ذكر
سلطنة الملك الظاهر وهو الأسد الضاري بيبرس البندقداري
وذلك أن السلطان
الملك المظفر قطز لما عاد بالعساكر قاصدا
الديار المصرية ، فوصل إلى ما بين
الغرابي والصالحية ، عدا عليه الأمراء ، فقتلوه هنالك وقد كان رجلا صالحا ، كثير الصلاة في الجماعة ، ولا يتعاطى الشراب ولا شيئا مما يتعاطاه الملوك ، وكانت مدة ملكه من حين عزل
ابن أستاذه المنصور علي بن المعز التركماني إلى هذه المدة ، وهي أواخر ذي القعدة نحوا من سنة ، رحمه الله ، وجزاه عن الإسلام وأهله خيرا .
وكان
الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري قد اتفق مع جماعة من الأمراء على قتله ، فلما وصل إلى هذه المنزلة ضرب دهليزه ، وساق خلف أرنب ، وساق معه أولئك الأمراء ، فشفع عنده
ركن الدين بيبرس في شيء فشفعه ، فأخذ يده ليقبلها فأمسكها ، وحمل عليه أولئك الأمراء بالسيوف ، وألقوه عن فرسه ، ورشقوه بالنشاب حتى أجهزوا عليه ، ثم كروا راجعين إلى المخيم ، وبأيديهم السيوف مصلتة ، فأخبروا من هناك بالخبر ، فقال
[ ص: 406 ] بعضهم : من قتله؟ فقال
ركن الدين : أنا . فقيل له : أنت الملك . وقيل : لما قتل حار الأمراء بينهم فيمن يولون الملك ، وصار كل واحد منهم يخشى غائلة ذلك ، وأن يصيبه ما أصاب غيره سريعا ، فاتفقت كلمتهم على أن بايعوا الأمير
ركن الدين بيبرس البندقداري ، ولم يكن من أكابر المقدمين فيهم ، ولكن أرادوا أن يجربوا فيه ، ولقبوه
الملك الظاهر ، فجلس على سرير المملكة وحكمه ، ودقت البشائر ، وضربت الطبول والبوقات ، وصفرت الشبابة ، وزعقت الشاووشية بين يديه ، وكان يوما مشهودا ، وتوكل على الله واستعان به ، ثم دخل
مصر والعساكر في خدمته ، فدخل
قلعة الجبل ، وجلس على كرسيها ، وحكم فعدل ، وقطع ووصل ،
وكان شهما شجاعا ، أقامه الله للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والأمر العسير ، وكان أولا قد لقب نفسه
بالملك القاهر ، فقال له الوزير : إن هذا اللقب لا يفلح من تلقب به; تلقب به
القاهر بن المعتضد فلم تطل أيامه حتى خلع وسمل ، ولقب به
القاهر صاحب
الموصل ، فسم فمات .
فعدل عن هذا اللقب إلى
الملك الظاهر ثم شرع في مسك من يرى في نفسه رئاسة من أكابر الأمراء حتى مهد الملك كما يريد ، والله على كل شيء شهيد .
وقد كان السلطان
هولاكوقان لما بلغه ما جرى على جيشه
بعين جالوت أرسل جماعة كثيرة من جيشه إلى بلاد
الشام ليستعيدوه من أيدي جيش الإسلام ، فحيل بينهم وبين ما يشتهون ، ورجعوا إليه وهم خائبون خاسرون ، وذلك أنه نهض إليهم الهزبر الكاسر والسيف الباتر السلطان الملك
المؤيد الظاهر ، فقدم إلى
[ ص: 407 ] دمشق وأرسل الجيوش من كل جانب ، لحفظ الثغور والمعاقل بالأسلحة التامة والجحافل ، فلم يقدر
التتار على الدنو إليه ، ولا القدوم عليه ، ووجدوا الدولة قد تغيرت ، والسواعد قد شمرت ، والسيوف البواتر قد سلت ، والرماح الخطية قد اعتقلت ، والقسي قد وترت ، والنبال قد حصلت ، والخيول قد ضمرت ، والطبول قد حصلت ، وعناية الله
بأهل بالشام قد تنزلت ، ورحمته بهم قد تداركت ، فعند ذلك نكصت شياطينهم على أعقابهم ، وكرت راجعة القهقرى على أذنابها ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وتكمل المسرات في هذه الحياة الدنيا وبعد الممات .
وقد كان
الملك المظفر قطز رحمه الله استناب على
دمشق الأمير
علم الدين سنجر الحلبي أحد الأتراك ، فلما بلغه مقتل
المظفر دخل
القلعة ، ودعا لنفسه وتسمى
بالملك المجاهد ، فلما جاءت البيعة
للملك الظاهر خطب له يوم الجمعة السادس من ذي الحجة ، فدعا الخطيب أولا
للمجاهد ، ثم
للظاهر ثانيا ، وضربت السكة باسمهما معا ، ثم ارتفع المجاهد هذا من البين ، كما سيأتي .
وقد اتفق في هذا العام أمور عجيبة ، وهي أن أول هذه السنة كانت
الشام للسلطان
الناصر بن العزيز ، ثم في النصف من صفر صارت
لهولاكوقان ملك
التتار ، ثم في آخر رمضان صارت
nindex.php?page=showalam&ids=15260للمظفر قطز ، ثم في أواخر ذي القعدة انتقلت إلى مملكة السلطان
الظاهر بيبرس ، وقد شركه في
دمشق الملك
المجاهد علم الدين [ ص: 408 ] سنجر ، كما ذكرنا ، وكذلك كان القضاء في أولها
بالشام لصدر الدين بن سني الدولة ، ثم
للكمال عمر التفليسي ، ثم
لمحيي الدين بن الزكي ، ثم
لنجم الدين بن سني الدولة . وكذلك كان خطيب جامع
دمشق عماد الدين بن الحرستاني من سنين متطاولة ، فعزل في شوال من هذه السنة
بالعماد الإسعردي ، وكان صيتا قارئا مجيدا ، ثم أعيد
العماد الحرستاني في أول ذي القعدة منها . فسبحان من بيده الأمور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .