فصل
[ ص: 81 ] ولما وقع ما وقع من الأمر العظيم ، وهو الغلب الذي غلبه
فرعون وقومه من
القبط في ذلك الموقف الهائل ، وأسلم السحرة ، الذين استنصروا ربهم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا وبعدا عن الحق .
قال الله تعالى ، بعد قصص ما تقدم في سورة " الأعراف " :
وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ الأعراف : 127 - 129 ] . يخبر تعالى عن
الملأ من قوم فرعون ، وهم الأمراء والكبراء ، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى ، عليه السلام ، ومقابلته - بدل التصديق بما جاء به - بالكفر والرد والأذى ، فقالوا
أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك يعنون ، قبحهم الله ، أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة ما سواه فساد بالنسبة إلى اعتقاد
القبط ، لعنهم الله . وقرأ بعضهم :
[ ص: 82 ] " ويذرك وإلاهتك " أي ; وعبادتك . ويحتمل شيئين ; أحدهما ويذر دينك . وتقويه القراءة الأخرى . الثاني ، ويذر أن يعبدك ، فإنه كان يزعم أنه إله ، لعنه الله
قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم أي ; لئلا تكثر مقاتلتهم
وإنا فوقهم قاهرون أي ; غالبون
قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي ; إذا هموا هم بأذيتكم والفتك بكم فاستعينوا أنتم بربكم ، واصبروا على بليتكم ،
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين أي ; فكونوا أنتم من المتقين ; لتكون لكم العاقبة ، كما قال تعالى في الآية الأخرى :
وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين [ يونس : 84 - 86 ] . وقولهم :
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أي ; قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك ، وبعد مجيئك إلينا
قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وقال الله تعالى في سورة " حم المؤمن " :
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب [ غافر : 23 ، 24 ] . وكان
فرعون الملك ،
وهامان الوزير ، وكان
[ ص: 83 ] قارون إسرائيليا من قوم
موسى ، إلا أنه كان على دين
فرعون وملئه ، وكان ذا مال جزيل جدا ، كما ستأتي قصته فيما بعد ، إن شاء الله تعالى .
فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال [ غافر : 25 ] . وهذا
القتل للغلمان ، من بعد بعثة موسى ، إنما كان على وجه الإهانة والإذلال ، والتقليل لملأ بني إسرائيل ; لئلا تكون لهم شوكة يمتنعون بها أو يصولون على
القبط بسببها ، وكانت
القبط منهم يحذرون ، فلم ينفعهم ذلك ; ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشيء : كن . فيكون .
وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [ غافر : 26 ] . ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم : صار
فرعون مذكرا . وهذا منه ، فإن
فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم
موسى ، عليه السلام .
وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب [ غافر : 27 ] . أي ; عذت بالله ، ولجأت إليه واستجرت بجنابه من أن يسطو
فرعون أو غيره علي بسوء . وقوله :
من كل متكبر أي ; جبار عنيد ، لا يرعوي ولا
[ ص: 84 ] ينتهي ، ولا يخاف عذاب الله وعقابه ; لأنه لا يعتقد معادا ولا جزاء ، ولهذا قال
من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب .
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ غافر : 28 ، 29 ] . هذا الرجل هو ابن عم
فرعون ، وكان يكتم إيمانه من قومه ، خوفا منهم على نفسه . وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا ، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظا ومعنى . والله أعلم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : قال
ابن عباس : لم يؤمن من
القبط بموسى إلا هذا ، والذي جاء من أقصى المدينة ، وامرأة
فرعون . رواه
ابن أبي حاتم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : لا يعرف من اسمه شمعان - بالشين المعجمة - إلا مؤمن آل
فرعون . حكاه
السهيلي . وفي " تاريخ
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني " أن اسمه : جبر . فالله أعلم .
والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه ، فلما هم
فرعون ، لعنه الله ،
[ ص: 85 ] بقتل
موسى ، عليه السلام ، وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه ، خاف هذا المؤمن على
موسى ، فتلطف في رد
فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب ، فقال كلمة الحق على وجه المشورة والرأي . وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :
أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر وهذا من أعلى مراتب هذا المقام ، فإن
فرعون لا يكون أشد جورا منه ، وهذا الكلام لا أعدل منه; لأن فيه عصمة دم نبي . ويحتمل أنه أشار لهم بإظهار إيمانه ، وصرح لهم بما كان يكتمه . والأول أظهر . والله أعلم . قال :
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي; من أجل أنه قال : ربي الله . فمثل هذا لا يقابل بمثل هذا ، بل بالإكرام والاحترام والموادعة وترك الانتقام ، يعني : لأنه
وقد جاءكم بالبينات من ربكم أي; بالخوارق التي دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة; لأنه
وإن يك كاذبا فعليه كذبه ولا يضركم ذلك
وإن يك صادقا وقد تعرضتم له
يصبكم بعض الذي يعدكم أي; وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به ، فكيف بكم إن حل جميعه عليكم؟ وهذا
[ ص: 86 ] الكلام في هذا المقام
من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام . وقوله :
ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز ، فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم ، وكذا وقع لآل
فرعون; ما زالوا في شك وريب ، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم
موسى به ، حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور ، والنعمة والحبور ، ثم حولوا إلى البحر مهانين ، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين . ولهذا قال هذا الرجل المؤمن الصادق ، البار الراشد ، التابع للحق الناصح لقومه ، الكامل العقل :
ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض أي; عالين على الناس حاكمين عليهم ،
فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا أي; لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ولا رد عنا بأس مالك الممالك .
قال فرعون أي; في جواب هذا كله :
ما أريكم إلا ما أرى أي; ما أقول لكم إلا ما عندي
وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وكذب في كل من هذين القولين ، وهاتين المقدمتين ، فإنه قد كان يتحقق ويعلم في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به
موسى حق من عند الله لا محالة ، وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا ، وعتوا وكفرانا .
قال الله تعالى إخبارا عن
موسى :
[ ص: 87 ] قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ الإسراء : 102 ] . وقال تعالى :
فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ النمل : 13 ، 14 ] . وأما قوله :
وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . فقد كذب أيضا ، فإنه لم يكن على رشاد من الأمر ، بل كان على سفه وضلال ، وخبال ، وكان أولا ممن يعبد الأصنام والأمثال ، ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه ، وصدقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنه رب ، تعالى الله ذو الجلال والإكرام . قال الله تعالى :
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ الزخرف : 51 - 56 ] . وقال تعالى :
فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى [ النازعات : 20 - 26 ] . وقال تعالى :
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود [ هود : 96 - 99 ] . والمقصود بيان كذبه في قوله :
ما أريكم إلا ما أرى وفي قوله :
وما أهديكم إلا سبيل الرشاد .
[ ص: 88 ] قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ العنكبوت : 30 - 35 ] . يحذرهم ولي الله ، إن كذبوا برسول الله
موسى ، أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من النقمات والمثلات ، مما تواتر عندهم وعند غيرهم; ما حل بقوم
نوح ،
وعاد ،
وثمود ، ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك ، مما أقام الله به الحجج على أهل الأرض قاطبة ، في صدق ما جاءت به الأنبياء ، بما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء ، وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء ، وخوفهم يوم القيامة ، وهو يوم التناد أي; حين ينادي الناس بعضهم بعضا حين يولون مدبرين إن قدروا على ذلك ، ولا إلى ذلك سبيل .
يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر [ القيامة : 10 - 12 ] . وقال تعالى :
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان [ ص: 89 ] [ الرحمن : 33 - 36 ] . وقرأ بعضهم : ( يوم التناد ) بتشديد الدال ، أي يوم الفرار . ويحتمل أن يكون يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس ، فيودون الفرار ولات حين مناص .
فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون [ الأنبياء : 12 ، 13 ] . ثم أخبرهم عن نبوة
يوسف في بلاد
مصر; ما كان منه من الإحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم ، وهذا من سلالته وذريته ، ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته ، وأن لا يشركوا به أحدا من بريته ، وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان ، أن من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل; ولهذا قال :
فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أي; وكذبتم في هذا . ولهذا قال :
كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم أي; يردون حجج الله وبراهينه ودلائل توحيده بلا حجة ولا دليل عندهم من الله ، فإن هذا أمر يمقته الله غاية المقت; أي يبغض من تلبس به من الناس ، ومن اتصف به من الخلق ،
كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار قرئ بالإضافة وبالنعت ، وكلاهما متلازم; أي هكذا إذا خالفت القلوب الحق ، ولا تخالفه إلا بلا برهان ، فإن الله يطبع عليها; أي يختم عليها .
[ ص: 90 ] وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب [ غافر : 36 ، 37 ] . كذب
فرعون موسى ، عليه السلام ، في دعواه أن الله أرسله ، وزعم
فرعون لقومه ما كذبه وافتراه ، في قوله لهم :
ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين [ القصص : 38 ] . وقال هاهنا :
لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات أي; طرقها ومسالكها
فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ويحتمل هذا معنيين; أحدهما ، وإني لأظنه كاذبا في قوله : إن للعالم ربا غيري . والثاني ، في دعواه أن الله أرسله . والأول أشبه بظاهر حال
فرعون ، فإنه كان ينكر ظاهر إثبات الصانع ، والثاني أقرب إلى اللفظ; حيث قال :
فأطلع إلى إله موسى أي; فأسأله هل أرسله أم لا ،
وإني لأظنه كاذبا أي; في دعواه ذلك . وإنما كان مقصود
فرعون أن يصد الناس عن تصديق
موسى ، عليه السلام ، وأن يحثهم على تكذيبه . قال الله تعالى :
وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وقرئ : ( وصد عن السبيل ) قال
ابن عباس ومجاهد : يقول : إلا في خسار . أي باطل ، لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه ، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا - أعني السماء الدنيا - فكيف بما بعدها من السماوات العلى ، وما فوق
[ ص: 91 ] ذلك من الارتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل .
وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح ، وهو القصر الذي بناه وزيره
هامان له ، لم ير بناء أعلى منه ، وأنه كان مبنيا من الآجر المشوي بالنار ، ولهذا قال :
فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا وعند
أهل الكتاب أن
بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن ، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه ، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه ، ويطلب منهم كل يوم قسط معين ، إن لم يفعلوه وإلا ضربوا وأهينوا غاية الإهانة ، وأوذوا غاية الأذية . ولهذا قالوا
لموسى :
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون فوعدهم بأن العاقبة لهم على
القبط ، وكذلك وقع ، وهذا من دلائل النبوة .
ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه ، قال الله تعالى :
وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ غافر : 38 - 40 ] . يدعوهم ، رضي الله عنه ، إلى طريق الرشاد والحق ، وهي متابعة نبي الله
[ ص: 92 ] موسى ، وتصديقه فيما جاء به من ربه ، ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة ، ورغبهم في طلب الثواب عند الله ، الذي لا يضيع عمل عامل لديه ، القدير الذي ملكوت كل شيء بيديه ، الذي يعطي على القليل كثيرا ، ومن عدله لا يجازى على السيئة إلا مثلها . وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار ، التي من وافاها مؤمنا قد عمل الصالحات ، فلهم الجنات العاليات ، والغرف الآمنات ، والخيرات الكثيرة الفائقات ، والأرزاق الدائمة التي لا تبيد ، والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد .
ثم شرع في إبطال ما هم عليه ، وتخويفهم مما يصيرون إليه فقال :
ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ غافر : 41 - 46 ] . كان يدعوهم إلى عبادة رب السماوات والأرض الذي يقول للشيء : كن . فيكون ، وهم يدعونه إلى عبادة
فرعون الجاهل الضال الملعون ، ولهذا قال لهم على سبيل الإنكار :
ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ،
[ ص: 93 ] ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الأنداد والأوثان ، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار . فقال :
لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار أي; لا تملك تصرفا ولا حكما في هذه الدار ، فكيف تملكه يوم القرار؟ وأما الله عز وجل فإنه الخالق الرازق للأبرار والفجار ، وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم ، فيدخل طائعهم الجنة وعاصيهم النار . ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله :
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد قال الله تعالى :
فوقاه الله سيئات ما مكروا أي; بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله ، ومكرهم في صدهم عن سبيل الله مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات التي لبسوا بها على عوامهم وطغامهم; ولهذا قال : وحاق أي; أحاط
بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا أي; تعرض أرواحهم في برزخهم صباحا ومساء على النار ،
ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في " التفسير " . ولله الحمد .
والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم ، وإرسال الرسول إليهم ، وإزاحة الشبه عنهم ، وأخذ الحجة عليهم منهم ، فبالترهيب تارة
[ ص: 94 ] والترغيب أخرى ، كما قال تعالى :
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين الأعراف : 130 - 133 ] . يخبر تعالى أنه ابتلى آل
فرعون ، وهم قومه من
القبط ، بالسنين ، وهي أعوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع . وقوله :
ونقص من الثمرات وهي قلة الثمار من الأشجار ،
لعلهم يذكرون أي; فلم ينتفعوا ولم يرعووا ، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم
فإذا جاءتهم الحسنة وهو الخصب ونحوه
قالوا لنا هذه أي; هذا الذي نستحقه وهذا الذي يليق بنا ،
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه أي; يقولون هذا; بشؤمهم أصابنا هذا . ولا يقولون في الأول : إنه بركتهم وحسن مجاورتهم ، ولكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق ، إذا جاء الشر أسندوه إليه ، وإن رأوا خيرا ادعوه لأنفسهم . قال الله تعالى :
ألا إنما طائرهم عند الله أي; الله يجزيهم على هذا أوفر الجزاء
ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي;
مهما جئتنا به من الآيات ، وهي الخوارق للعادات فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك ولو جئتنا بكل آية . وهكذا أخبر الله عنهم في
[ ص: 95 ] قوله :
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 96 ، 97 ] . قال الله تعالى :
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين .
أما الطوفان ، فعن
ابن عباس : هو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار . وبه قال
سعيد بن جبير ،
وقتادة ، nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ، والضحاك . وعن
ابن عباس ، nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء : هو كثرة الموت . وقال
مجاهد : الطوفان الماء ، والطاعون على كل حال . وعن
ابن عباس : أمر طاف بهم . وقد روى
ابن جرير وابن مردويه ، من طريق
يحيى بن يمان عن
المنهال بن خليفة ، عن
الحجاج ، عن
الحكم بن ميناء ، عن
عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
الطوفان الموت وهو غريب .
وأما الجراد فمعروف . وقد روى
أبو داود ، عن
أبي عثمان ، عن
سلمان الفارسي ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد ، فقال
: أكثر جنود الله ، لا آكله ولا أحرمه وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له; كما ترك
أكل الضب ، وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث ، لما ثبت في
[ ص: 96 ] " الصحيحين " ، عن
عبد الله بن أبي أوفى ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509812غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد . وقد تكلمنا على ما ورد فيه من الأحاديث والآثار في " التفسير " .
والمقصود أنه استاق خضراءهم ، فلم يترك لهم زروعا ولا ثمارا ، ولا سبدا ولا لبدا .
وأما القمل ، فعن
ابن عباس : هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، وعنه ، أنه الجراد الصغار الذي لا أجنحة له . وبه قال
مجاهد ،
وعكرمة ،
وقتادة . وقال
سعيد بن جبير ،
والحسن : هو دواب سود صغار . وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي البراغيث . وحكى
ابن جرير عن أهل العربية أنها الحمنان . وهو صغار القردان فوق القمقامة ، فدخل معهم البيوت والفرش ، فلم يقر لهم قرار ، ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش . وفسره
عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف . وقرأها
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري كذلك بالتخفيف .
وأما الضفادع فمعروفة ، لبستهم حتى كانت تسقط في أطعماتهم وأوانيهم ، حتى إن أحدهم إذا فتح فمه لطعام أو شراب ، سقطت في فيه ضفدعة من تلك الضفادع .
[ ص: 97 ] وأما الدم فكان قد مزج ماؤهم كله به ، فلا يستقون من النيل شيئا إلا وجدوه دما عبيطا ، ولا من نهر ولا بئر ولا شيء إلا كان دما في الساعة الراهنة . هذا كله ، ولم ينل
بني إسرائيل من ذلك شيء بالكلية . وهذا من تمام المعجزة الباهرة ، والحجة القاطعة أن هذا كله يحصل لهم عن فعل
موسى ، عليه السلام ، فينالهم عن آخرهم ، ولا يحصل هذا لأحد من
بني إسرائيل ، وفي هذا أدل دليل .
قال
محمد بن إسحاق : فرجع عدو الله
فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مفلولا ، ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه بالآيات ، فأخذه بالسنين ، فأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم آيات مفصلات; فأرسل الطوفان - وهو الماء - ففاض على وجه الأرض ثم ركد لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا ، حتى جهدوا جوعا ، فلما بلغهم ذلك ،
ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل [ الأعراف : 134 ] . فدعا
موسى ربه ، فكشفه عنهم ، فلما لم يفوا له بشيء ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل الشجر ، فيما بلغني ، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد ، حتى تقع دورهم ومساكنهم ، فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن
موسى ، عليه السلام ، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم ، فضربه بها ، فانثال
[ ص: 98 ] عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ، ومنعهم النوم والقرار ، فلما جهدهم ، قالوا له مثل ما قالوا له ، فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع ، فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلم يكشف أحد ثوبا ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه ، فلما جهدهم ذلك ، قالوا له مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل
فرعون دما ، لا يستقون من بئر ، ولا نهر ولا يغترفون من إناء ، إلا عاد دما عبيطا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم : المراد بالدم الرعاف . رواه
ابن أبي حاتم .
قال الله تعالى :
ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين [ الأعراف : 134 - 136 ] . يخبر تعالى ، عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل ، والاستكبار عن اتباع آيات الله ، وتصديق رسوله ، مع ما أيد به من الآيات العظيمة الباهرة والحجج البليغة القاهرة ، التي أراهم الله إياها عيانا ، وجعلها عليهم دليلا وبرهانا ، وكلما شاهدوا آية وعاينوها وجهدتهم وأضنكتهم ، حلفوا وعاهدوا
موسى; لئن كشف عنهم
[ ص: 99 ] هذه ليؤمنن به ، وليرسلن معه من هو من حزبه ، فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه ، وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ، ولم يلتفتوا إليه ، فيرسل الله عليهم آية أخرى ، هي أشد مما كانت قبلها وأقوى ، فيقولون ، فيكذبون . ويعدون ولا يفون
لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل . ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل . هذا ، والعظيم الحليم القدير ينظرهم ولا يعجل عليهم ، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم ، ثم أخذهم - بعد إقامة الحجة عليهم ، والإعذار إليهم - أخذ عزيز مقتدر ، فجعلهم عبرة ونكالا وسلفا لمن أشبههم من الكافرين ، ومثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين .
وقال الله تبارك وتعالى ، وهو أصدق القائلين في سورة " حم والكتاب المبين " :
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ الزخرف : 46 - 56 ] .
.
[ ص: 100 ] يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم ، إلى
فرعون الخسيس اللئيم ، وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات ، تستحق أن تقابل بالتصديق والتعظيم ، وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر ، ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم ، فإذا هم منها يضحكون ، وبها يستهزئون ، وعن سبيل الله يصدون ، وعن الحق يحيدون ، فأرسل الله عليهم الآيات تترى ، يتبع بعضها بعضا ، وكل آية أكبر من أختها التي تتلوها; لأن المؤكد أبلغ مما قبله ،
وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون لم يكن لفظ الساحر في زمانهم نقصا ولا عيبا; لأن علماءهم ، في ذلك الوقت ، هم السحرة; ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه ، وضراعتهم لديه ، قال الله تعالى :
فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ثم أخبر تعالى عن تبجح
فرعون بملكه وعظمة بلده وحسنها وتخرق الأنهار فيها ، وهي الخلجان التي يكسرونها أمام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته وأخذ يتنقص رسول الله
موسى ، عليه السلام ، ويزدريه بكونه
ولا يكاد يبين يعني كلامه ، بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة ، التي هي شرف له ، وكمال وجمال ، ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى ، وأوحى إليه ، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه ، وتنقصه
فرعون ، لعنه الله ، بكونه لا
[ ص: 101 ] أساور في يديه ولا زينة عليه ، وإنما ذلك من حلية النساء ، لا يليق بشهامة الرجال ، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا ، وأتم معرفة ، وأعلى همة ، وأزهد في الدنيا ، وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى . وقوله :
أو جاء معه الملائكة مقترنين لا يحتاج الأمر إلى ذلك إن كان المراد أن تعظمه الملائكة . فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون
موسى عليه السلام ، بكثير كما جاء في الحديث :
إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع فكيف يكون تواضعهم وتعظيمهم
لموسى الكليم ، عليه الصلاة والتسليم والتكريم؟ وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة ، فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوي الألباب ، ولمن قصد إلى الحق والصواب ، ويعمى عما جاء به من البينات والحجج الواضحات ، من نظر إلى القشور ، وترك لب اللباب ، وطبع على قلبه رب الأرباب ، وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب ، كما هو حال
فرعون القبطي العمي الكذاب ، قال الله تعالى :
فاستخف قومه فأطاعوه أي; استخف عقولهم ، ودرجهم من حال إلى حال ، إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية ، لعنه الله وقبحهم ،
إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا أي; أغضبونا;
انتقمنا منهم أي; بالغرق والإهانة ، وسلب العز ، والتبدل بالذل وبالعذاب بعد النعمة ، والهوان بعد الرفاهية ، والنار بعد طيب العيش ، عياذا بالله العظيم وسلطانه القديم من ذلك ،
فجعلناهم سلفا أي; لمن اتبعهم في الصفات ، ومثلا أي; لمن اتعظ بهم ، وخاف من وبيل
[ ص: 102 ] مصرعهم ، ممن بلغه جلية خبرهم ، وما كان من أمرهم; كما قال الله تعالى :
فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين [ القصص : 36 - 42 ] . يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق ، وادعى ملكهم الباطل ، ووافقوه عليه ، وأطاعوه فيه ، اشتد غضب الرب القدير العزيز ، الذي لا يغالب ولا يمانع ، عليهم ، فانتقم منهم أشد الانتقام ، وأغرقه هو وجنوده في صبيحة واحدة ، فلم يفلت منهم أحد ، ولم يبق منهم ديار ، بل كان قد غرق ، فدخل النار ، وأتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين ، ويوم القيامة ، بئس الرفد المرفود ، ويوم القيامة هم من المقبوحين .