فصل ( نقل الخلاف فيمن لم يسق الهدي هل له فسخ أم لا )
روى أمره ، عليه الصلاة والسلام ، لمن لم يسق الهدي ، بفسخ الحج إلى
[ ص: 553 ] العمرة خلق من الصحابة يطول ذكرنا لهم هاهنا ، وموضع سرد ذلك كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : كان ذلك من خصائص الصحابة ، ثم نسخ جواز الفسخ لغيرهم . وتمسكوا بقول
أبي ذر ، رضي الله عنه : لم يكن
فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم . رواه
مسلم . وأما الإمام
أحمد فرد ذلك وقال : قد رواه أحد عشر صحابيا ، فأين تقع هذه الرواية من ذلك ؟! وذهب ، رحمه الله ، إلى جواز الفسخ لغير الصحابة . وقال
ابن عباس ، رضي الله عنهما ، بوجوب
الفسخ على كل من لم يسق الهدي ، بل عنده أنه يحل شرعا إذا طاف
بالبيت ولم يكن ساق هديا صار حلالا بمجرد ذلك ، وليس عنده النسك إلا القران لمن ساق الهدي ، أو التمتع لمن لم يسق . فالله أعلم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : ثنا
أبو النعمان ، ثنا
حماد بن زيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036عبد الملك بن جريج ، عن
عطاء ، عن
جابر ، وعن
طاوس ، عن
ابن عباس قالا :
قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبح رابعة من ذي الحجة يهلون بالحج لا يخلطه شيء ، فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة ، وأن نحل إلى نسائنا ، ففشت في ذلك القالة . قال عطاء : قال جابر : فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا - قال جابر بكفه - فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " بلغني أن قوما يقولون كذا وكذا ، والله [ ص: 554 ] لأنا أبر وأتقى لله منهم ، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت " . فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، هي لنا أو للأبد ؟ فقال : " لا بل للأبد " .
وقال
مسلم : ثنا
قتيبة ، ثنا
الليث ، هو ابن سعد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11862أبي الزبير ، عن
جابر ، أنه قال :
أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد ، وأقبلت عائشة بعمرة ، حتى إذا كنا بسرف عركت ، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة ، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي . قال : فقلنا : حل ماذا ؟ قال : " الحل كله " . فواقعنا النساء ، وتطيبنا بالطيب ، ولبسنا ثيابنا ، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال . فهذان الحديثان فيهما التصريح بأنه ، عليه الصلاة والسلام ، قدم
مكة عام حجة الوداع لصبح رابعة ذي الحجة ، وذلك يوم الأحد حين ارتفع النهار وقت الضحاء ; لأن أول ذي الحجة تلك السنة كان يوم الخميس بلا خلاف ، لأن يوم
عرفة منه كان يوم الجمعة بنص حديث
عمر بن الخطاب الثابت في " الصحيحين " كما سيأتي . فلما قدم ، عليه الصلاة والسلام ، يوم الأحد رابع الشهر بدأ - كما ذكرنا - بالطواف بالبيت ، ثم بالسعي بين
الصفا والمروة ، فلما انتهى طوافه بينهما عند المروة ، أمر من لم يكن معه هدي أن يحل من إحرامه حتما ، فوجب ذلك عليهم لا محالة ، ففعلوه وبعضهم متأسف ; لأجل أنه ، عليه الصلاة والسلام ، لم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدي ، وكانوا يحبون موافقته ، عليه الصلاة والسلام ، والتأسي به ، فلما
[ ص: 555 ] رأى ما عندهم من ذلك قال لهم :
" لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " . أي لو أعلم أن هذا يشق عليكم لكنت تركت سوق الهدي حتى أحل كما أحللتم . ومن هاهنا تتضح الدلالة على
أفضلية التمتع كما ذهب إليه الإمام
أحمد أخذا من هذا ، فإنه قال : لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، ولكن التمتع أفضل لتأسفه عليه . وجوابه أنه ، عليه الصلاة والسلام ، لم يتأسف على التمتع لكونه أفضل من القران في حق من ساق الهدي ، وإنما تأسف عليه لئلا يشق على أصحابه في بقائه على إحرامه وأمره لهم بالإحلال ، ولهذا والله أعلم لما تأمل الإمام
أحمد هذا السر ، نص في رواية أخرى عنه على أن التمتع أفضل في حق من لم يسق الهدي ; لأمره ، عليه الصلاة والسلام ، من لم يسق الهدي من أصحابه بالتمتع ، وأن
القران أفضل في حق من ساق الهدي كما اختار الله عز وجل لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، في حجة الوداع وأمره له بذلك كما تقدم . والله أعلم .