[ ص: 563 ] ثم دخلت سنة تسع وسبعين وستمائة
كان أولها يوم الخميس ثالث أيار ،
nindex.php?page=showalam&ids=14069والخليفة الحاكم بأمر الله أحمد العباسي ، وملك
مصر الملك المنصور قلاوون الصالحي وبعض بلاد
الشام أيضا ، وأما
دمشق وأعمالها فقد ملكها
سنقر الأشقر ، وصاحب
الكرك الملك المسعود بن الظاهر ، وصاحب
حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود ، والعراق وبلاد
الجزيرة وخراسان والموصل وإربل وأذربيجان وبلاد بكر وخلاط وما والاها وغير ذلك من البلاد بأيدي
التتار ، وكذلك
بلاد الروم في أيديهم أيضا ، ولكن فيها
غياث الدين بن ركن الدين ، ولا حكم له سوى الاسم ، وصاحب
اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر ، وصاحب الحرم الشريف
نجم الدين بن أبي نمي الحسني ، وصاحب
المدينة عز الدين جماز بن شيحة الحسيني .
ففي مستهل السنة المذكورة ركب السلطان
الملك الكامل سنقر الأشقر من القلعة إلى الميدان ، وبين يديه الأمراء ومقدموا الحلقة يحملون الغاشية ، وعليهم الخلع ، والقضاة والأعيان ركاب معه ، فسير في الميدان ساعة ، ثم رجع إلى
[ ص: 564 ] القلعة ، وجاء إلى خدمته
الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب ، فقبل الأرض بين يديه ، وجلس إلى جانبه وهو على السماط ، وقام له
الملك الكامل ، وكذلك جاء إلى خدمته ملك
الأعراب بالحجاز ، وأمر
الكامل سنقر أن تضاف
البلاد الحلبية إلى ولاية
القاضي شمس الدين بن خلكان ، وولاه
تدريس الأمينية ، وانتزعها من
ابن سني الدولة .
ولما بلغ الملك المنصور بالديار المصرية ما كان من أمر سنقر الأشقر بالشام أرسل إليه جيشا كثيفا ، فهزموا عسكر سنقر الأشقر الذي كان قد أرسله إلى
غزة ، وساقوهم بين أيديهم حتى وصل جيش
المصريين إلى قريب
دمشق ، فأمر
الملك الكامل أن يضرب دهليزه بالجسورة ، وذلك في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر ، ونهض بنفسه وبمن معه فنزل هنالك ، واستخدم خلقا كثيرا وأنفق أموالا جزيلة ، وانضاف إليه عرب
الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وشهاب الدين أحمد بن حجي ، ونجدة
حلب ونجدة
حماة ورجال كثيرة من
جبال بعلبك ، فلما كان يوم الأحد السادس عشر من صفر أقبل الجيش المصري صحبة
الأمير علم الدين سنجر الحلبي ، فلما تراءى الجمعان وتقابل الفريقان تقاتلوا إلى الرابعة في النهار ، فقتل نفر كثير ، وثبت
الملك الكامل سنقر الأشقر ثباتا جيدا ، ولكن خامر عليه الجيش ، فمنهم من صار إلى المصري ، ومنهم من انهزم في كل وجه ، وتفرق عنه أصحابه ، فلم يسعه إلا الانهزام على طريق
المرج في طائفة يسيرة في صحبة
عيسى بن مهنا ، فسار بهم إلى
برية الرحبة ، فأنزلهم في بيوت من شعر ، وأقام بهم وبدوابهم مدة مقامهم عنده ، ثم بعث الأمراء الذين انهزموا
[ ص: 565 ] عنه ، فأخذوا لهم أمانا من
الأمير سنجر ، وقد نزل في ظاهر
دمشق وهي مغلوقة ، فراسل نائب القلعة ، ولم يزل به حتى فتح باب الفرج من آخر النهار ، وفتحت القلعة من داخل البلد ، فتسلمها
للمنصور ، وأفرج عن
الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق ، والأمير حسام الدين لاجين المنصوري ، وغيرهم من الأمراء الذين كان قد اعتقلهم
سنقر الأشقر ، وأرسل
سنجر البريدية إلى
الملك المنصور يعلمونه بصورة الحال ، وأرسل
سنجر ثلاثة آلاف في طلب
سنقر الأشقر .
وفي هذا اليوم جاء
ابن خلكان ليسلم على
الأمير سنجر الحلبي ، فاعتقله في علو
الخانقاه النجيبية ، وعزله في يوم الخميس العشرين من صفر ، ورسم
للقاضي نجم الدين بن سني الدولة بالقضاء فباشره ، ثم جاءت البريدية معهم كتاب من
الملك المنصور بالعتب على طوائف الناس ، والعفو عنهم كلهم ، فتضاعفت له الأدعية ، وجاء تقليد النيابة
بالشام للأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري ، فدخل معه
علم الدين سنجر الحلبي فرتبه بدار السعادة ، وأمر
سنجر القاضي ابن خلكان أن يتحول من المدرسة العادلية الكبيرة; ليسكنها
نجم الدين بن سني الدولة ، وألح عليه في ذلك فاستدعى جمالا لينقل أهله وثقله عليها إلى الصالحية ، فجاء البريد بكتاب من السلطان ، فيه تقرير
ابن خلكان على القضاء ، والعفو عنه وشكره والثناء عليه ، وذكر خدمته المتقدمة ، ومعه خلعة سنية له ، فلبسها وصلى بها الجمعة ، وسلم على الأمراء ، فأكرموه وعظموه ، وفرح الناس به وبما وقع من الصفح عنه .
[ ص: 566 ] وأما
سنقر الأشقر فإنه لما خرجت العساكر في طلبه فارق
الأمير عيسى بن مهنا ، وسار إلى السواحل ، فاستحوذ منها على حصون كثيرة; منها
صهيون ، وقد كان بها أولاده وحواصله ، وحصن
بلاطنس وبرزية وعكار وجبلة واللاذقية والشغر وبكاس وشيزر ، واستناب فيها
الأمير عز الدين أزدمر الحاج ، فأرسل
السلطان المنصور لحصار
شيزر طائفة من الجيش ، فبينما هم كذلك إذ
أقبلت التتار من كل فج لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين ، فانجفل الناس من بين أيديهم من سائر البلاد إلى
الشام ، ومن
الشام إلى
مصر ، فوصلت
التتار إلى
حلب ، فقتلوا خلقا كثيرا ، ونهبوا شيئا كثيرا ، وظنوا أن جيش
سنقر الأشقر يكون معهم على
المنصور ، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك وذلك أن
المنصور كتب إلى
سنقر الأشقر : إن
التتار قد أقبلوا إلى المسلمين والمصلحة أن نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم ، وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا أحدا . فكتب إليه
سنقر بالسمع والطاعة ، وبرز من حصنه ، فخيم بجيشه ليكون على أهبة متى طلب أجاب ، ونزلت نوابه من حصونهم ، وبقوا مستعدين لقتال
التتار ، وخرج
الملك المنصور من
مصر في أواخر جمادى الآخرة ، ومعه العساكر .
[ ص: 567 ] وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة قرئ على منبر جامع
دمشق كتاب من السلطان أنه قد عهد بالملك إلى ابنه
علي ، ولقب بالملك الصالح ، فلما فرغ من قراءة الكتاب جاءت البريدية ، فأخبروا برجوع
التتار من
حلب إلى بلادهم ، وذلك لما بلغهم من اتفاق كلمة المسلمين ، ففرح المسلمون بذلك ، ولله الحمد ، وعاد
المنصور إلى
مصر ، وكان قد وصل إلى
غزة أراد بذلك تخفيف الوطأة عن
الشام ، فوصل إلى
مصر في نصف شعبان .
وفي جمادى الآخرة أعيد
برهان الدين السنجاري إلى وزارة
مصر ، ورجع
فخر الدين بن لقمان إلى كتابة الإنشاء .
وفي أواخر رمضان أعيد إلى القضاء
ابن رزين ، وعزل
ابن بنت الأعز ، وأعيد
القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي ، ومعين الدين الحنفي ، وتولى قضاء الحنابلة
عز الدين المقدسي .
وفي ذي الحجة جاء تقليد
ابن خلكان بإضافة المعاملة الحلبية إليه يستنيب فيها من يشاء من نوابه .
وفي مستهل ذي الحجة خرج
الملك المنصور من بلاد
مصر بالعساكر قاصدا
الشام ، واستناب على
مصر ولده
الملك الصالح علي بن المنصور إلى حين رجوعه .
قال
الشيخ قطب الدين : وفي يوم
عرفة وقع
بمصر برد كبار أتلف شيئا كثيرا من المغلات ، ووقعت صاعقة
بالإسكندرية وأخرى في يومها تحت
[ ص: 568 ] الجبل الأحمر على صخرة فأحرقتها ، فأخذ ذلك الحديد فسبك ، فخرج منه أواق بالرطل المصري .
وجاء السلطان فنزل بعساكره تجاه
عكا ، فخافت
الفرنج منه خوفا شديدا ، وراسلوه في طلب تجديد الهدنة فإنه كان قد انتهى أمد ما كان قبلها ، فأقام بهذه المنزلة إلى أول سنة ثمانين ، فكانت فيها الهدنة ، وجاء
الأمير عيسى بن مهنا من بلاد
العراق إلى خدمة
المنصور وهو بهذه المنزلة ، فتلقاه السلطان بجيشه وأكرمه واحترمه ، وعامله بالصفح والعفو والإحسان .