[ ص: 510 ] ذكر
ما وقع في السنة الأولى من الهجرة النبوية من الحوادث والوقائع العظيمة
اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة - وقيل : سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل
ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة ، وذلك أن أمير المؤمنين
عمر رضي الله عنه ، رفع إليه صك ، أي حجة ، لرجل على آخر ، وفيه أنه يحل عليه في شعبان ، فقال
عمر : أي شعبان ؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها ، أو السنة الماضية ، أو الآتية ؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تأريخ يتعرفون به حلول الديون ، وغير ذلك ، فقال قائل : أرخوا كتاريخ
الفرس . فكره ذلك ، وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحدا بعد واحد . وقال قائل : أرخوا بتاريخ
الروم . وكانوا يؤرخون بملك
إسكندر بن فيليبس المقدوني ، فكره ذلك . وقال آخرون : أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : بل بمبعثه . وقال آخرون : بل بهجرته . وقال آخرون : بل بوفاته عليه السلام . فمال
عمر رضي الله عنه ، إلى التأريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك .
[ ص: 511 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في " صحيحه " : التاريخ ومتى أرخوا التاريخ : حدثنا
عبد الله بن مسلمة ، ثنا
عبد العزيز ، عن أبيه ، عن
سهل بن سعد ، قال : ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته ، ما عدوا إلا من مقدمه
المدينة .
وقال
الواقدي : حدثنا
ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : استشار
عمر في التأريخ فأجمعوا على الهجرة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14724أبو داود الطيالسي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16823قرة بن خالد السدوسي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين ، قال : قام رجل إلى
عمر فقال : أرخوا . فقال : ما أرخوا ؟ فقال : شيء تفعله الأعاجم يكتبون : في شهر كذا من سنة كذا . فقال
عمر : حسن فأرخوا . فقالوا : من أي السنين نبدأ ؟ فقالوا : من مبعثه . وقالوا : من وفاته . ثم أجمعوا على الهجرة ، ثم قالوا : وأي الشهور نبدأ ؟ فقالوا : رمضان . ثم قالوا : المحرم فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام . فاجتمعوا على المحرم .
وقال
ابن جرير ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل ، حدثنا
قتيبة ، ثنا
نوح بن قيس الطاحي ، عن
عثمان بن محصن ، أن
ابن عباس كان يقول في
[ ص: 512 ] قوله تعالى :
والفجر وليال عشر [ الفجر : 2 ، 1 ] . هو المحرم فجر السنة . وروى عن
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير قال : إن المحرم شهر الله ، وهو رأس السنة ، يكسى به البيت ، ويؤرخ به الناس ، ويضرب فيه الورق .
وقال
أحمد : حدثنا
روح بن عبادة ، ثنا
زكريا بن إسحاق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار ، قال : إن أول من أرخ الكتب
nindex.php?page=showalam&ids=120يعلى بن أمية باليمن ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم
المدينة في ربيع الأول وإن الناس أرخوا لأول السنة .
وروى
محمد بن إسحاق ، عن
الزهري ، وعن
محمد بن صالح ، عن
الشعبي ، أنهما قالا : أرخ
بنو إسماعيل من نار
إبراهيم ، ثم أرخوا من بنيان
إبراهيم وإسماعيل البيت ، ثم أرخوا من موت
كعب بن لؤي ، ثم أرخوا من الفيل ، ثم أرخ
عمر بن الخطاب من الهجرة ، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة وقد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده وطرقه في " السيرة العمرية " . ولله الحمد .
والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة ، وجعلوا أولها من المحرم ، فيما اشتهر عنهم ، وهذا هو قول جمهور الأئمة .
وحكى
السهيلي وغيره ، عن الإمام
مالك أنه قال : أول السنة الإسلامية
[ ص: 513 ] ربيع الأول; لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد استدل
السهيلي على ذلك في موضع آخر ، بقوله تعالى
لمسجد أسس على التقوى من أول يوم [ التوبة : 108 ] أي; من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة وهو أول يوم من التاريخ ، كما اتفق الصحابة على أول سني التاريخ عام الهجرة . ولا شك أن هذا الذي قاله الإمام
مالك رحمه الله مناسب ، ولكن العمل على خلافه ، وذلك لأن أول شهور العرب المحرم ، فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة ، وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف; لئلا يختلط النظام . والله أعلم .
فنقول وبالله المستعان : استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم
بمكة ، وقد بايع
الأنصار بيعة العقبة الثانية ، كما قدمنا في أوسط أيام التشريق ، وهي ليلة الثاني عشر من ذي الحجة قبل سنة الهجرة ، ثم رجع
الأنصار ، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى
المدينة ، فهاجر من هاجر من أصحابه إلى
المدينة حتى لم يبق
بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبس
أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم; ليصحبه في الطريق ، كما قدمنا ، ثم خرجا على الوجه الذي تقدم بسطه ، وتأخر
علي بن أبي طالب بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأمره; ليؤدي ما كان عنده ، عليه الصلاة والسلام ، من
[ ص: 514 ] الودائع ثم لحقهم
بقباء ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء .
قال
الواقدي وغيره : وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول . وحكاه
ابن إسحاق إلا أنه لم يعرج عليه ، ورجح أنه لثنتي عشرة ليلة خلت منه . وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور .
وقد كانت
مدة إقامته ، عليه الصلاة والسلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة ، في أصح الأقوال ، وهو رواية
حماد بن سلمة ، عن
أبي جمرة الضبعي ، عن
ابن عباس ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة ، وأقام
بمكة ثلاث عشرة سنة .
وهكذا روى
ابن جرير ، عن
محمد بن معمر ، عن
روح بن عبادة ، عن
زكريا بن إسحاق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار ، عن
ابن عباس ، أنه قال : مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة . وتقدم أن
ابن عباس كتب أبيات
صرمة بن أبي أنس بن قيس [ ص: 515 ] ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وقال
الواقدي : عن
إبراهيم بن إسماعيل ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15855داود بن الحصين ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس ، أنه استشهد بقول
صرمة :
ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وهكذا رواه
ابن جرير ، عن
الحارث ، عن
محمد بن سعد ، عن
الواقدي : خمس عشرة حجة . وهو قول غريب جدا ، وأغرب منه ما قال
ابن جرير ، حدثت عن
روح بن عبادة ، ثنا
سعيد ، عن قتادة ، قال : نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين
بمكة وعشرا
بالمدينة . وكان
الحسن يقول : عشرا
بمكة ، وعشرا
بالمدينة . وهذا القول الآخر الذي ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري من أنه أقام
بمكة عشر سنين ذهب إليه
أنس بن مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب ، nindex.php?page=showalam&ids=16705وعمرو بن دينار ، فيما رواه
ابن جرير عنهم . وهو رواية عن
ابن عباس; رواها
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ، عن
يحيى بن سعيد ، عن
هشام ، عن
عكرمة ، عن
ابن عباس ، قال : أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين فمكث
بمكة عشرا . وقد قدمنا عن
الشعبي أنه قال : قرن
إسرافيل برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ، يلقي إليه الكلمة والشيء . وفي رواية : يسمع حسه ولا
[ ص: 516 ] يرى شخصه ، ثم كان بعد ذلك
جبريل . وقد حكى
الواقدي عن بعض مشايخه أنه أنكر قول
الشعبي هذا . وحاول
ابن جرير أن يجمع بين قول من قال : إنه عليه الصلاة والسلام أقام
بمكة عشرا . وقول من قال : ثلاث عشرة . بهذا الذي ذكره
الشعبي . والله أعلم .