[ ص: 433 ] كائنة غريبة جدا
وفي ليلة الأحد عشية السبت نزل الأمير
سيف الدين قطلوبغا الفخري بظاهر
دمشق ، بين
الجسورة وميدان الحصا ، بالأطلاب الذين جاءوا معه من البلاد المصرية لمحاصرة
الكرك ; للقبض على ابن السلطان
الأمير أحمد بن الناصر ، فمكثوا على
الثنية محاصرين مضيقين عليه إلى أن توجه نائب
الشام إلى
حلب ، ومضت هذه الأيام المذكورة ، فما درى الناس إلا وقد جاء
الفخري وجموعه ، وقد بايعوا
الأمير أحمد ، وسموه
الناصر ابن الناصر ، وخلعوا بيعة أخيه الملك
الأشرف علاء الدين كجك ، واعتلوا بصغره ، وذكروا أن أتابكه الأمير
سيف الدين قوصون الناصري قد عدى على ابني السلطان فقتلهما خنقا ببلاد الصعيد ، وجهز إليهما من تولى ذلك ، وهما
الملك المنصور أبو بكر ،
ورمضان ، فتنكر الأمير بسبب ذلك ، قالوا : هذا يريد أن يجتاح هذا البيت ليتمكن هو من أخذ المملكة . فحموا لذلك ، وبايعوا ابن أستاذهم ، وجدوا في الذهاب خلف الجيش ليكونوا عونا للأمير
سيف الدين طشتمر نائب
حلب ومن معه ، وقد كتبوا إلى الأمراء يستميلونهم إلى ذلك ، ولما نزلوا بظاهر
دمشق خرج إليهم من
بدمشق من الأكابر ، والقضاة ، والمباشرين ، مثل : والي البر ، ووالي المدينة ،
والمهمندار ، وغيرهم ، فلما كان الصباح خرج
أهل دمشق عن بكرة أبيهم على عادتهم في
[ ص: 434 ] قدوم السلاطين ودخول الحجاج ، بل أكثر من ذلك من بعض الوجوه ، وخرج القضاة ، والصاحب ، والأعيان ، والولاة ، وغيرهم ، ودخل الأمير
سيف الدين قطلوبغا في دست نيابة السلطنة التي فوضها إليه
الملك الناصر الجديد ، وعن يمينه الشافعي ، وعن شماله الحنفي على العادة ، والجيش كله محدق به في الحديد . والنقارات ، والبوقات ، والشبابة السلطانية ، والسناجق الخليفتية والسلطانية تخفق ، والناس في الدعاء والثناء
للفخري ، وهم في غاية الاستبشار والفرح ، وربما نال بعض جهلة الناس من النائب الآخر الذي ذهب إلى
حلب ، ودخلت الأطلاب بعده على ترتيبهم ، وكان يوما مشهودا ، فنزل شرقي
دمشق قريبا من خان لاجين ، وبعث في هذا اليوم ، فرسم على القضاة والصاحب ، وأخذ من أموال الأيتام وغيرها خمسمائة ألف ، وعوضهم عن ذلك بقرية من بيت المال ، وكتب بذلك سجلات ، واستخدم جندا ، وانضاف إليه من الأمراء الذين كانوا قد تخلفوا
بدمشق جماعة; منهم تمر الساقي مقدم ،
وابن قراسنقر ، وابن الكامل ، وابن المعظم ، وابن البلدي وغيرهم ، وبايع هؤلاء كلهم مع مباشري
دمشق للملك
الناصر ابن الناصر ، وأقام
الفخري على خان لاجين ، وخرج المتعيشون بالصنائع إلى عندهم ، وضربت البشائر بالقلعة صبيحة يوم الثلاثاء سادس عشر الشهر ، ونودي بالبلد : إن سلطانكم الملك
الناصر أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون ، ونائبكم
سيف الدين قطلوبغا الفخري ، وفرح كثير من الناس بذلك ، وانضاف إليه نائب
صفد ، وبايعه نائب
بعلبك ، واستخدموا له رجالا
[ ص: 435 ] وجندا ، ورجع إليه الأمير
سيف الدين سنجر الجمقدار رأس الميمنة
بدمشق ، وكان قد تأخر في السفر عن نائب
دمشق علاء الدين ألطنبغا; بسبب مرض عرض له ، فلما قدم
الفخري رجع إليه وبايع
الناصر ابن الناصر ، ثم كاتب نائب
حماة طقزدمر - الذي ناب
بمصر للملك
المنصور - فأجابه إلى ذلك ، وقدم على العسكر يوم السبت السابع والعشرين من الشهر المذكور في تجمل عظيم ، وخزائن كثيرة ، وثقل هائل .
وفي صبيحة يوم الأحد الثامن والعشرين من الشهر المذكور كسفت الشمس قبل الظهر .
وفي صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من جمادى الآخرة قدم نائب
غزة الأمير آق سنقر في جيش ، وهو قريب من ألفين ، فدخلوا
دمشق وقت الفجر ، وغدوا إلى معسكر
الفخري ، فانضافوا إليهم ، ففرحوا بهم كثيرا ، وصار في قريب من خمسة آلاف مقاتل أو يزيدون .
استهل شهر رجب ، الفرد والجماعة من أكابر التجار مطلوبون بسبب أموال طلبها منهم
الفخري; يقوي بها جيشه الذي معه ، ومبلغ المال الذي أراده منهم ألف ألف درهم ، ومعه مرسوم
الناصر ابن الناصر ببيع أملاك الأمير
سيف الدين قوصون أتابك الملك
الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر التي
بالشام; بسبب إبائه عن مبايعة
أحمد بن الناصر ، فأشار على
الفخري من أشار بأن يباع للتجار شيء من أملاك الخاص ، ويجعل مال
قوصون من الخاص ، فرسم
[ ص: 436 ] بذلك ، وأن يباع للتجار
قرية دومة ، قومت بألف ألف وخمسمائة ألف ، ثم لطف الله وأفرج عنهم بعد ليلتين أو ثلاث ، وتعوضوا عن ذلك بحواصل
قوصون ، واستمر
الفخري بمن معه ومن أضيف إليه من الأمراء والأجناد مقيمين
بثنية العقاب ، واستخدم من رجال البقاع جماعة كثيرة أكثر من ألف رام ، وأميرهم يحفظ أفواه الطرق ، وأزف قدوم الأمير
علاء الدين ألطنبغا بمن معه من عساكر
دمشق ، وجمهور الحلبيين ، وطائفة من الطرابلسيين ، وتأهب هؤلاء لهم . فلما كان الحادي من هذا الشهر اشتهر أن
ألطنبغا وصل إلى
القسطل وبعث طلائعه ، فالتقت بطلائع
الفخري ، ولم يكن بينهم قتال ، ولله الحمد والمنة ، وأرسل
الفخري إلى القضاة ونوابهم وجماعة من الفقهاء فخرجوا ، ورجع الشافعي من أثناء الطريق ، فلما وصلوا أمرهم بالسعي بينه وبين
ألطنبغا في الصلح ، وأن يوافق
الفخري في أمره ، وأن يبايع
الناصر ابن الناصر ، فأبى ذلك ، فردهم إليه غير مرة ، وكل ذلك يمتنع عليهم ، فلما كان يوم الاثنين رابع عشره عند العصر جاء بريد إلى متولي البلد عند العصر من جهة
الفخري يأمره بغلق أبواب البلد ، فغلقت الأبواب; وذلك لأن العساكر توجهوا وتواقفوا للقتال ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وذلك أن
ألطنبغا لما علم أن جماعة
قطلوبغا على
ثنية العقاب ، دار الدورة من ناحية المعيصرة ، وجاء بالجيوش من هنالك ، فاستدار له الأمير
سيف الدين قطلوبغا الفخري بجماعته إلى ناحيته ، ووقف له في طريقه ، وحال بينه وبين الوصول إلى البلد ، وانزعج الناس انزعاجا عظيما ،
[ ص: 437 ] وغلقت القياسر والأسواق ، وخاف الناس بعضهم من بعض أن يكون نهبا ، فركب متولي البلد الأمير
ناصر الدين بن بكتاش ومعه أولاده ونوابه والرجالة ، فسار في البلد ، وسكن الناس ، ودعوا له ، فلما كان قريب المغرب فتح لهم باب الجابية ليدخل من هو من أهل البلد ، ودخل من هو من أهل البلد ، فجرت في الباب - على ما قيل - زحمة عظيمة ، وتسخط الجند على الناس في هذه الليلة ، واتفق أنها ليلة الميلاد ، وبات المسلمون مهمومين بسبب العسكر واختلافهم ، فأصبحت أبواب البلد مغلقة في يوم الثلاثاء سوى باب الجابية ، والأمر على ما هو عليه ، فلما كان عشية هذا اليوم تقارب الجيشان ، واجتمع
ألطنبغا وأمراؤه ، واتفق أمراء
دمشق أو جمهورهم الذين هم معه على أن لا يقاتلوا مسلما ، ولا يسلوا في وجه
الفخري وأصحابه سيفا ، وكان قضاة
الشام قد ذهبوا إليه مرارا للصلح فيأبى عليهم إلا الاستمرار على ما هو عليه وقويت نفسه عليه . والله أعلم .