ثم دخلت
سنة أربع وأربعين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين
الملك الناصر عماد الدنيا والدين إسماعيل ابن الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي ، ونائبه
بدمشق الأمير
سيف الدين طقزدمر الحموي ، وقضاته بها هم المتقدم ذكرهم ، وكذلك الصاحب ، والخطيب ، وناظر الجامع والخزانة ، وشد الأوقاف ، وولاية المدينة .
واستهلت والجيوش المصرية والشامية محيطة بحصن
الكرك يحاصرونه ، ويبالغون في أمره ، والمنجنيق منصوب ، وأنواع آلات الحصار كثيرة ، وقد رسم بتجريدة من
مصر والشام أيضا تخرج إليها . وفي يوم الخميس عاشر صفر دخلت التجريدة من
الكرك إلى
دمشق ، واستمرت التجريدة الجديدة على
الكرك ; ألفان من
مصر وألفان من
الشام ، والمنجنيق منقوض موضوع عند الجيش خارج
الكرك ، والأمور متوقفة ، وبرد الحصار بعد رجوع
الأحمدي إلى مصر .
وفي يوم السبت ثاني ربيع الأول توفي السيد الشريف
عماد الدين [ ص: 465 ] الخشاب بالكوشك في
درب السيرجي جوار المدرسة العزية ، وصلي عليه ضحى بالجامع الأموي ، ودفن بمقابر
باب الصغير ، وكان رجلا شهما ، كثير العبادة والمحبة للسنة وأهلها ، ممن واظب الشيخ
تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - وانتفع به ، وكان من جملة أنصاره وأعوانه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو الذي بعثه إلى
صيدنايا مع بعض القسيسين ، فلوث يده بالعذرة وضرب اللحمة التي يعظمونها هناك ، وأهانها غاية الإهانة لقوة إيمانه وشجاعته ، رحمه الله وإيانا .
وفي يوم الخميس سابعه اجتمع الصاحب ، ومشد الدواوين ، ووكيل بيت المال ، ومشد الأوقاف ، ومباشرو الجامع ، ومعهم العمالون بالنول والمعاول; يحفرون إلى جانب السارية عند باب مشهد علي تحت تلك الصخرة التي كانت هناك ، وذلك عن قول رجل جاهل زعم أن هناك مالا مدفونا ، فشاوروا نائب السلطنة ، فأمرهم بالحفر ، واجتمع الناس والعامة ، فأمرهم فأخرجوا ، وأغلقت أبواب الجامع كلها ليتمكنوا من الحفر ، ثم حفروا ثانيا ، وثالثا ، فلم يجدوا شيئا إلا التراب المحض ، واشتهر هذا الحفير في البلد ، وقصده الناس للنظر إليه ، والتعجب من أمره ، وانفصل الحال على أن حبس هذا الزاعم لهذا المحال ، وطم الحفير كما كان .
وفي يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الأول قدم قاضي
حلب ناصر الدين بن الخشاب على البريد مجتازا إلى
دمشق ، فنزل بالعادلية الكبيرة ، وأخبر أنه صلى
[ ص: 466 ] على المحدث البارع الفاضل الحافظ
شمس الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي المصري يوم الجمعة ثامن هذا الشهر
بحلب ، رحمه الله ، ومولده سنة خمس عشرة وسبعمائة ، وكان قد أتقن طرفا جيدا في علم الحديث ، وحفظ أسماء الرجال ، وجمع وخرج .
وفي مستهل ربيع الآخر وقع حريق عظيم
بسفح قاسيون ، احترق به سوق الصالحية الذي بالقرب من جامع المظفري ، وكانت جملة الدكاكين التي احترقت قريبا من مائة وعشرين دكانا ، ولم ير حريق من زمان أكبر منه ولا أعظم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفي يوم الجمعة سادسه رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مآذن البلد ، كما يذكر في مآذن الجامع ، ففعل ذلك .
وفي يوم الثلاثاء عاشره طلب من القاضي
تقي الدين السبكي قاضي قضاة الشافعية أن يقرض ديوان السلطان شيئا من أموال الغياب التي تحت يده ، فامتنع من ذلك امتناعا كثيرا ، فجاء شاد الدواوين وبعض حاشية نائب السلطنة ، ففتحوا مخزن الأيتام ، وأخذوا منه خمسين ألف درهم قهرا ، ودفعوها إلى بعض العرب عما كان تأخر له في الديوان السلطاني ، ووقع أمر كبير لم يعهد مثله .
وفي يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى توفي صاحبنا الشيخ الإمام العالم العلامة الناقد البارع في فنون العلوم
شمس الدين محمد ابن الشيخ عماد [ ص: 467 ] الدين أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي ، تغمده الله برحمته ، وأسكنه بحبوحة جنته ، مرض قريبا من ثلاثة أشهر بقرحة وحمى سل ، ثم تفاقم أمره ، وأفرط به إسهال ، وتزايد ضعفه إلى أن توفي يومئذ قبل أذان العصر ، فأخبرني والده أن آخر كلامه أن قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن
محمدا رسول الله ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ، فصلي عليه صبيحة يوم الخميس بالجامع المظفري ، وحضر جنازته قضاة البلد وأعيان الناس من العلماء ، والأمراء ، والتجار ، والعامة ، وكانت جنازته حافلة مليحة ، عليها ضوء ونور ، ودفن
بالروضة إلى جانب قبر
السيف بن المجد ، رحمهما الله تعالى ، وكان مولده في رجب سنة خمس وسبعمائة ، فلم يبلغ الأربعين ، وحصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار ، وتفنن في الحديث ، والنحو ، والتصريف ، والفقه ، والتفسير ، والأصلين ، والتاريخ ، والقراءات ، وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة ، وكان حافظا جيدا لأسماء الرجال ، وطرق الحديث ، عارفا بالجرح والتعديل ، بصيرا بعلل الحديث ، حسن الفهم له ، جيد المذاكرة ، صحيح الذهن ، مستقيما على طريقة السلف ، واتباع الكتاب والسنة ، مثابرا على فعل الخيرات .
وفي يوم الثلاثاء سلخه درس بمحراب الحنابلة شيخنا الشيخ الإمام العلامة
[ ص: 468 ] شرف الدين ابن القاضي شرف الدين الحنبلي في حلقة الثلاثاء ، عوضا عن القاضي
تقي الدين بن الحافظ - رحمه الله - وحضر عنده القضاة والفضلاء ، وكان درسا حسنا ، أخذ في قوله تعالى :
إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ سورة النحل : 90 ] وخرج إلى مسألة تفضيل بعض الأولاد .
وفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى خرجت التجريدة إلى
الكرك ، مقدمان من الأمراء; وهما الأمير
شهاب الدين بن صبح ، والأمير
سيف الدين قلاوون ، في أبهة عظيمة ، وتجمل ، وجيوش ، ونقارات ، وإزعاج كثيرة .
وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخيل
حسن ابن الشيخ محمد السكاكيني ، على ما ظهر منه من الرفض الدال على الكفر المحض ، شهد عليه عند القاضي
شرف الدين المالكي بشهادات كثيرة تدل على كفره ، وأنه رافضي جلد ، فمن ذلك تكفير الشيخين - رضي الله عنهما - وقذفه أمي المؤمنين;
عائشة nindex.php?page=showalam&ids=41وحفصة - رضي الله عنهما - وزعم أن
جبريل غلط فأوحى إلى
محمد وإنما كان مرسلا إلى
علي ، وغير ذلك من الأقوال الباطلة القبيحة ، قبحه الله ، وقد فعل .
وكان والده الشيخ
محمد السكاكيني يعرف مذهب
الرافضة والشيعة جيدا ، وكانت له أسئلة على مذهب
أهل الجبر ، ونظم في ذلك قصيدة أجابه
[ ص: 469 ] فيها شيخنا الإمام العلامة
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وذكر غير واحد من أصحاب الشيخ أن
السكاكيني ما مات حتى رجع عن مذهبه وصار إلى قول أهل السنة ، فالله أعلم . وأخبرت أن ولده
حسنا هذا القبيح - كان قد أراد قتل أبيه لما أظهر السنة .
وفي ليلة الاثنين خامس شهر رجب وصل بدن الأمير
سيف الدين تنكز نائب
الشام ، كان إلى تربته التي إلى جانب جامعه الذي أنشأه ظاهر
باب النصر بدمشق ، نقل من
الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر ، بشفاعة ابنته زوجة
الناصر عند ولده السلطان
الملك الصالح ، فأذن في ذلك ، وأرادوا أن يدفن بمدرسته بالقدس الشريف ، فلم يمكن ، فجيء به إلى تربته
بدمشق ، وعملت له الختم ، وحضر القضاة والأعيان - رحمه الله .
وفي يوم الثلاثاء حادي عشر شعبان المبارك توفي صاحبنا الأمير
صلاح الدين يوسف التكريتي ابن أخي الصاحب
تقي الدين بن توبة الوزير - بمنزله
بالقصاعين - كان شابا من أبناء الأربعين ، ذا ذكاء وفطنة ، وكلام وبصيرة جيدة ، وكان كثير المحبة إلى الشيخ
تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - ولأصحابه خصوصا ، ولكل من يراه من أهل العلم عموما ، وكان فيه إيثار وإحسان ، ومحبة الفقراء والصالحين ، ودفن بتربتهم
بسفح قاسيون ، رحمه الله .
وفي صبيحة يوم السبت الخامس عشر منه قبل الظهر جاءت زلزلة
بدمشق لم يشعر بها كثير من الناس; لخفتها ، ولله الحمد والمنة ، ثم تواترت
[ ص: 470 ] الأخبار بأنها شعثت في بلاد
حلب شيئا كثيرا من العمران حتى سقط بعض الأبراج بقلعة
حلب ، وكثير من دورها ، ومساجدها ، ومشاهدها ، وجدرانها ، وأما في القلاع حولها فكثير جدا ، وذكروا أن مدينة
منبج لم يبق منها إلا القليل ، وأن عامة الساكنين بها هلكوا تحت الردم ، رحمهم الله .
وفي أواخر شهر شوال خرجت التجاريد إلى
الكرك ، وهما أميران مقدمان; الأمير
علاء الدين قراسنقر ، والأمير
الحاج بيدمر ، واشتهر في هذه الأيام أن أمر
الكرك قد ضعف ، وتفاقم عليهم الأمر ، وضاقت الأرزاق عندهم جدا ، ونزل منها جماعات من رؤسائها ، وخاصكية الأمير
أحمد بن الناصر مخامرين عليه ، فسيرا من الصبح ،
وقلاوون صحبتهم ، مقدمين من الحلقة إلى الديار المصرية ، وأخبروا أن الحواصل عند
أحمد قد قلت جدا ، فالله المسئول أن يحسن العاقبة .
وفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة توفي القاضي الإمام العلامة
برهان الدين بن عبد الحق ، شيخ الحنفية ، وقاضي القضاة بالديار المصرية مدة طويلة - بعد
ابن الحريري - ثم عزل ، وأقام
بدمشق ، ودرس في أيام
طقزدمر بالعذراوية لولده القاضي
أمين الدين ، فذكر بها الدرس يوم الأحد قبل وفاة والده بثلاثة أيام ، وكان موت
برهان الدين - رحمه الله - ببستانه من أراضي الأرزة بطريق الصالحية ، ودفن من الغد
بسفح قاسيون بمقبرة الشيخ أبي عمر - رحمه الله - وصلي عليه بالجامع المظفري ، وحضر جنازته القضاة ، والأعيان ، والأكابر . رحمه الله تعالى .