صفة خروجه وتمليكه ومقتله .
قد أسلفنا فيما تقدم أن
اليمن كانت قديما
لحمير ، وكانت ملوكهم يسمون التبابعة ، وتكلمنا في أيام الجاهلية على طرف صالح من هذا ، ثم إن ملك الحبشة بعث أميرين من قواده ، وهما
أبرهة الأشرم وأرياط ،
فتملكا له اليمن من حمير ، وصار ملكها للحبشة ، ثم اختلف هذان الأميران ، فقتل أرياط واستقل
[ ص: 426 ] أبرهة بالنيابة ، وبنى كنيسة سماها القليس ; لارتفاعها ، وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون
الكعبة ، فجاء بعض
قريش فأحدث في هذه الكنيسة ، فلما بلغه ذلك حلف ليخربن
بيت مكة ، فسار إليه ومعه الجنود والفيل محمود ، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه . وقد تقدم بسط ذلك في موضعه ، فرجع
أبرهة ببعض من بقي من جيشه في أسوأ حال وشر خيبة ، وما زال تسقط أعضاؤه أنملة أنملة ، فلما وصل إلى
صنعاء انصدع صدره فمات ، فقام بالملك بعده ولده
يكسوم بن أبرهة ثم أخوه
مسروق بن أبرهة ، فيقال : إنه استمر ملك
اليمن بأيدي
الحبشة سبعين سنة ، ثم
ثار سيف بن ذي يزن الحميري ، فذهب إلى
قيصر ملك
الروم يستنصره عليهم ، فأبى ذلك عليه ; لما بينه وبينهم من الاجتماع في دين النصرانية ، فسار إلى
كسرى ملك
الفرس ، فاستغاث به ، وله معه مواقف ومقامات في الكلام تقدم بسط بعضها ، ثم اتفق الحال على أن بعث معه ممن بالسجون طائفة تقدمهم رجل منهم يقال له :
وهرز ، فاستنقذ ملك
اليمن من
الحبشة ، وكسر
مسروق بن أبرهة وقتله ، ودخلوا إلى
صنعاء وقرروا
سيف بن ذي يزن في الملك على عادة آبائه ، وجاءت العرب تهنئه من كل جانب ، غير أن
لكسرى نوابا على البلاد ، فاستمر الحال على ذلك حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام
بمكة ما أقام ، ثم هاجر إلى
المدينة ، فلما كتب كتبه إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، فكتب في جملة ذلك
[ ص: 427 ] إلى
كسرى ملك
الفرس :
بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فأسلم تسلم . إلى آخره ، فلما جاءه الكتاب قال : ما هذا ؟ قالوا : هذا كتاب جاء من عند رجل بجزيرة العرب يزعم أنه نبي . فلما فتح الكتاب فوجده قد بدأ باسمه قبل اسم كسرى غضب كسرى عند ذلك غضبا شديدا ، وأخذ الكتاب فمزقه قبل أن يقرأه ، وكتب إلى عامله على اليمن ، وكان اسمه باذام : أما بعد ، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث من قبلك أميرين إلى هذا الرجل الذي بجزيرة العرب الذي يزعم أنه نبي ، فابعثه إلي في جامعة . فلما جاء الكتاب إلى باذام ، بعث من عنده أميرين عاقلين ، وقال : اذهبا إلى هذا الرجل ، فانظرا ما هو ، فإن كان كاذبا فخذاه في جامعة حتى تذهبا به إلى كسرى ، وإن كان غير ذلك فارجعا إلي فأخبراني ما هو ، حتى أنظر في أمره . فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فوجداه على أسد الأحوال وأرشدها ، ورأيا منه أمورا عجيبة يطول ذكرها ، ومكثا عنده شهرا بعدما أبلغاه ما جاءا له ، ثم تقاضاه الجواب بعد ذلك ، فقال لهما : " ارجعا إلى صاحبكما فأخبراه أن ربي قد قتل الليلة ربه " . فأرخا ذلك عندهما ، ثم رجعا سريعا إلى اليمن ، فأخبرا باذام بما قال لهما ، فقال : أحصوا تلك الليلة ، فإن ظهر الأمر كما قال فهو نبي . فجاءت الكتب من عند ملكهم أنه قد قتل كسرى في ليلة كذا وكذا ، لتلك الليلة ، وكان قد قتله بنوه ، ولهذا قال
[ ص: 428 ] بعض الشعراء :
وكسرى إذ تقاسمه بنوه بأسياف كما اقتسم اللحام تمخضت المنون له بيوم
أنى ولكل حاملة تمام
وقام بالملك بعده ولده
nindex.php?page=showalam&ids=16848يزدجرد ، وكتب إلى
باذام أن خذ لي البيعة ممن قبلك ، واعمد إلى ذلك الرجل فلا تهجه وأكرمه ، فدخل الإسلام في قلب
باذام وذويه من أبناء
فارس ممن
باليمن ، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه ، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيابة
اليمن بكمالها ، فلم يعزله عنها حتى مات ، فلما مات استناب ابنه
شهر بن باذام على
صنعاء وبعض المخاليف ، وبعث طائفة من أصحابه نوابا على مخاليف أخر ، فبعث أولا في سنة عشر
عليا وخالدا ، ثم أرسل
معاذا nindex.php?page=showalam&ids=110وأبا موسى الأشعري ، وفرق عمالة
اليمن بين جماعة من الصحابة ، فمنهم ;
شهر بن باذام ،
وعامر بن شهر الهمداني على
همدان ،
وأبو موسى على
مأرب ،
nindex.php?page=showalam&ids=2467وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين
نجران ورمع وزبيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=120ويعلى بن أمية على
الجند ،
والطاهر بن أبي هالة على
عك والأشعريين ،
وعمرو بن حزم على
نجران ، وعلى بلاد
حضرموت زياد بن لبيد ، وعلى
السكاسك [ ص: 429 ] عكاشة بن ثور بن أصغر ، وعلى
السكون وبني معاوية بن كندة ، وبعث
معاذ بن جبل معلما لأهل البلدين ;
اليمن وحضرموت ، يتنقل من بلد إلى بلد . ذكره
سيف بن عمر ، وذلك كله في سنة عشر في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينما هم على ذلك إذ نجم هذا اللعين
الأسود العنسي