[ ص: 471 ] ثم دخلت
سنة خمس وأربعين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والديار الشامية وما يتعلق بذلك
الملك الصالح إسماعيل ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون ، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون في السنة المتقدمة ، ونائبه
بمصر الحاج سيف الدين ألملك ، ووزيره المتقدم ذكره ، وناظر الخاص القاضي
مكين الدين بن قروينة ، وناظر الجيوش القاضي
علم الدين بن القطب ، والمحتسب المتقدم ، وشاد الدواوين
علم الدين الناصري ، وشاد الأوقاف الأمير
حسام الدين بن النجيبي ، ووكيل بيت المال القاضي
علاء الدين بن شمرنوخ ، وناظر الخزانة القاضي
تقي الدين بن أبي الطيب ، وبقية المباشرين والنظار هم المتقدم ذكرهم ، وكاتب الدست القاضي
بدر الدين بن فضل الله كاتب السر ، والقاضي
أمين الدين بن القلانسي ، والقاضي
شهاب الدين بن القيسراني ، والقاضي
شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود ، والقاضي
علاء الدين بن شمرنوخ .
[ ص: 472 ] شهر المحرم أوله السبت ، استهل والحصار واقع
بقلعة الكرك ، وأما البلد فأخذ ، واستنيب فيه الأمير
سيف الدين قبلاي ، قدم إليها من الديار المصرية ، والتجاريد من الديار المصرية ومن
دمشق محيطون بالقلعة ،
والناصر أحمد بن الناصر ممتنع من التسليم ، ومن الإجابة إلى الإنابة ، ومن الدخول في طاعة أخيه ، وقد تفاقمت الأمور ، وطالت الحروب ، وقتل خلق كثير بسبب ذلك من الجيوش ومن أهل
الكرك ، وقد توجهت القضية إلى خير ، إن شاء الله ، وقبل ذلك بأيام يسيرة هرب من قلعة
الكرك الأمير
سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص الذي كان أسر في أوائل حصار
الكرك ، وجماعة من مماليك
الناصر أحمد ، كان اتهمهم بقتل
الشهيب ، الذي كان يعتني به ويحبه ، واستبشر الجيوش بنزول
أبي بكر من عنده وسلامته من يده ، وجهزه إلى الديار المصرية على البريد معظما .
هذا والمجانيق الثلاثة مسلطة على القلعة من البلد ، تضرب عليها ليلا ونهارا ، وتدمر في بنائها من داخل; فإن سورها لا يؤثر فيه شيء بالكلية ، ثم ذكر أن الحصار فتر ، ولكن مع الاحتياط على أن لا يدخل إلى القلعة ميرة ولا شيء مما يستعينون به على المقام فيها ، فالله المسئول أن يحسن العاقبة .
وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من صفر قدم البريد مسرعا من
الكرك ، فأخبر بفتح القلعة ، وأن بابها أحرق ، وأن جماعة الأمير
أحمد بن الناصر استغاثوا
[ ص: 473 ] بالأمان ففتحت ، وخرج
أحمد مقيدا ، وسير على البريد إلى الديار المصرية ، وذلك يوم الاثنين بعد الظهر ، الثالث والعشرين من هذا الشهر ، ولله عاقبة الأمور .
وفي صبيحة يوم الجمعة رابع ربيع الأول دقت البشائر بالقلعة ، وزينت البلد عن مرسوم السلطان
الملك الصالح; سرورا بفتح البلد ، واجتماع الكلمة عليه ، واستمرت الزينة إلى يوم الاثنين سابعه ، فرسم برفعها بعد الظهر ، فتشوش كثير من العوام ، وأرجف بعض الناس بأن
أحمد قد ظهر أمره ، وبايعه الأمراء الذين هم عنده ، وليس لذلك حقيقة . ودخلت الأطلاب من
الكرك صبيحة يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول بالطبلخاناه والجيوش ، واشتهر إعدام
أحمد بن الناصر .
وفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول صلي بالجامع الأموي على الشيخ
أثير الدين أبي حيان النحوي ، شيخ البلاد المصرية من مدة طويلة ، وكانت وفاته
بمصر عن تسعين سنة وخمسة أشهر .
ثم اشتهر في ربيع الآخر قتل
السلطان أحمد ، وحز رأسه ، ودفن جثته
بالكرك ، وحمل رأسه إلى أخيه
الملك الصالح إسماعيل ، وحضر بين يديه في الرابع والعشرين من هذا الشهر ، ففرح الناس بذلك ، ودخل الشيخ
أحمد الزرعي على السلطان
الملك الصالح ، فطلب منه أشياء كثيرة من تبطيل مظالم ومكوسات ، وإطلاق طبلخاناه للأمير
ناصر الدين بن بكناش ، وإطلاق أمراء محبوسين
بقلعة دمشق ، وغير ذلك ، فأجابه إلى جميع ذلك ، فكان جملة
[ ص: 474 ] المراسيم التي أجيب فيها - بضع وثلاثون مرسوما . فلما كان آخر شهر ربيع الآخر قدمت المراسيم التي سألها الشيخ
أحمد من السلطان
الملك الصالح ، فأمضيت كلها أو كثير منها ، وأفرج عن
صلاح الدين ابن الملك الكامل ، والأمير
سيف الدين بلو في يوم الخميس سلخ هذا الشهر ، ثم روجع في كثير منها ، فتوقف حالها .
وفي هذا الشهر عملت منارة خارج
باب الفرج ، وفتحت مدرسة كانت دارا قديمة فجعلت مدرسة للحنفية ومسجدا ، وعملت طهارة عامة ، ومصلى للناس ، وكل ذلك منسوب إلى
الأمير سيف الدين طقتمر الخليلي - أمير حاجب كان ، وهو الذي جدد الدار المعروفة به اليوم
بالقصاعين .
وفي ليلة الاثنين عاشر جمادى الآخرة توفي صاحبنا
المحدث تقي الدين محمد بن صدر الدين سليمان الجعبري ، زوج بنت الشيخ
جمال الدين المزي ، ووالد
شرف الدين عبد الله ،
وجمال الدين إبراهيم ، وغيرهم ، وكان فقيها بالمدارس ، وشاهدا تحت الساعات وغيرها ، وعنده فضيلة جيدة في قراءة الحديث ، وشيء من العربية ، وله نظم مستحسن ، انقطع يومين وبعض الثالث ، وتوفي في الليلة المذكورة في وسط الليل ، وكنت عنده وقت العشاء الآخرة ليلتئذ ، وحدثني وضاحكني ، وكان خفيف الروح - رحمه الله تعالى - ثم توفي في بقية ليلته - رحمه الله - وكان أشهدني عليه بالتوبة من جميع ما يسخط الله عز وجل ، وأنه عازم على ترك الشهود أيضا ، رحمه الله ، صلي عليه ظهر يوم
[ ص: 475 ] الاثنين ، ودفن بمقابر باب الصغير عند أبويه ، رحمهم الله .
وفي يوم الجمعة ثاني عشرين شهر رجب خطب القاضي
عماد الدين إسماعيل بن العز الحنفي بجامع
تنكز خارج
باب النصر ، عن نزول الشيخ
نجم الدين علي بن داود القحفازي له عن ذلك ، وأيضا نائب السلطنة الأمير
سيف الدين طقزدمر ، وحضوره عنده في الجامع المذكور يومئذ .
وفي يوم الجمعة تاسع عشرين رجب توفي القاضي
الإمام العالم جلال الدين أبو العباس أحمد ابن قاضي القضاة
حسام الدين الرومي الحنفي ، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة بمسجد
دمشق ، وحضره القضاة والأعيان ، ودفن بالمدرسة التي أنشأها إلى جانب
الزردكاش قريبا من الخاتونية الجوانية ، وكان قد ولي قضاء قضاة الحنفية في أيام ولاية أبيه بالديار المصرية ، وكان مولده سنة إحدى وخمسين وستمائة ، وأفتى في سنة سبعين وستمائة ، وقدموا
الشام مع أبيه فأقاموا بها ، ثم لما ولي
الملك المنصور لاجين ولى أباه قضاء الديار المصرية ، وولده هذا قضاء
الشام ، ثم إنه عزل بعد ذلك ، واستمر على ثلاث مدارس من خيار مدارس الحنفية ، ثم حصل له صمم في آخر عمره ، وكان ممتعا بحواسه - سواه - وقواه ، وكان يذكر في العلم وغير ذلك ، والله أعلم .
وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان توفي الشيخ
نجم الدين علي بن داود القحفازي ، خطيب جامع
تنكز ، ومدرس الظاهرية ، وقد نزل عنها قبل
[ ص: 476 ] وفاته بقليل للقاضي
عماد الدين إسماعيل بن العز الحنفي ، وصلي عليه بالجامع المذكور بعد صلاة الظهر يومئذ ، وعند
باب النصر ، وعند جامع جراح ، ودفن بمقبرة
ابن الشيرجي عند والده ، وحضره القضاة والأعيان ، وكان أستاذا في النحو ، وله علوم أخر ، لكن كان نهاية في النحو والتصريف .
وفي هذا اليوم توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الشيخ
عبد الله الضرير الزرعي ، وصلي عليه بعد الظهر بالجامع الأموي ،
وبباب النصر ، وعند مقابر الصوفية ، ودفن بها قريبا من الشيخ
تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ، وكان كثير التلاوة حسنها وصحيحها ، كثير العبادة ، يقرئ الناس من دهر طويل ، ويقوم بهم العشر الأخير من رمضان في محراب الحنابلة بالجامع الأموي ، رحمه الله .
وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان المعظم توفي الشيخ الإمام العالم العامل العابد الزاهد الورع
أبو عمرو بن أبي الوليد المالكي ، إمام محراب الصحابة الذي للمالكية ، وصلي عليه بعد الصلاة ، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير ، وتأسف الناس عليه وعلى صلاحه وفتاويه النافعة الكثيرة ، ودفن إلى جانب قبر أبيه وأخيه ، إلى جانب قبر
أبي الحجاج الفندلاوي المالكي ، قريبا من مسجد النارنج ، رحمه الله ، وولي مكانه في المحراب ولده وهو طفل صغير ، فاستنيب له إلى حين صلاحيته ، جبره الله ورحم أباه .
[ ص: 477 ] وفي صبيحة ليلة الثلاثاء سادس رمضان وقع ثلج عظيم لم ير مثله
بدمشق من مدة طويلة ، وكان الناس محتاجين إلى مطر ، فلله الحمد والمنة ، وتكاثف الثلج على الأسطحة ، وتراكم حتى أعيا الناس أمره ، ونقلوه عن الأسطحة إلى الأزقة ، يحمل ، ثم نودي بالأمر بإزالته من الطرقات; فإنه سدها وتعطلت معايش كثير من الناس ، فعوض الله الضعفاء بعملهم في الثلج ، ولحق الناس كلفة كبيرة ، وغرامة كثيرة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من رمضان صلي بالجامع الأموي على غائب ، وهو الأمير
علاء الدين الجاولي ، وقد تقدم شيء من ترجمته ، رحمه الله .
وفي أول شوال يوم عيد الفطر وقع فيه ثلج عظيم بحيث لم يمكن الخطيب من الوصول إلى المصلى ، ولا خرج نائب السلطنة ، بل اجتمع الأمراء والقضاة بدار السعادة ، وحضر الخطيب فصلى بهم العيد ، وكثير من الناس صلوا العيد في البيوت .
وفي يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة درس قاضي القضاة
تقي الدين السبكي الشافعي بالشامية البرانية ، عن الشيخ
شمس الدين بن النقيب رحمه الله ، وحضر عنده القضاة ، والأعيان ، والأمراء ، وخلق من الفضلاء ، وأخذ في قوله تعالى :
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب [ ص : 35 ]
[ ص: 478 ] وما بعدها .
وفي ذي الحجة استفتي في قتل كلاب البلد ، فكتب جماعة من أهل البلد في ذلك ، فرسم بإخراجهم يوم الجمعة من البلد الخامس والعشرين منه ، لكن إلى الخندق ظاهر
باب الصغير ، وكان الأولى قتلهم بالكلية وإحراقهم ، لئلا يتأذى الناس بنتن ريحهم ، على ما أفتى به الإمام
مالك بن أنس من جواز قتل الكلاب ببلدة معينة للمصلحة ، إذا رأى الإمام ذلك ، ولا يعارض ذلك النهي عن قتل أمة الكلاب; ولهذا كان
عثمان بن عفان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام .