[ ص: 289 ] ثم دخلت
سنة ثمان وعشرين وسبعمائة الأحداث التي وقعت فيها
في ذي القعدة منها كانت وفاة شيخ الإسلام
أبي العباس أحمد ابن تيمية قدس الله روحه .
استهلت هذه السنة وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها ، سوى نائب
مصر ، وقاضي
حلب .
وفي يوم الأربعاء ثاني المحرم درس بحلقة صاحب
حمص الشيخ الحافظ
صلاح الدين العلائي ، نزل له عنها شيخنا الحافظ
المزي ، وحضر عنده الفقهاء والقضاة والأعيان ، وذكر درسا حسنا مفيدا . وفي يوم الجمعة رابع المحرم حضر قاضي القضاة
علاء الدين القونوي مشيخة الشيوخ
بالسميساطية عوضا عن القاضي المالكي
شرف الدين ، وحضر عنده الفقهاء والصوفية على العادة .
وفي يوم الأحد ثامن عشر صفر درس
بالمسرورية تقي الدين عبد الرحمن بن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضا عن
جمال الدين بن الشريشي بحكم انتقاله إلى قضاء
حمص ، وحضر الناس عنده وترحموا على والده .
وفي يوم الأحد خامس عشرين صفر وصل إلى
دمشق الأمير الكبير صاحب بلاد
الروم تمرتاش بن جوبان قاصدا إلى
مصر ، فخرج نائب السلطنة والجيش
[ ص: 290 ] لتلقيه ، وهو شاب حسن الصورة ، تام الشكل ، مليح الوجه . ولما انتهى إلى السلطان
بمصر أكرمه ، وأعطاه تقدمة ألف ، وفرق أصحابه على الأمراء ، فأكرموا إكراما زائدا ، وكان سبب قدومه إلى
مصر أن صاحب
العراق الملك
بو سعيد كان قد قتل أخاه
خواجا دمشق في شوال من السنة الماضية ، فهم والده
جوبان بمحاربة السلطان
بو سعيد ، فلم يتمكن من ذلك ، وكان
جوبان إذ ذاك مدبر الممالك ، فخاف
تمرتاش هذا عند ذلك من السلطان ، ففر هاربا بدمه إلى
السلطان الناصر بمصر .
وفي ربيع الأول توجه نائب
الشام سيف الدين تنكز إلى الديار المصرية لزيارة السلطان ، فأكرمه ، واحترمه ، واشترى في هذه السفرة دار الفلوس التي بالقرب من
البزوريين والجوزية ، وهي شرقيهما ، وقد كان سوق البزورية اليوم يسمى سوق القمح ، فاشترى هذه الدار ، وعمرها دارا هائلة ليس
بدمشق دار أحسن منها ، وسماها دار الذهب ، وهدم حمام سويد تلقاءها ، وجعله دار قرآن وحديث ، وجاءت في غاية الحسن أيضا ، ووقف عليها أماكن ، ورتب فيها المشايخ والطلبة ، كما سيأتي تفصيله في موضعه ، واجتاز برجوعه من
مصر بالقدس الشريف ، وزاره ، وأمر ببناء حمام به ، وببناء دار حديث أيضا وخانقاه ، كما يأتي بيانه .
وفي أواخر ربيع الأول وصلت القناة إلى
القدس الشريف التي أمر بعمارتها
[ ص: 291 ] وتجديدها
سيف الدين قطلبك ، فقام بعمارتها مع ولاة تلك النواحي ، وفرح المسلمون بها ، ودخلت حتى إلى وسط
المسجد الأقصى ، وعمل به بركة هائلة ، وهي مرخمة ما بين
الصخرة والأقصى ، وكان ابتداء عملها من شوال من السنة الماضية .
وفي هذه المدة عمر سقوف رواقات
المسجد الحرام بمكة وأبوابه ، وعمرت
بمكة طهارة مما يلي باب
بني شيبة .
قال
البرزالي : وفي هذا الشهر كملت عمارة الحمام الذي
بسوق باب توماء ، وله بابان .
قال : وفي ربيع الآخر نقض الترخيم الذي بحائط
جامع دمشق القبلي من جهة الغرب مما يلي باب الزيادة ، فوجدوا الحائط متجافيا ، فخيف من أمره ، وحضر تنكز بنفسه ومعه القضاة وأرباب الخبرة ، فاتفق رأيهم على نقضه وإصلاحه ، وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين ربيع الآخر ، فكتب نائب السلطنة إلى السلطان يعلمه بذلك ويستأذنه في عمارته ، فجاء المرسوم بالإذن في ذلك ، فشرع في نقضه يوم الجمعة خامس عشرين جمادى الأولى ، وشرعوا في عمارته يوم الأحد تاسع عشر جمادى الآخرة ، وعمل محراب فيما بين باب الزيادة ومقصورة الخطابة يضاهي محراب الصحابة ، ثم
[ ص: 292 ] جدوا ولازموا في عمارته ، وتبرع كثير من الناس بالعمل فيه من سائر الناس ، فكان يعمل فيه كل يوم أزيد من مائة رجل ، حتى كملت عمارة الجدار ، وأعيدت طاقاته وسقوفه في العشرين من رجب ، وذلك بهمة
تقي الدين بن مراجل ، وهذا من العجب ، فإنه نقض الجدار وما يسامته من السقف ، وأعيد في مدة لا يتخيل إلى أحد أن عمله يفرغ فيما يقارب هذه المدة جزما ، وساعدهم على سرعة الإعادة حجارة وجدوها في أساس الصومعة الغربية التي عند الغزالية ، وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة كما في الغربية والشرقية القبليتين منه ، فأبيدت الشماليتان قديما ، ولم يبق منهما من مدة ألوف من السنين سوى أس هذه المئذنة الغربية الشمالية ، فكانت من أكبر العون على إعادة هذا الجدار سريعا ، ومن العجب أن ناظر الجامع
ابن مراجل لم ينقص أحدا من أرباب المرتبات على الجامع شيئا مع هذه العمارة .
وفي ليلة السبت خامس جمادى الأولى وقع حريق عظيم
بالفرائين ، واتصل بالرماحين ، واحترقت القيسارية والمسجد الذي هناك ، وهلك للناس شيء كثير من الفراء والجوخ والأقمشة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفي يوم الجمعة عاشره بعد الصلاة صلي على القاضي
شمس الدين بن الحريري قاضي قضاة الحنفية
بمصر ، وصلي عليه صلاة الغائب
بدمشق . وفي هذا اليوم قدم البريد بطلب
برهان الدين بن عبد الحق الحنفي إلى
مصر ليلي القضاء بها
[ ص: 293 ] بعد
ابن الحريري ، فخرج مسافرا إليها ، ودخل
مصر في خامس عشرين جمادى الأولى ، واجتمع بالسلطان ، فولاه القضاء ، وأكرمه ، وخلع عليه ، وأعطاه بغلة بزناري ، وحكم بالمدرسة الصالحية بحضرة القضاة والحجاب ، ورسم له بجميع جهات
ابن الحريري .
وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة أخرج ما كان عند الشيخ
تقي الدين ابن تيمية من الكتب ، والأوراق ، والدواة ، والقلم ، ومنع من الكتب والمطالعة ، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة ، قال
البرزالي : وكانت نحو ستين مجلدا ، وأربع عشرة ربطة كراريس ، فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفرقوها بينهم ، وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان رد عليه
التقي بن الأخنائي المالكي في مسألة الزيارة ، فرد عليه الشيخ
تقي الدين واستجهله ، وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم ، فطلع الأخنائي إلى السلطان وشكاه ، فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك ، وكان ما كان ، كما ذكرنا .
وفي أواخره رسم
لعلاء الدين بن القلانسي في الدست مكان أخيه
جمال الدين توقيرا لخاطره عن المباشرة ، وأن يكون معلومه على قضاء العساكر والوكالة ، وخلع عليهما بذلك .
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرين رجب رسم للأئمة الثلاثة الحنفي والمالكي
[ ص: 294 ] والحنبلي بالصلاة في الحائط القبلي من
الجامع الأموي ، فعين المحراب الجديد الذي بين الزيادة والمقصورة
للإمام الحنفي ، وعين محراب الصحابة للمالكي ، وعين محراب مقصورة الخضر الذي كان يصلي فيه المالكي للحنبلي ، وعوض إمام محراب الصحابة
بالكلاسة ، وكان قبل ذلك في حال العمارة قد بلغ محراب الحنفية من المقصورة المعروفة بهم ، ومحراب الحنابلة من خلفهم في الرواق الثالث الغربي - وكانا بين الأعمدة - فنقلت تلك المحاريب ، وعوضوا بالمحاريب المستقرة بالحائط القبلي ، واستقر الأمر كذلك .
وفي العشرين من شعبان مسك الأمير
تمرتاش بن جوبان الذي أتى هاربا إلى السلطان
الناصر بمصر وجماعة من أصحابه ، وحبسوا بقلعة
مصر ، فلما كان ثاني شوال أظهر موته ، يقال : إنه قتله السلطان ، وأرسل رأسه إلى
بو سعيد صاحب
العراق ابن خربندا ملك
التتار .
وفي يوم الاثنين ثاني شوال خرج الركب الشامي وأميره
فخر الدين بن محمد بن الأمير شمس الدين لؤلؤ الحلبي أحد أمراء
دمشق ، وقاضيه قاضي قضاة الحنابلة
عز الدين بن التقي سليمان .
وممن حج الأمير
حسام الدين البشمقدار ، والأمير
قبجق ، والأمير
حسام الدين بن النجيبي ،
وتقي الدين بن السلعوس ،
وبدر الدين بن الصائغ ،
وابنا [ ص: 295 ] جهبل ،
والفخر المصري ، والشيخ
علم الدين البرزالي ،
وشهاب الدين الظاهري .
وقبل ذلك بيوم حكم القاضي
المنفلوطي الذي كان حاكما
ببعلبك بدمشق نيابة عن شيخه قاضي القضاة
علاء الدين القونوي ، وكان مشكور السيرة ، تألم
أهل بعلبك لفقده ، فحكم
بدمشق عوضا عن
القونوي بسبب عزمه على الحج ، ثم لما رجع
الفخر من الحج عاد إلى الحكم ، واستمر
المنفلوطي يحكم أيضا ، فصاروا ثلاثة نواب :
ابن جملة ،
والفخر المصري ،
والمنفلوطي .
وسافر
القاضي معين الدين بن الحشيش في ثاني عشرين شوال إلى
القاهرة لينوب عن القاضي
فخر الدين كاتب المماليك إلى حين رجوعه من
الحجاز ، فلما وصل ولي حجابة ديوان الجيش ، واستمر هناك ، واستقل
قطب الدين ابن شيخ السلامية بنظر الجيش
بدمشق على عادته .
وفي شوال خلع على أمين الملك بالديار المصرية ، وولي نظر الدواوين ، فباشره شهرا ويومين ، وعزل عنه .