[ ص: 122 ] نيابة تنكز على الشام
في يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر دخل الأمير
سيف الدين تنكز بن عبد الله المالكي الناصري نائبا على
دمشق ، بعد
مسك نائب
الكرك ، ومعه جماعة من مماليك السلطان منهم
الحاج أرقطاي ، على خبز
بيبرس العلائي ، وخرج الناس لتلقيه ، وفرحوا به كثيرا ، ونزل بدار السعادة ، ووقع عند قدومه مطر عظيم ، وكان ذلك اليوم يوم الرابع والعشرين من آب ، وحضر يوم الجمعة الخطبة
بالمقصورة ، وأشعلت له الشموع في طريقه ، وجاء توقيع
لابن صصرى بإعادة قضاء العسكر إليه ، وأن ينظر الأوقاف فلا يشاركه أحد في الاستنابة في البلاد الشامية على عادة من تقدمه من قضاة الشافعية ، وجاء مرسوم
لشمس الدين أبي طالب بن حميد بنظر الجيش عوضا عن
ابن شيخ السلامية بحكم إقامته
بمصر ، ثم بعد أيام وصل
الصدر معين الدين هبة الله بن حشيش ناظر الجيش ، وجعل
ابن حميد في وظيفة
ابن البدر ، وسافر
ابن البدر على نظر جيش
طرابلس ، وتولى
أرغون نيابة
مصر ، وعاد
فخر الدين كاتب المماليك إلى وظيفته مع استمرار
قطب الدين بن شيخ السلامية أيضا مباشرا معه .
[ ص: 123 ] وفي هذا الشهر قام
الشيخ محمد بن قوام وجماعة من الصالحين على
ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة ، وكتبوا عليه محاضر تتضمن استهانته بالمصحف ، وأنه يتكلم في أهل العلم ، فأحضر إلى دار العدل ، فاستسلم وحقن دمه ، وعزر تعزيرا بليغا عنيفا ، وطيف به في البلد باطنه وظاهره وهو مكشوف الرأس ، ووجهه مقلوب ، وظهره مضروب ، ينادى عليه : هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة . ثم حبس وأطلق ، فهرب إلى
القاهرة ، ثم عاد على البريد في شعبان ، ورجع إلى ما كان عليه .
وفيه قدم
بهادرآص من نيابة
صفد إلى
دمشق وهنأه الناس . وفيه قدم كتاب من السلطان إلى
دمشق أن لا يولى أحد بمال ولا برشوة فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية ، وإلى ولاية غير الأهل ، فقرأه
ابن الزملكاني على السدة ، وبلغه عنه
ابن صبيح المؤذن ، وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين
ابن تيمية ، رحمه الله .
وفي رجب وشعبان
حصل للناس خوف بدمشق بسبب أن التتر قد تحركوا للمجيء إلى الشام ، فانزعج الناس من ذلك وخافوا ، وتحول كثير منهم إلى البلد ، وازدحموا في الأبواب ، وذلك في شهر رمضان ، وكثرت الأراجيف بأنهم قد وصلوا إلى
الرحبة ، وكذلك
جرى ، واشتهر بأن ذلك بإشارة
قراسنقر وذويه ، فالله أعلم .
[ ص: 124 ] وفي رمضان جاء كتاب السلطان أن من قتل لا يجني أحد عليه ، بل يتبع القاتل حتى يقتص منه بحكم الشرع الشريف ، فقرأه
ابن الزملكاني على السدة بحضرة نائب السلطنة
تنكز ، وسببه
ابن تيمية ، هو أمر بذلك وبالكتاب الأول قبله .
وفي أول رمضان
وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يوما ، وقاتلهم نائبها الأمير
بدر الدين موسى الأزكشي خمسة أيام قتالا عظيما ، ومنعهم منها ، فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خدمة السلطان
خربندا ، ويهدوا له هدية ، ويطلبون منه العفو ، فنزل القاضي
نجم الدين إسحاق وجماعة ، وأهدوا له خمسة رءوس خيل وعشرة أباليج سكر ، فقبل ذلك ورجع إلى بلاده ، وكانت بلاد
حلب وحماة وحمص قد أجلوا منها ، وخرب أكثرها ، ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع
التتر عن
الرحبة ، وطابت الأخبار ، وسكنت النفوس ، ودقت البشائر ، وتركت الأئمة القنوت ، وخطب الخطيب يوم العيد ، وذكر الناس بهذه النعمة . وكان
سبب رجوع التتر قلة العلف ، وغلاء الأسعار ، وموت كثير منهم ، وأشار على سلطانهم بالرجوع :
الرشيد وجوبان .
وفي ثامن شوال دقت البشائر
بدمشق بسبب
خروج السلطان من مصر لأجل ملاقاة التتر ، وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم
حسام الدين لاجين الصغير ، الذي كان والي البر ، وقدمت العساكر
المنصورة المصرية أرسالا ، وكان قدوم السلطان ودخوله
دمشق يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال
[ ص: 125 ] واحتفل الناس لدخوله ، فنزل بالقلعة وقد زين البلد ، ودقت البشائر ، ثم انتقل بعد ليلتئذ إلى القصر ، وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة ، وخلع على الخطيب ، وجلس في دار العدل يوم الاثنين ، وقدم وزيره أمين الملك يوم الثلاثاء عشرين الشهر ، وقدم صحبة السلطان الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين
أبو العباس أحمد ابن تيمية إلى
دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة ، وكانت غيبته عنها سبع سنين كوامل ، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه ، وخرج خلق كثير لتلقيه ، وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته ، واستبشروا به حتى خرج خلق من النساء أيضا لرؤيته ، وقد كان السلطان صحبه معه من
مصر ، فخرج معه بنية الغزاة ، فلما تحقق عدم الغزاة وأن
التتر رجعوا إلى بلادهم فارق الجيش من
غزة ، وزار
القدس ، وأقام به أياما ، ثم سافر على عجلون وبلاد السواد وزرع ، ووصل
دمشق في أول يوم من ذي القعدة ، فدخلها فوجد السلطان قد توجه إلى
الحجاز الشريف في أربعين أميرا من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة ، ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى
دمشق واستقراره بها لم يزل ملازما لاشتغال الناس في سائر العلوم ، ونشر العلم ، وتصنيف الكتب ، وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة ، والاجتهاد في الأحكام الشرعية ، ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة ، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم ، وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة ، أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده ، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف . فلما سار السلطان إلى الحج فرق العساكر والجيوش
بالشام ، وترك
أرغون بدمشق .
[ ص: 126 ] وفي يوم الجمعة لبس
الشيخ كمال الدين بن الزملكاني خلعة وكالة بيت المال عوضا عن
ابن الشريشي ، وحضر بها
الشباك ، وتكلم الوزير أمين الملك في البلد ، وطلب من الناس أموالا كثيرة ، وصادر ، وضرب ، بالمقارع ، وأهان جماعة من الرؤساء ، منهم
الصدر محيي الدين بن فضل الله . وفيه عين
شهاب الدين بن جهبل لتدريس الصلاحية
بالقدس الشريف عوضا عن
نجم الدين داود الكردي ، توفي ، وقد كان مدرسا بها من نحو ثلاثين سنة ، فسافر
ابن جهبل إلى
القدس بعد عيد الأضحى .
وفيها مات ملك دست
القفجاق المسمى
طقطاي خان ، وكان له في الملك ثلاث وعشرون سنة ، وكان عمره يوم مات ثلاثين سنة ، وكان شهما شجاعا ، على دين
التتر في عبادة الأصنام والكواكب ، يعظم المجسمة ، والحكماء ، والأطباء ، ويكرم المسلمين أكثر من جميع الطوائف ، كان جيشه هائلا ، لا يجسر أحد على قتاله لكثرة جيشه ، وقوتهم ، وعددهم ،
[ ص: 127 ] ويقال : إنه جرد مرة تجريدة من كل عشرة من جيشه واحدا ، فبلغت التجريدة مائتي ألف وخمسين ألفا ، توفي في رمضان من هذه السنة ، وقام في الملك من بعده ابن أخيه
أزبك خان ، وكان مسلما ، فأظهر دين الإسلام ببلاده ، وقتل خلقا من أمراء الكفرة ، وعلت الشريعة المحمدية على سائر الشرائع هناك ، ولله الحمد والمنة على الإسلام والسنة .