[ ص: 181 ] ذكر الحديث الملقب بحديث الفتون المتضمن قصة
موسى مبسوطة من أولها إلى آخرها
قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=15397أبو عبد الرحمن النسائي ، في كتاب التفسير من سننه ، عند قوله تعالى في سورة " طه " :
وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا .
( حديث الفتون ) : حدثنا
عبد الله بن محمد ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون ، أنبأنا
أصبغ بن زيد ، حدثنا
القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني
سعيد بن جبير ، قال : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس عن
قول الله تعالى لموسى : وفتناك فتونا . فسألته عن الفتون : ما هو؟ فقال : استأنف النهار
يا ابن جبير ، فإن لها حديثا طويلا . فلما أصبحت ، غدوت إلى
ابن عباس; لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر
فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد
إبراهيم ، عليه السلام ، أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن
بني إسرائيل ينتظرون ذلك ، ما يشكون فيه ، وكانوا يظنون أنه
يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد
إبراهيم . فقال
فرعون : فكيف ترون؟ فائتمروا ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار ، يطوفون في
بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا
[ ص: 182 ] إلا ذبحوه ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من
بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : توشكون أن تفنوا
بني إسرائيل ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ، الذي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر ، فيقل نباتهم ، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولن يفنوا بمن تقتلون ، وتحتاجون إليهم . فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فحملت
أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة . فلما كان من قابل ، حملت
بموسى ، عليه السلام ، فوقع في قلبها الهم والحزن - وذلك من الفتون
يا ابن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به ; فأوحى الله إليها : أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين . فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ، وتلقيه في اليم ، فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها ، أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني؟ لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه . فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة تستقي منها جواري امرأة
فرعون ، فلما رأينه أخذنه ، فهممن أن يفتحن
[ ص: 183 ] التابوت ، فقال بعضهن : إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه ، لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها ، فلما فتحته رأت فيه غلاما ، فألقي عليه منها محبة ، لم تلق منها على أحد قط ، وأصبح فؤاد
أم موسى فارغا من ذكر كل شيء ، إلا من ذكر
موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة
فرعون; ليذبحوه - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فقالت لهم : أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في
بني إسرائيل ، حتى آتي
فرعون ، فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي ، كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه ، لم ألمكم . فأتت
فرعون فقالت :
قرة عين لي ولك [ القصص : 9 ] . فقال
فرعون : يكون لك ، فأما لي ، فلا حاجة لي فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3509831والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته ، لهداه الله كما هداها ، ولكن الله حرمه ذلك فأرسلت إلى من حولها ، إلى كل امرأة لها لبن ، تختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه ، لم يقبل على ثديها ، حتى أشفقت امرأة
فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك فأمرت به ، فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل ، وأصبحت
أم موسى والها ، فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا؟ أحي ابني أم أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب - والجنب; أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه لا
[ ص: 184 ] يشعر به فقالت من الفرح ، حين أعياهم الظؤورات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ، وهم له ناصحون . فأخذوها فقالوا : ما يدريك ما نصحهم؟ هل تعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك - وذلك من الفتون
يا ابن جبير - فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه ، رغبتهم في صهر الملك ، ورجاء منفعة الملك . فأرسلوها ، فانطلقت إلى أمها ، فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها ، فمصه حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشير إلى امرأة
فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا ، فأرسلت إليها ، فأتت بها وبه . فلما رأت ما يصنع بها ، قالت : امكثي ترضعي ابني هذا; فإني لم أحب شيئا حبه قط . قالت
أم موسى : لا أستطيع أن أترك بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه ، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا ، فعلت ، فإني غير تاركة بيتي وولدي .
وذكرت
أم موسى ما كان الله وعدها ، فتعاسرت على امرأة
فرعون ، وأيقنت أن الله منجز موعوده ، فرجعت إلى بيتها من يومها ، وأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظه لما قد قضى فيه ، فلم يزل
بنو إسرائيل ، وهم في ناحية القرية ، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم ، فلما ترعرع ، قالت امرأة
فرعون لأم موسى : أريني ابني . فوعدتها يوما تريها إياه فيه ، وقالت امرأة
فرعون لخزانها وظؤورها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة; لأرى ذلك فيه ، وأنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم . فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت
[ ص: 185 ] أمه إلى أن دخل على امرأة
فرعون ، فلما دخل عليها نحلته ، وأكرمته وفرحت به ، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به
فرعون ، فلينحلنه ، وليكرمنه . فلما دخلت به عليه ، جعله في حجره ، فتناول
موسى لحية
فرعون فمدها إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله
لفرعون : ألا ترى ما وعد الله
إبراهيم نبيه ، أنه زعم أنه يربك ويعلوك ، ويصرعك؟ فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه - وذلك من الفتون
يا ابن جبير ، بعد كل بلاء ابتلي به وأريد به فتونا - فجاءت امرأة
فرعون تسعى إلى
فرعون ، فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال : ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني؟ فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق; ائت بجمرتين ، ولؤلؤتين ، فقربهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين ، عرفت أنه يعقل . وإن تناول الجمرتين ، ولم يرد اللؤلؤتين ، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل . فقرب إليه ، فتناول الجمرتين ، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه ، بعد ما كان هم به ، وكان الله بالغا فيه أمره ، فلما بلغ أشده ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل
فرعون يخلص إلى أحد من
بني إسرائيل معه ، بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما
موسى ، عليه السلام ، يمشي في ناحية المدينة ، إذا هو برجلين يقتتلان ، أحدهما فرعوني ، والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب
موسى غضبا شديدا; لأنه تناوله ، وهو يعلم منزلته من
بني [ ص: 186 ] إسرائيل ، وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا أنه من الرضاع إلا
أم موسى ، إلا أن يكون الله أطلع
موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره ،
فوكز موسى الفرعوني ، فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله ، عز وجل ، والإسرائيلي ، فقال
موسى حين قتل الرجل :
هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ثم قال :
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم [ القصص : 15 ، 16 ] . فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار ، فأتي
فرعون ، فقيل له : إن
بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل
فرعون ، فخذ لنا بحقنا ، ولا ترخص لهم . فقال : ابغوني قاتله ، من يشهد عليه؟ فإن الملك ، وإن كان صفوه مع قومه ، لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك ، آخذ لكم بحقكم . فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة ، إذا
موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي ، يقاتل رجلا من آل
فرعون آخر ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف
موسى قد ندم على ما كان منه ، وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي ، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي ، لما فعل بالأمس واليوم :
إنك لغوي مبين [ القصص : 18 ] . فنظر الإسرائيلي إلى
موسى ، بعد ما قال له ، ما قال فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس ، الذي قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له : إنك لغوي مبين . أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده ، إنما أراد الفرعوني ، فخاف الإسرائيلي ، وقال : يا
موسى ، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ وإنما قال له; مخافة أن يكون إياه أراد
موسى ليقتله ، فتتاركا ،
[ ص: 187 ] وانطلق الفرعوني ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر ، حين يقول : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ فأرسل
فرعون الذباحين ليقتلوا
موسى ، فأخذ رسل
فرعون الطريق الأعظم ، يمشون على هينتهم يطلبون
موسى ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة
موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى
موسى فأخبره - وذلك من الفتون
يا ابن جبير -
فخرج موسى متوجها نحو مدين ، لم يلق بلاء قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه ، عز وجل ، فإنه قال :
عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان [ القصص : 22 ، 23 ] . يعني بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما :
ما خطبكما معتزلتين ، لا تسقيان مع الناس؟ قالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم ، وإنما ننتظر فضول حياضهم . فسقى لهما ، فجعل يغرف من الدلو ماء كثيرا ، حتى كان أول الرعاء ، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف
موسى ، فاستظل بشجرة ،
فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [ القصص : 24 ] . واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا ، فقال : إن لكما اليوم لشأنا . فأخبرتاه بما صنع
موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت
موسى فدعته ، فلما كلمه قال :
لا تخف نجوت من القوم الظالمين [ القصص : 25 ] . ليس
لفرعون ولا لقومه علينا من سلطان ، ولسنا في مملكته
قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين [ القصص : 26 ] . فاحتملته الغيرة على
[ ص: 188 ] أن قال لها : ما يدريك ما قوته ، وما أمانته؟ فقالت : أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه ، فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك ، ثم قال لي : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق . فلم يفعل هذا إلا وهو أمين . فسري عن أبيها ، وصدقها ، وظن به الذي قالت ، فقال له : هل لك
أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين [ القصص : 27 ] . ففعل ، فكانت على نبي الله
موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت السنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته ، فأتمها عشرا .
قال
سعيد بن جبير : فلقيني رجل من أهل النصرانية ، من علمائهم ، قال : هل تدري أي الأجلين قضى
موسى؟ قلت : لا . وأنا يومئذ لا أدري ، فلقيت
ابن عباس ، فذكرت ذلك له فقال : أما علمت أن ثمانية كانت على نبي الله واجبة؟ لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا وتعلم أن الله كان قاضيا عن
موسى عدته التي وعده ، فإنه قضى عشر سنين . فلقيت النصراني ، فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك . قلت : أجل ، وأولى .
فلما سار
موسى بأهله ، كان من أمر النار ، والعصا ، ويده ، ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل
فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه
هارون ، ويكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ،
[ ص: 189 ] فآتاه الله ، عز وجل ، سؤله وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى
هارون ، فأمره أن يلقاه ، فاندفع
موسى بعصاه حتى لقي
هارون ، فانطلقا جميعا إلى
فرعون ، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا : إنا رسولا ربك . فقال : فمن ربكما؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن ، قال : فما تريدان؟ وذكره القتيل ، فاعتذر بما قد سمعت قال : أريد أن تؤمن بالله ، وترسل معي
بني إسرائيل . فأبى عليه ، وقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين . فألقى عصاه فإذا هي حية عظيمة ، فاغرة فاها ، مسرعة إلى
فرعون فلما رآها
فرعون ، قاصدة إليه خافها ، فاقتحم عن سريره ، واستغاث
بموسى أن يكفها عنه ، ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه ، فرآها بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص - ثم ردها فعادت إلى لونها الأول ، فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى . يعني ملكهم الذي هم فيه ، والعيش ، وأبوا على
موسى أن يعطوه شيئا مما طلب ، وقالوا له : اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير ; حتى تغلب بسحرك سحرهما . فأرسل إلى المدائن ، فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا
فرعون ، قالوا : بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا : يعمل بالحيات . قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل ، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم . فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى . قال
سعيد : فحدثني
ابن عباس أن يوم الزينة
اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة ، هو يوم عاشوراء ، فلما اجتمعوا في
[ ص: 190 ] صعيد قال الناس بعضهم لبعض انطلقوا فلنحضر هذا الأمر; لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين . يعنون
موسى وهارون ، استهزاء بهما ، فقالوا : يا
موسى - بقدرتهم بسحرهم - إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين . قال : بل ألقوا .
فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون [ الشعراء : 44 ] . فرأى
موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة ، فأوحى الله إليه : أن ألق عصاك ، فلما ألقاها ، صارت ثعبانا عظيمة ، فاغرة فاها ، فجعلت العصي تلتبس بالحبال ، حتى صارت جرزا على الثعبان تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته فلما عرف السحرة ذلك ، قالوا : لو كان هذا سحرا لم تبلغ من سحرنا كل هذا ولكنه أمر من الله تعالى ، آمنا بالله وبما جاء به
موسى ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه . فكسر الله ظهر
فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون ، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ، وامرأة
فرعون بارزة متبذلة تدعو لله بالنصر
لموسى على
فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل
فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على
فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها
لموسى ، فلما طال مكث
موسى بمواعيد
فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه
بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى
موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ، ويوافقه على أن يرسل معه
بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك عنه ، أخلف موعده ، ونكث عهده ، حتى
[ ص: 191 ] أمر موسى بالخروج بقومه ، فخرج بهم ليلا ، فلما أصبح
فرعون ، ورأى أنهم قد مضوا ، أرسل في المدائن حاشرين ، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله إلى البحر : إذا ضربك عبدي
موسى بعصاه ، فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، حتى يجوز
موسى ومن معه ، ثم التق على من بقي بعد من
فرعون وأشياعه . فنسي
موسى أن يضرب البحر بالعصا ، وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه
موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله ، عز وجل ، فلما تراءى الجمعان وتقاربا ، قال أصحاب
موسى :
إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك ، فإنه لم يكذب ولم تكذب . قال : وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ، ثم ذكر بعد ذلك العصا ، فضرب البحر بعصاه ، حين دنا أوائل جند
فرعون من أواخر جند
موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه ، وكما وعد
موسى ، فلما أن جاوز
موسى وأصحابه كلهم البحر ، ودخل
فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز
موسى ، قال أصحابه : إنا نخاف أن لا يكون
فرعون غرق ، ولا نؤمن بهلاكه . فدعا ربه ، فأخرجه له ببدنه ، حتى استيقنوا بهلاكه ، ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم ،
قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون [ الأعراف : 138 ، 139 ] . قد رأيتم من العبر ، وسمعتم ما يكفيكم ومضى ، فأنزلهم
موسى منزلا ، وقال أطيعوا
هارون ، فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي . وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه ، عز وجل ، وأراد أن
[ ص: 192 ] يكلمه في ثلاثين يوما ، وقد صامهن ، ليلهن ونهارهن وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول
موسى شيئا من نبات الأرض فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح . قال : أوما علمت يا
موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك ارجع فصم عشرا ، ثم ائتني . ففعل
موسى ما أمره به ربه ، فلما رأى قوم
موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ، ساءهم ذلك ، وكان
هارون قد خطبهم وقال : إنكم خرجتم من
مصر ، ولقوم
فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيها مثل ذلك ، وأنا أرى أن تحتسبوا ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ، ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ، ولا ممسكيه لأنفسنا . فحفر حفيرا ، وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير . ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم .
وكان
السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران
لبني إسرائيل ، ولم يكن من
بني إسرائيل ، فاحتمل مع
موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة ، فمر
بهارون ، فقال له
هارون : يا
سامري ، ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابض عليه ، لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد . فألقاها ودعا له
هارون ، فقال : أريد أن تكون عجلا . فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية ، أو نحاس ، أو حديد ،
[ ص: 193 ] فصار عجلا أجوف ، ليس فيه روح ، له خوار .
قال
ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل من دبره ، وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك ، فتفرق
بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : يا
سامري ، ما هذا ، وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم ، ولكن
موسى أضل الطريق . وقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا
موسى ، فإن كان ربنا ، لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول
موسى . وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان ، وليس بربنا ، ولا نؤمن به ، ولا نصدق . وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال
السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب به ، فقال لهم
هارون عليه السلام :
ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن [ طه : 90 ] . ليس هذا ، قالوا : فما بال
موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا؟ هذه أربعون يوما قد مضت . قال سفهاؤهم : أخطأ ربه ، فهو يطلبه ويبتغيه . فلما كلم الله
موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، فرجع إلى قومه غضبان أسفا ، فقال لهم ما سمعتم ما في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره ، واستغفر له ، فانصرف إلى
السامري ، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال :
فقبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها ، وعميت عليكم فقذفتها
وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا [ طه : 96 ، 97 ] . ولو كان إلها لم نخلص إلى ذلك منه ، فاستيقن
بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط
[ ص: 194 ] الذين كان رأيهم فيه مثل رأي
هارون ، فقالوا جماعتهم : يا
موسى سل لنا أن يفتح لنا باب توبة نصنعها ، فيكفر عنا ما عملنا . فاختار
موسى قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألو الخير ، خيار
بني إسرائيل ، ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم الأرض ، فاستحيا نبي الله ، عليه السلام ، من قومه ، ومن وفده ، حين فعل بهم ما فعل ، فقال :
لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل ، وإيمان به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال :
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل [ الأعراف : 156 ، 157 ] .
فقال : يا رب ، سألتك التوبة لقومي ، فقلت : إن رحمتك كتبتها لقوم غير قومي فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة . فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ، لا يبالي من قتل في ذلك الموطن . وتاب أولئك الذين كان خفي على
موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول ، ثم سار بهم
موسى ، عليه السلام ، متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف فثقل ذلك عليهم ، وأبوا أن يقروا بها ، ونتق
[ ص: 195 ] الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم يصغون ينظرون إلى الجبل ، والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل ، مخافة أن يقع عليهم ، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون ، خلقهم خلق منكر - وذكر من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها - فقالوا : يا
موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون - قيل
ليزيد : هكذا قرأه؟ قال : نعم - من الجبارين آمنا
بموسى ، وخرجا إليه ، فقالوا : نحن أعلم بقومنا ، إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا قلوب لهم ، ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . ويقول أناس : إنهما من قوم
موسى . فقال الذين يخافون;
بنو إسرائيل :
قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [ المائدة : 24 ] . فأغضبوا
موسى ، فدعا عليهم ، وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك; لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم ، حتى كان يومئذ ، فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم فاسقين ، فحرمها عليهم أربعين سنة ، يتيهون في الأرض ، يصبحون كل يوم ، فيسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر
موسى فضربه بعصاه ،
[ ص: 196 ] فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، في كل ناحية ثلاثة أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذي كان فيه بالأمس . رفع
ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي أن
معاوية سمع
ابن عباس حدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على
موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف يفشي عليه ، ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟ فغضب
ابن عباس ، فأخذ بيد
معاوية ، فانطلق به إلى
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا
أبا إسحاق ، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل
موسى الذي قتل من آل
فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه ، أم الفرعوني؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع الإسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره . هكذا ساق هذا الحديث الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ، وأخرجه
ابن جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ، في تفسيرهما من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون ، والأشبه ، والله أعلم ، أنه موقوف ، وكونه مرفوعا فيه نظر ، وغالبه متلقى من الإسرائيليات ، وفيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام ، وفي بعض ما فيه نظر ونكارة ، والأغلب أنه من كلام
كعب الأحبار ، وقد سمعت شيخنا الحافظ
أبا الحجاج المزي يقول ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .