ، وترسل من يقبضه منهم فعلت خيرا . فقال : نعم . فعين رجلا من أصحابه ، فقال
ابن مسعود : إن أهلي لا يعرفون هذا ، ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي ; ليبشرهم بحياتي ، ويأمرهم بتحصيل المال . فقال : نعم . فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة
خوارزم .
فلما اقتربوا من مدينة
خوارزم سبقه الملك إليها ، فلما رآه الناس فرحوا فرحا شديدا ، ودقت البشائر في سائر بلاده ، وعاد الملك إلى نصابه ، واستقر السرور
[ ص: 757 ] بإيابه ، وأصلح ما كان وهى من مملكته بسبب ما كان اشتهر من عدمه ، وحاصر
هراة وأخذها عنوة .
وأما الذي كان قد أسره ، فإنه قال يوما
nindex.php?page=showalam&ids=10لابن مسعود : إن الناس ينوحون أن
خوارزم شاه قد عدم . فقال : لا ؛ هو الذي كان في أسرك . فقال له : فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقرا معظما ! فقال : خفتك عليه . فقال : سر بنا إليه . فسارا إليه فأكرمهما إكراما زائدا ، وأحسن إليهما .
وفيها غدر صاحب
سمرقند فقتل كل من كان ببلده من الخوارزمية ، حتى كان الرجل يقطع قطعتين ، ويعلق في السوق كما تعلق الأغنام ، وعزم على قتل زوجته بنت
خوارزم شاه ، ثم رجع عن قتلها ، وحصرها وحبسها في قلعة وضيق عليها ، فلما بلغ الخبر إلى الملك
خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر
سمرقند فأخذها قهرا ، وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف ، وأنزل الملك من القلعة وقتل صبرا بين يديه ، ولم يترك له نسلا ولا عقبا ، واستحوذ
خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك .
وفيها تحارب
الخطا وملك
التتار كشلى خان المتاخم لمملكة الصين ، فكتب ملك
الخطا إلى
خوارزم شاه يستنجده على
التتار ، ويقول : متى غلبونا خلصوا إلى بلادك . وكذا وقع . وكتب
التتار إليه أيضا يستنصرونه على
الخطا ويقولون : هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك ، فكن معنا عليهم . فكتب إلى كل من الفريقين يطيب قلبه ، وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين ، فكانت الدائرة على
الخطا ، فهلكوا إلا القليل منهم . وغدر
التتار ما كانوا عاهدوا عليه
خوارزم شاه ، فوقعت بينهما الوحشة الأكيدة ، وتواعدوا للقتال ، وخاف منهم
خوارزم شاه ،
[ ص: 758 ] وخرب بلادا كثيرة متاخمة لبلاد
كشلى خان ; خوفا عليها أن يملكها ، ثم إن
nindex.php?page=showalam&ids=15657جنكزخان خرج على
كشلى خان ، فاشتغل بمحاربته عن محاربة
خوارزم شاه ، ثم وقع من الأمور الغريبة ما سنذكره ، إن شاء الله تعالى .
وفيها كثرت غارات
الفرنج من
طرابلس على نواحي
حمص فضعف صاحبها
أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم ، فبعث إليه الظاهر صاحب
حلب عسكرا قواه بهم على
الفرنج .
وخرج الملك
العادل من الديار المصرية في العساكر الإسلامية ، وأرسل إلى جيوش
الجزيرة العمرية فوافوه على
عكا فحاصرها ; لأن
القبارسة كانوا قد أخذوا من أسطول المسلمين قطعا فيها جماعة من المسلمين ، فطلب صاحب
عكا الأمان والصلح على أن يرد الأسارى ، فأجابه إلى ذلك ، وسار
العادل فنزل على
بحيرة قدس قريبا من
حمص ، ثم سار إلى بلاد
طرابلس فأقام بها اثني عشر يوما يقتل ويأسر ويغنم ، وخرب تلك البلدان الأطرابلسية ، حتى جنح
الفرنج إلى المهادنة ، ثم عاد إلى
دمشق مؤيدا منصورا مسرورا محبورا .
وفيها ملك صاحب
أذربيجان وهو الأمير
نصرة الدين أبو بكر بن البهلوان مدينة
مراغة ; وذلك لخلوها عن ملك قاهر ، فإن ملكها مات ، وقام بالملك بعده ولد له صغير ، فدبر أمره خادم له .
وفي غرة ذي القعدة شهد
محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة
أبي القاسم بن الدامغاني ، فقبله وولاه حسبة جانبي
بغداد وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية ، وبعد عشرة أيام
[ ص: 759 ] جلس للوعظ مكان أبيه
أبي الفرج بباب بدر الشريف ، وحضر عنده خلق كثير . وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد
أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود التركستاني الحنفي ، وحضر عنده الأعيان والأكابر .
وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى
العادل بالخلع ، فلبس هو وولداه
المعظم والأشرف ووزيره
صفي الدين بن شكر ، وغير واحد من الأمراء الخلع السنية الخليفية ، ودخلوا إلى القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد ، وقرأ التقليد الوزير وهو قائم ، وكان يوما مشهودا .
وفيها
ركبت الساعات بمئذنة العروس بالجامع الأموي ، وشرعوا في بناء الدرج التي تجاه
المدرسة القيمازية .
وفيها درس
الشيخ شرف الدين عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بن سلطان بالمدرسة الرواحية بدمشق .
وفيها انتقل
الشيخ ابن الحبير البغدادي من الحنبلية إلى مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ودرس بمدرسة أم الخليفة ، وحضر عنده الأكابر والعلماء من سائر المذاهب .