[ ص: 182 ] وممن توفي فيها من الأعيان : الشيخ الصالح ، العابد الناسك ، الورع الزاهد القدوة ، بقية السلف وقدوة الخلف
، أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن السيد القدوة الناسك الكبير العارف أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي ، ولد سنة خمسين وستمائة
ببالس ، وسمع من أصحاب
ابن طبرزد ، وكان شيخا جليلا بشوش الوجه ، حسن السمت ، مقصدا لكل أحد ، كثير الوقار ، عليه سيما العبادة والخير ، وكان يوم قازان في جملة من كان مع الشيخ
تقي الدين ابن تيمية لما تكلم مع
قازان ، فحكى عن كلام
شيخ الإسلام تقي الدين لقازان وشجاعته ، وجرأته عليه ، وأنه قال لترجمانه : قل لقازان : أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون ، وقاض ، وإمام ، وشيخ ، على ما بلغنا ، فغزوتنا ، ودخلت بلادنا على ماذا ؟ وأبوك وجدك
هولاكو كانا كافرين ، وما غزوا بلاد الإسلام ، بل عاهدا فوفيا ، وأنت عاهدت فغدرت ، وقلت فما وفيت . قال : وجرت له مع قازان ، وقطلوشاه ، وبولاي ، أمور ونوب ، قام
ابن تيمية فيها كلها لله ، وقال الحق ، ولم يخش إلا الله عز وجل . قال : وقرب إلى الجماعة طعام فأكلوا منه إلا
ابن تيمية ، فقيل له : ألا تأكل؟ فقال : كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس ، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس ؟ قال : ثم إن
قازان طلب منه الدعاء ،
[ ص: 183 ] فقال في دعائه : اللهم إن كان عبدك هذا محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا ، وليكون الدين كله لك - فانصره ، وأيده ، وملكه البلاد والعباد ، وإن كان إنما قام رياء وسمعة ، وطلبا للدنيا ، ولتكون كلمته هي العليا ، وليذل الإسلام وأهله ، فاخذله ، وزلزله ، ودمره ، واقطع دابره . قال :
وقازان يؤمن على دعائه ، ويرفع يديه . قال : فجعلنا نجمع ثيابنا خوفا من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله . قال : فلما خرجنا من عنده ، قال له قاضي القضاة
نجم الدين ابن صصرى وغيره : كدت أن تهلكنا ، وتهلك نفسك ، والله لا نصحبك من هنا . فقال : وأنا والله لا أصحبكم . قال : فانطلقنا عصبة ، وتأخر هو في خاصة نفسه ، ومعه جماعة من أصحابه ، فتسامعت به الخواتين والأمراء من أصحاب
قازان ، فأتوه يتبركون بدعائه ، وهو سائر إلى
دمشق ، وينظرون إليه ، قال : والله ما وصل إلى
دمشق إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه ، وكنت أنا من جملة من كان معه ، وأما أولئك الذين أبوا أن يصحبوه ، فخرج عليهم جماعة من
التتر ، فشلحوهم عن آخرهم . هذا الكلام أو نحوه . وقد سمعت هذه الحكاية من جماعة غيره ، وقد تقدم ذلك .
توفي الشيخ
محمد بن قوام ليلة الاثنين الثاني والعشرين من صفر بالزاوية المعروفة بهم غربي الصالحية والناصرية والعادلية ، وصلي عليه بها ، ودفن فيها ، وحضر جنازته ودفنه خلق كثير وجم غفير ، وكان في جملة الجمع الشيخ
تقي [ ص: 184 ] الدين ابن تيمية ؛ لأنه كان يحبه كثيرا ، ولم يكن للشيخ
محمد مرتب على الدولة ، ولا لزاويته مرتب ولا وقف ، وقد عرض عليه ذلك غير مرة فلم يقبل ، وكان يزار ، وكان لديه علم وفضائل جمة ، وكان فهمه صحيحا ، وكانت له معرفة تامة ، وكان حسن العقيدة ، وطويته صحيحة ، وكان محبا للحديث وآثار السلف ، كثير التلاوة والجمعية على الله عز وجل ، وقد صنف جزءا فيه أخبار جيدة ، رحمه الله ، وبل ثراه بوابل الرحمة ، آمين .
الشيخ الصالح ، الأديب البارع ، الشاعر المجيد
، تقي الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ أحمد بن تمام بن حسان التلي ثم الصالحي الحنبلي ، أخو الشيخ محمد بن تمام ، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة ، وسمع الحديث ، وصحب الفضلاء ، وكان حسن الشكل والخلق ، طيب النفس ، مليح المجاورة والمجالسة ، كثير المفاكهة ، أقام مدة
بالحجاز ، واجتمع
بابن سبعين وبالتقي الحوراني ، وأخذ النحو عن
ابن مالك ، وابنه
بدر الدين ، وصحبه مدة ، وقد صحبه
الشهاب محمود مدة خمسين سنة ، وكان يثني عليه بالزهد والفراغ من الدنيا ، توفي ليلة السبت الثالث من ربيع الآخر ،
[ ص: 185 ] ودفن
بالسفح ، وقد أورد الشيخ
علم الدين البرزالي في ترجمته قطعة من شعره ، فمن ذلك قوله :
أسكان المعاهد من فؤادي لكم في خافق منه سكون أكرر فيكم أبدا حديثي
فيحلو والحديث له شجون وأنظمه عقودا من دموعي
فتنثره المحاجر والجفون وأبتكر المعاني في هواكم
وفيكم كل قافية تهون وأسأل عنكم الباكين سرا
وسر هواكم سر مصون وأعتبق النسيم ؛ لأن فيه
شمائل من معاطفكم تبين فكم لي في محبتكم غرام
وكم لي في الغرام بكم فنون