[ ص: 429 ] ذكر
تجهيز الخليفة قاصدا إلى بغداد
ثم إن الخليفة طلب من السلطان أن يجهزه إلى
بغداد ، فرتب له جندا هائلة ، وأقام له من كل ما ينبغي للملوك والخلفاء من الحشم والخدم والطبلخاناه وغير ذلك ، ثم سار السلطان صحبته قاصدين
دمشق المحروسة ، وكان سبب خروج السلطان إلى
الشام أن
البرلي ، كما تقدم ، كان قد استحوذ على
حلب ، فأرسل إليه
الظاهر الأمير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان قد تغلب على
دمشق ، فطرده عن
حلب ، وتسلمها منه ، وأقام بها نائبا عن السلطان ، ثم لم يزل
البرلي حتى استعادها منه ، وأخرجه منها هاربا واستولى عليها كما كان ، فاستناب
الظاهر على
مصر عز الدين أيدمر الحلي وجعل تدبير المملكة إلى الوزير
بهاء الدين بن الحنا ، واستصحب ولده
فخر الدين بن الحنا وزير الصحبة .
وجعل تدبير العساكر والجيوش إلى الأمير
بدر الدين بيليك الخازندار ، ثم كان دخول السلطان صحبة الخليفة إلى
دمشق في يوم الاثنين سابع ذي القعدة ، وكان يوما مشهودا ، وصليا الجمعة
بجامع دمشق ، وكان دخول الخليفة من باب البريد ، ودخل السلطان من باب الزيادة ، وكان يوما مشهودا
[ ص: 430 ] أيضا ثم جهز السلطان الخليفة وأصحبه أولاد صاحب
الموصل ، وأنفق عليه وعليهم ، وعلى من استقل معه من الجيش - الذين يردون عنه ما لم يقدر الله - من الذهب العين ألف ألف دينار ، وأطلق له وزاده ، فجزاه الله خيرا ، وقدم إليه صاحب
حمص الملك الأشرف ، فخلع عليه ، وأطلق له ، وزاده
تل باشر ، وقدم صاحب
حماة المنصور ، فخلع عليه ، وأطلق له وكتب له تقليدا ببلاده ، ثم جهز جيشا صحبة الأمير
علاء الدين البندقداري إلى
حلب لمحاربة
البرلي المتغلب عليها المفسد فيها ، وقد أقام
البرلي بحلب خليفة آخر لقبه
بالحاكم ، فلما اجتاز به
المستنصر سار معه إلى
العراق ، واتفقا على المصلحة وإنفاذ الحاكم
للمستنصر; لكونه أكبر منه ولله الحمد .
لكن خرج عليهما في آخر السنة طائفة من
التتار ، ففرقوا شملهما ، وقتلوا خلقا ممن كان معهما ، وعدم
المستنصر ، وهرب
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم مع الأعراب . فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد كان
المستنصر هذا فتح بلدانا كثيرة في مسيره إلى
العراق ، ولما قاتله
بهادر على شحنة
بغداد كسره
المستنصر ، وقتل أكثر أصحابه ، ولكن خرج كمين من
التتار ، فهرب
العربان والأكراد الذين كانوا مع
المستنصر ، وثبت هو في طائفة ممن كان معه من
الترك ، فقتل كثير منهم أو أكثرهم ، وفقد هو من البين ، ونجا
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم في طائفة ، وكان هذا في أول المحرم من سنة ستين وستمائة ، رحمه الله وأكرم مثواه .
وهذا هو الذي أشبه
الحسين بن علي في توغله في أرض
العراق مع كثرة جنودها ، وكان الأولى لهذا أن يستقر في بلاد الإسلام حتى تتمهد الأمور وتصفو الأحوال ، ولكن قدر الله وما شاء فعل .
[ ص: 431 ] وجهز السلطان جيشا آخر من
دمشق إلى
بلاد الفرنج ، فأغاروا وقتلوا ، وسبوا ورجعوا سالمين ، وطلبت
الفرنج من السلطان الصلح ، فصالحهم مدة لاشتغاله
بحلب وأعمالها ، وكان قد عزل في شوال عن قضاء
مصر وحدها
تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز ، وولى عليها
برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري ، وعزل قاضي
دمشق نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين أحمد بن شمس الدين يحيى بن هبة الله بن سني الدولة ، وولى قاضي القضاة
شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ، وقد ناب في الحكم
بالقاهرة مدة طويلة عن
بدر الدين السنجاري ، فأضاف إليه مع القضاء نظر الأوقاف والجامع والمارستان وتدريس سبع مدارس; العادلية والناصرية والعذراوية والفلكية والركنية والإقبالية والبهنسية ، وقرئ تقليده يوم
عرفة يوم الجمعة بعد الصلاة بالشباك الكمالي من
جامع دمشق ، وسافر القاضي المعزول مرسما عليه ، وقد تكلم فيه الشيخ
أبو شامة ، وذكر أنه خان في وديعة ذهب جعلها فلوسا ، فالله أعلم .
وكانت مدة ولايته سنة وأشهرا ، وفي يوم العيد يوم السبت سافر السلطان بالعساكر المنصورة راجعا إلى
الديار المصرية ، وقد كان رسول
الإسماعيلية قدم على السلطان
بدمشق يتهدده ويتوعده ويطلبون منه إقطاعات كثيرة ، فلم يزل يوقع بينهم حتى استأصل شأفتهم واستولى على بلادهم ، نصره الله تعالى ، ومكن به البلاد ونصر به عباده المؤمنين ، آمين .
وفي السادس والعشرين من ربيع الأول عمل عزاء السلطان
الملك الناصر [ ص: 432 ] صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر nindex.php?page=showalam&ids=14728غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح
بيت المقدس ، وكان عمل هذا العزاء
بقلعة الجبل من
الديار المصرية بأمر السلطان
الظاهر ركن الدين بيبرس ، وذلك لما بلغهم أن
هولاكو ملك
التتار قتله ، وقد كان في قبضته ، كما تقدم ذكره ، فلما بلغه كسره أصحابه
بعين جالوت طلبه إلى بين يديه ، وقال له : أنت أرسلت الجيوش إلى
الديار المصرية حتى اقتتلوا مع
المغول ، فكسروهم . ثم أمر بقتله .
ويقال : إنه اعتذر إليه ، وذكر له أن المصريين كانوا أعداءه ، وبينه وبينهم شنآن وقتال ، فأقاله ولكنه انحطت رتبته عنده ، وقد كان مكرما في خدمته ، وقد وعده أنه إذا ملك
الديار المصرية استنابه في
الشام ، فلما كانت وقعة
حمص في هذه السنة ، وقتل فيها أصحاب
هولاكو مع مقدمهم بيدرة غضب وقال له : أصحابك من
العزيزية أمراء أبيك
والناصرية من أصحابك قتلوا أصحابنا . ثم أمر بقتله ، وقد ذكر أنه رماه بالنشاب وهو واقف بين يديه ، وهو يسأل العفو فلم يفعل حتى قتله وقتل أخاه شقيقه
الملك الظاهر عليا ، وأطلق ولديهما
العزيز محمد بن الناصر وزبالة بن الظاهر ، وكانا صغيرين من أحسن أشكال بني آدم ، فأما
العزيز فإنه مات هنالك في أسر
التتار ، وأما
زبالة فإنه صار إلى
الديار المصرية ، فكان أحسن من بها ، وكانت أمه أم ولد يقال لها :
وجه القمر . فتزوجها بعض الأمراء بعد أستاذها المذكور .
ويقال : إن
هولاكو لما أراد قتل
الناصر أمر بأربع من الشجر متباعدات فجمعت رءوسها بحبال ، ثم ربط
الناصر في الأربع بأربعته ثم أطلقت الحبال ،
[ ص: 433 ] فرجعت كل واحدة إلى مركزها بعضو من أعضائه ، رحمه الله تعالى . وقد قيل : إن ذلك كان في الخامس والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين ، وكان مولده في سنة سبع وعشرين
بحلب ولما توفي أبوه سنة أربع وثلاثين بويع بالسلطنة
بحلب ، وعمره سبع سنين ، وقام بتدبير مملكته جماعة من مماليك أبيه
العزيز ، وكان الأمر كله عن رأي جدته أم أبيه
صبغة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، فلما توفيت في سنة أربعين وستمائة استقل
الناصر بالملك ، وكان جيد السيرة في الرعايا محببا إليهم ، كثير النفقات ولا سيما لما ملك
دمشق مع
حلب وأعمالها
وبعلبك وحران وطائفة كثيرة من بلاد
الجزيرة فيقال : إن سماطه كان كل يوم يشتمل على أربعمائة رأس غنم سوى الدجاج والإوز وأنواع الطير مطبوخا بأنواع الأطعمة والقلويات ، وكان مجموع ما يغرم على السماط في كل يوم عشرين ألفا ، وعامته يخرج من بين يديه كما هو ، كأنه لم يؤكل منه شيء ، فيباع على باب
القلعة بأرخص الأثمان حتى إن كثيرا من أهل البيوتات لا يطبخون في بيوتهم شيئا من الطرف والأطعمة بل يشترون ذلك برخص ، وكانت الأرزاق كثيرة دائرة في زمانه وأيامه ، وقد كان خليعا ظريفا ، حسن الشكل ، أديبا يقول الشعر المتوسط ، القوي بالنسبة إليه ، وقد أورد له الشيخ
قطب الدين في " الذيل " قطعة صالحة من شعره ، وهي رائقة لائقة ، قتل ببلاد المشرق ، ودفن هناك وقد كان أعد له تربة برباطه الذي بناه
بسفح قاسيون ، فلم يقدر دفنه بها ،
والناصرية البرانية بالسفح من أغرب الأبنية وأحسنها بنيانا من الموكد المحكم قبلي
جامع الأفرم ، وقد بني بعدها بمدة طويلة ، وكذلك
الناصرية الجوانية التي بناها داخل
باب الفراديس هي من أحسن المدارس ، وبنى
الخان الكبير تجاه
الزنجاري وحولت إليه دار الطعم ، وقد كانت قبل ذلك غربي
[ ص: 434 ] القلعة في إصطبل السلطان اليوم . رحمه الله .
وهذا كل ما بلغنا من وقائع هذه السنة ملخصا .