[ ص: 111 ] ثم دخلت سنة إحدى وعشرين
ففيها كانت
وقعة نهاوند وفتحها على المشهور ، وهي وقعة عظيمة جدا لها شأن رفيع ونبأ عجيب ، وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح .
قال
ابن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=15472والواقدي : كانت وقعة
نهاوند في سنة إحدى وعشرين . وقال
سيف : كانت في سنة سبع عشرة . وقيل : في سنة تسع عشرة . فالله أعلم .
وإنما ساق
أبو جعفر بن جرير قصتها في هذه السنة فتبعناه في ذلك ، وجمعنا كلام هؤلاء الأئمة في هذا الشأن سياقا واحدا ، حتى دخل سياق بعضهم في بعض . قال
سيف وغيره : وكان الذي هاج هذه الوقعة أن المسلمين لما افتتحوا
الأهواز ، ومنعوا جيش
العلاء من أيديهم ، واستولوا على دار الملك القديم من إصطخر مع ما حازوا من دار مملكتهم حديثا ، وهي المدائن وأخذوا تلك المدائن والأقاليم والكور والبلدان الكثيرة ، فحموا عند ذلك ، واستجاشهم
nindex.php?page=showalam&ids=16848يزدجرد الذي تقهقر من بلد إلى بلد ، حتى صار إلى
أصبهان مبعدا طريدا ، لكنه في أسرة من قومه وأهله وماله ، فكتب إلى ناحية
نهاوند وما والاها من الجبال والبلدان ، فتجمعوا وتراسلوا حتى كمل لهم من الجنود ما لم يجتمع لهم قبل
[ ص: 112 ] ذلك . فبعث
سعد إلى
عمر يعلمه بذلك ، وثار
أهل الكوفة على
سعد في غبون هذا الحال . فشكوه في كل شيء حتى قالوا : لا يحسن يصلي . وكان الذي نهض بهذه الشكوى رجل يقال له :
الجراح بن سنان الأسدي . في نفر معه ، فلما ذهبوا إلى
عمر فشكوه إليه . قال لهم
عمر : من الدليل على شركم نهوضكم في هذا الحال عليه ، وهو مستعد لقتال أعداء الله ، وقد أجمعوا لكم ، ومع هذا لا يمنعني أن أنظر في أمركم . ثم بعث
محمد بن مسلمة - وكان رسول العمال - فلما قدم
محمد بن مسلمة الكوفة طاف على القبائل والعشائر والمساجد
بالكوفة ، فكل يثني على
سعد خيرا إلا ناحية
الجراح بن سنان ، فإنهم سكتوا ، فلم يذموا ولم يشكروا ، حتى انتهى إلى
بني عبس ، فقام رجل يقال له :
أبو سعدة أسامة بن قتادة . فقال : أما إذ نشدتنا ، فإن
سعدا لا يقسم بالسوية ، ولا يعدل في الرعية ، ولا يغزو في السرية . فدعا عليه
سعد ، فقال : اللهم إن كان قالها كذبا ورياء وسمعة ، فأعم بصره ، وأكثر عياله ، وعرضه لمضلات الفتن . فعمي واجتمع عنده عشر بنات ، وكان يسمع بالمرأة فلا يزال حتى يأتيها فيجسها ، فإذا عثر عليه قال : دعوة
سعد الرجل المبارك . ثم دعا
سعد على
الجراح وأصحابه ، فكل أصابته قارعة في جسده ، ومصيبة في ماله بعد ذلك . واستنفر
محمد بن مسلمة أهل الكوفة لغزو
أهل نهاوند في غبون ذلك عن أمر
عمر بن الخطاب . ثم سار
سعد ومحمد بن مسلمة والجراح وأصحابه
[ ص: 113 ] حتى جاءوا
عمر ، فسأله
عمر : كيف يصلي ؟ فأخبره أنه يطول في الأوليين ويخفف في الأخريين ، وما آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فقال له
عمر : ذاك الظن بك يا
أبا إسحاق . وقال
سعد في هذه القضية : لقد أسلمت خامس خمسة ، ولقد كنا وما لنا طعام إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا ، وإني
لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله ، ولقد جمع لي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يوم
أحد أبويه وما جمعهما لأحد قبلي ، ثم أصبحت
بنو أسد يقولون : لا يحسن يصلي . وفي رواية : تعزرني على الإسلام ، لقد خبت إذا وضل عملي . ثم قال
عمر لسعد : من استخلفت على
الكوفة ؟ فقال :
عبد الله بن عبد الله بن عتبان . فأقره
عمر على نيابته
الكوفة - وكان شيخا كبيرا من أشراف الصحابة ، حليفا
لبني الحبلى من
الأنصار - واستمر
سعد معزولا من غير عجز ولا خيانة ، وتهدد أولئك النفر ، وكاد يوقع بهم بأسا ، ثم ترك ذلك خوفا من أن لا يشكو أحد أميرا .
والمقصود أن
أهل فارس اجتمعوا من كل فج عميق بأرض
نهاوند حتى اجتمع منهم مائة ألف وخمسون ألف مقاتل ، وعليهم
الفيرزان ، ويقال :
بندار . ويقال :
ذو الحاجب . وتذامروا فيما بينهم وقالوا : إن
محمدا الذي جاء العرب لم يتعرض لبلادنا ، ولا
أبو بكر الذي قام بعده تعرض لنا في دار ملكنا ، وإن
عمر بن الخطاب هذا لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا ، ولم يكفه ذلك حتى أغزانا في عقر دارنا ، وأخذ بيت المملكة ، وليس بمنته حتى يخرجكم من
[ ص: 114 ] بلادكم . فتعاهدوا وتعاقدوا على أن يقصدوا
البصرة والكوفة ثم يشغلوا
عمر عن بلاده ، وتواثقوا من أنفسهم وكتبوا بذلك عليهم كتابا . فلما كتب
سعد بذلك إلى
عمر - وكان عزل
سعدا في غبون ذلك - شافه
سعد عمر بما تمالئوا عليه وقصدوا إليه ، وأنه قد اجتمع منهم مائة وخمسون ألفا . وجاء كتاب
عبد الله بن عبد الله بن عتبان من
الكوفة إلى
عمر مع
قريب بن ظفر العبدي ، بأنهم قد اجتمعوا ، وهم متحرقون متذامرون على الإسلام وأهله ، وأن المصلحة يا أمير المؤمنين أن نقصدهم فنعالجهم عما هموا به وعزموا عليه من المسير إلى بلادنا . فقال
عمر لحامل الكتاب : ما اسمك ؟ قال :
قريب . قال : ابن من ؟ قال :
ابن ظفر . فتفاءل
عمر بذلك ، وقال : ظفر قريب . ثم أمر فنودي : الصلاة جامعة . فاجتمع الناس ، وكان أول من دخل المسجد لذلك
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص ، فتفاءل
عمر أيضا
بسعد ، فصعد
عمر المنبر حتى اجتمع الناس فقال : إن هذا يوم له ما بعده من الأيام ، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، إني قد رأيت أن أسير بمن قبلي حتى أنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين فأستنفر الناس ، ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم . فقام
عثمان وعلي وطلحة والزبير nindex.php?page=showalam&ids=38وعبد الرحمن بن عوف في رجال من أهل الرأي ، فتكلم كل منهم بانفراده فأحسن وأجاد ، واتفق رأيهم على أن لا يسير من
المدينة ولكن يبعث البعوث
[ ص: 115 ] ويحضرهم برأيه ودعائه . وكان من كلام
علي ، رضي الله عنه ، أن قال : يا أمير المؤمنين ، إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة ، هو دينه الذي أظهر ، وجنده الذي أعز ، وأمده بالملائكة ، حتى بلغ ما بلغ ، فنحن على موعود من الله ، والله منجز وعده ، وناصر جنده ، ومكانك منهم يا أمير المؤمنين مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه ، فإذا انحل تفرق ما فيه وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا ، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثير عزيز بالإسلام ، فأقم مكانك واكتب إلى
أهل الكوفة فهم أعلام العرب ورؤساؤهم ، فليذهب منهم الثلثان ويقيم الثلث ، واكتب إلى
أهل البصرة يمدونهم أيضا . وكان
عثمان قد أشار في كلامه بأن يمدهم في جيوش من
أهل اليمن والشام . ووافق
عمر على الذهاب بنفسه إلى ما بين
البصرة والكوفة . فرد
علي على
عثمان في موافقته على الذهاب إلى ما بين
البصرة والكوفة ، كما تقدم ، ورد رأي
عثمان فيما أشار به من استمداد
أهل الشام خوفا على بلادهم - إذا قل جيوشها - من
الروم ، ومن
أهل اليمن خوفا على بلادهم من
الحبشة . فأعجب
عمر قول
علي وسر به - وكان
عمر إذا استشار أحدا لا يبرم أمرا حتى يشاور
العباس - فلما أعجبه كلام الصحابة في هذا المقام ، عرضه على
العباس ، فقال : يا أمير المؤمنين خفض عليك ، فإنما اجتمع هؤلاء
الفرس لنقمة . يعني : تنزل عليهم . ثم قال
عمر :
[ ص: 116 ] أشيروا علي بمن أوليه أمر الحرب ، وليكن عراقيا . فقالوا : أنت أبصر بجندك يا أمير المؤمنين . فقال : أما والله لأولين رجلا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدا . قالوا : من يا أمير المؤمنين ؟ قال :
النعمان بن مقرن . فقالوا : هو لها . وكان
النعمان قد كتب إلى
عمر وهو نائب على
كسكر ، وسأله أن يعزله عنها ويوليه قتال
أهل نهاوند ، فلهذا أجابه إلى ذلك وعينه له . ثم كتب
عمر إلى
حذيفة أن يسير من
الكوفة بجنود منها ، وكتب إلى
أبي موسى أن يسير بجنود
البصرة ، وكتب إلى
النعمان - وكان
بالبصرة - أن يسير بمن هناك من الجنود إلى
نهاوند ، وإذا اجتمع الناس فكل أمير على جيشه ، والأمير على الناس كلهم
النعمان بن مقرن ، فإذا قتل
nindex.php?page=showalam&ids=21فحذيفة بن اليمان ، فإذا قتل
nindex.php?page=showalam&ids=97فجرير بن عبد الله ، فإذا قتل
فقيس بن مكشوح ، فإن قتل
قيس ففلان ثم فلان . حتى عد سبعة ، أحدهم
المغيرة بن شعبة . وقيل : لم يسم فيهم . فالله أعلم .
وصورة الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم من
عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى
النعمان بن مقرن ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة
نهاوند ، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله ، وبمن معك من المسلمين ، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم ، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم ، ولا تدخلهم غيضة ، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة
[ ص: 117 ] ألف دينار ، والسلام عليك ، فسر في وجهك ذلك حتى تأتي ماه ، فإني قد كتبت إلى
أهل الكوفة أن يوافوك بها ، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى
الفيرزان ومن يجتمع معه من الأعاجم من
أهل فارس وغيرهم ، واستنصروا الله ، وأكثروا من : لا حول ولا قوة إلا بالله .
وكتب
عمر إلى نائب
الكوفة -
عبد الله بن عبد الله - أن يعين جيشا ويبعثهم إلى
نهاوند ، وليكن الأمير عليهم
حذيفة بن اليمان حتى ينتهي إلى
النعمان بن مقرن ، فإن قتل
النعمان فحذيفة ، فإن قتل
فنعيم بن مقرن ، وول
السائب بن الأقرع قسم الغنائم . فسار
حذيفة في جيش كثيف نحو
النعمان بن مقرن ليوافوه بماه ، وسار مع
حذيفة خلق كثير من أمراء
العراق ، وقد أرصد في كل كورة ما يكفيها من المقاتلة ، وجعل الحرس في كل ناحية ، واحتاطوا احتياطا عظيما ، ثم انتهوا إلى
النعمان بن مقرن حيث اتعدوا ، فدفع
حذيفة بن اليمان إلى
النعمان كتاب
عمر ، وفيه الأمر له بما يعتمده في هذه الوقعة . فكمل جيش المسلمين في ثلاثين ألفا من المقاتلة . فيما رواه
سيف ، عن
الشعبي ، فيهم من سادات الصحابة ورءوس العرب خلق كثير وجم غفير ؛ منهم
عبد الله بن عمر أمير المؤمنين ،
nindex.php?page=showalam&ids=97وجرير بن عبد الله البجلي ، nindex.php?page=showalam&ids=21وحذيفة بن اليمان ، nindex.php?page=showalam&ids=19والمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن معديكرب الزبيدي ، nindex.php?page=showalam&ids=2265وطليحة بن خويلد الأسدي ، وقيس بن [ ص: 118 ] مكشوح المرادي . فسار الناس نحو
نهاوند ، وبعث
النعمان بن مقرن الأمير بين يديه طليعة ثلاثة ؛ وهم :
طليحة ، وعمرو بن معديكرب الزبيدي ، وعمرو بن أبي سلمى ، ويقال له :
عمرو بن ثبي أيضا ، ليكشفوا له خبر القوم وما هم عليه . فسارت الطليعة يوما وليلة فرجع
عمرو بن ثبي ، فقيل له : ما رجعك ؟ فقال : كنت في أرض العجم ، وقتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها . ثم رجع بعده
عمرو بن معديكرب ، وقال : لم نر أحدا ، وخفت أن يؤخذ علينا بالطريق . ونفذ
طليحة ولم يحفل برجوعهما ، فسار بعد ذلك نحوا من بضعة عشر فرسخا حتى انتهى إلى
نهاوند ودخل في العجم وعلم من أخبارهم ما أحب ، ثم رجع إلى
النعمان فأخبره بذلك ، وأنه ليس بينه وبين
نهاوند شيء يكرهه .
فسار
النعمان على تعبئته وعلى
المقدمة نعيم بن مقرن ، وعلى المجنبتين
حذيفة وسويد بن مقرن ، وعلى المجردة
القعقاع بن عمرو ، وعلى الساقة
مجاشع بن مسعود ، حتى انتهوا إلى
الفرس وعليهم
الفيرزان ، ومعه من الجيش كل من غاب عن
القادسية في تلك الأيام المتقدمة ، وهو في مائة وخمسين ألفا . فلما تراءا الجمعان كبر
النعمان وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات ، فزلزلت الأعاجم ورعبوا من ذلك رعبا شديدا ، ثم أمر
النعمان بحط الأثقال وهو واقف ، فحط الناس أثقالهم ، وتركوا رحالهم ، وضربوا خيامهم وقبابهم ، وضربت خيمة
[ ص: 119 ] للنعمان عظيمة ، وكان الذين ضربوا أربعة عشر من أشراف الجيش ؛ وهم
حذيفة بن اليمان ، وعتبة بن عمرو ، nindex.php?page=showalam&ids=19والمغيرة بن شعبة ، وبشير بن الخصاصية ، وحنظلة الكاتب ، وابن الهوبر ، وربعي بن عامر ، وعامر بن مطر ، وجرير بن عبد الله الحميري ، nindex.php?page=showalam&ids=97وجرير بن عبد الله البجلي ، والأقرع بن عبد الله الحميري ، nindex.php?page=showalam&ids=185والأشعث بن قيس الكندي ، وسعيد بن قيس الهمداني ، nindex.php?page=showalam&ids=101ووائل بن حجر ، فلم ير
بالعراق خيمة عظيمة أعظم من بناء هذه الخيمة . وحين حطوا الأثقال أمر
النعمان بالقتال ، وكان يوم الأربعاء ، فاقتتلوا ذلك اليوم والذي بعده والحرب سجال ، فلما كان يوم الجمعة انحجزوا في حصنهم ، وحاصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله ، والأعاجم يخرجون إذا أرادوا ويرجعون إلى حصونهم إذا أرادوا . وقد بعث أمير
الفرس يطلب رجلا من المسلمين ليكلمه ، فذهب إليه
المغيرة بن شعبة ، فذكر من عظمة ما رآه عليه من لبسه ومجلسه ، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم ، وأنهم كانوا أطول الناس جوعا ، وأقلهم دارا وقدرا ، وقال : ما يمنع هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجسا من جيفكم ، فإن تذهبوا نخل عنكم ، وإن تأبوا نزركم مصارعكم . قال : فتشهدت وحمدت الله ، وقلت : لقد كنا أسوأ حالا مما ذكرت ، حتى بعث الله رسوله فوعدنا النصر في
[ ص: 120 ] الدنيا ، والجنة في الآخرة ، وما زلنا نتعرف من ربنا النصر منذ بعث الله رسوله إلينا ، وقد جئناكم في بلادكم ، وإنا لن نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم ، أو نقتل بأرضكم . فقال : أما والله ، إن الأعور لقد صدقكم ما في نفسه .
فلما طال على المسلمين هذا الحال واستمر ، جمع
النعمان بن مقرن أهل الرأي من الجيش ، واشتوروا في ذلك ، وكيف يكون من أمرهم حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيد واحد . فتكلم
عمرو بن أبي سلمى أولا - وهو أسن من كان هناك - فقال : إن بقاءهم على ما هم عليه أضر عليهم من الذي يطلبه منهم وأبقى على المسلمين . فرد الجميع عليه وقالوا : إنا لعلى يقين من إظهار ديننا ، وإنجاز موعود الله لنا . وتكلم
عمرو بن معديكرب فقال : ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم . فردوا جميعا عليه وقالوا : إنما يناطح بنا الجدران ، والجدران أعوان لهم علينا . وتكلم
طليحة الأسدي فقال : إنهما لم يصيبا ، وإني أرى أن تبعث سرية فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم ، فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هرابا بين أيديهم ، فإذا استطردوا وراءهم وانتهوا إلينا ، عزمنا أيضا على الفرار كلنا ، فإنهم حينئذ لا يشكون في الهزيمة فيخرجون من حصونهم عن بكرة أبيهم ، فإذا تكامل خروجهم رجعنا إليهم فجالدناهم
[ ص: 121 ] حتى يقضي الله بيننا . فاستجاد الناس هذا الرأي .
وأمر
النعمان على المجردة
القعقاع بن عمرو ، وأمرهم أن يذهبوا إلى البلد فيحاصروهم وحدهم ويهربوا بين أيديهم إذا برزوا إليهم . ففعل
القعقاع ذلك ، فلما برزوا من حصونهم نكص
القعقاع بمن معه ، ثم نكص ، ثم نكص ، فاغتنمها الأعاجم ، ففعلوا ما ظن
طليحة ، وقالوا : هي هي . فخرجوا بأجمعهم ولم يبق بالبلد من المقاتلة إلا من يحفظ لهم الأبواب ، حتى انتهوا إلى الجيش ،
nindex.php?page=showalam&ids=343والنعمان بن مقرن على تعبئته ، وذلك في صدر نهار جمعة ، فعزم الناس على مصادمتهم ، فنهاهم
النعمان وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس ، وتهب الأرواح ، وينزل النصر ، كما كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يفعل . وألح الناس على
النعمان في الحملة ، فلم يفعل - وكان رجلا ثابتا - فلما كان الزوال ، صلى بالمسلمين ، ثم ركب برذونا له أحوى قريبا من الأرض ، فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات ، ويقدم إلى المسلمين أنه يكبر الأولى فيتأهب الناس للحملة ، ويكبر الثانية فلا يبقى لأحد أهبة ، ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة . ثم رجع إلى موقفه ، وتعبت
الفرس تعبئة عظيمة ، واصطفوا صفوفا هائلة ، في عدد وعدد لم ير مثله ، وقد تغلغل كثير منهم بعضهم في بعض ، وألقوا حسك الحديد وراء ظهورهم حتى لا يمكنهم الهرب ولا الفرار ولا التحيز . ثم إن
النعمان بن مقرن ، رضي الله عنه ، كبر الأولى وهز الراية فتأهب الناس للحملة ، ثم كبر الثانية وهز الراية فتأهبوا أيضا ، ثم كبر الثالثة وحمل وحمل الناس على المشركين ، وجعلت راية
النعمان تنقض نحو
الفرس كانقضاض العقاب على
[ ص: 122 ] الفريسة حتى تصافحوا بالسيوف ، فاقتتلوا قتالا لم يعهد مثله في موقف من المواقف المتقدمة ، ولا سمع السامعون بوقعة مثلها ، قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبق وجه الأرض دما ، بحيث إن الدواب كانت تطبع فيه ، حتى قيل : إن الأمير
النعمان بن مقرن زلق به حصانه في ذلك الدم ، فوقع وجاءه سهم في خاصرته فقتله ، ولم يشعر به أحد سوى أخيه
سويد ، وقيل :
نعيم . وقيل : غطاه بثوبه ، وأخفى موته ، ودفع الراية إلى
حذيفة بن اليمان . فأقام
حذيفة أخاه
نعيما مكانه ، وأمر بكتم موته حتى ينفصل الحال ، لئلا ينهزم الناس . فلما أظلم الليل انهزم المشركون مدبرين وتبعهم المسلمون - وكان الكفار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقا ، فلما انهزموا وقعوا في الخندق وفي تلك الأودية نحو مائة ألف - وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم ، فهلك منهم بشر كثير نحو مائة ألف أو يزيدون ، سوى من قتل في المعركة ، ولم يفلت منهم إلا الشريد . وكان
الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة فانفلت وانهزم ، واتبعه
نعيم بن مقرن ، وقدم
القعقاع بين يديه ، وقصد
الفيرزان همذان ، فلحقه
القعقاع وأدركه عند
ثنية همذان ، وقد أقبل منها بغال كثير وحمر تحمل عسلا ، فلم يستطع
الفيرزان صعودها منهم ، وذلك لحينه فترجل وتوقل في الجبل فأتبعه
القعقاع حتى قتله . وقال المسلمون يومئذ : إن لله جنودا من عسل . ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الأحمال . وسميت تلك الثنية
ثنية العسل .
[ ص: 123 ] ثم لحق
القعقاع بقية المنهزمين منهم إلى
همذان ، وحاصرها وحوى ما حولها ، فنزل إليه صاحبها - وهو خسرو شنوم - فصالحه عليها . ثم رجع
القعقاع إلى
حذيفة ومن معه من المسلمين وقد دخلوا بعد الوقعة
نهاوند عنوة ، وقد جمعوا الأسلاب والمغانم إلى صاحب الأقباض وهو
السائب بن الأقرع . ولما سمع
أهل ماه بخبر
أهل همذان ، بعثوا إلى
حذيفة وأخذوا لهم منه الأمان . وجاء رجل يقال له :
الهربذ - وهو صاحب نارهم - فسأل من
حذيفة الأمان ويدفع إليهم وديعة عنده لكسرى ادخرها لنوائب الزمان ، فأمنه
حذيفة ، وجاء ذلك الرجل بسفطين مملوءتين جوهرا ثمينا لا يقوم ، غير أن المسلمين لم يعبئوا به ، واتفق رأيهم على بعثه
لعمر خاصة ، وأرسلوه صحبة الأخماس والسبي ، صحبة
السائب بن الأقرع ، وأرسل قبله بالفتح مع
طريف بن سهم ، ثم قسم
حذيفة بقية الغنيمة في الغانمين ، ورضخ ونفل لذوي النجدات ، وقسم لمن كان قد أرصد من الجيوش لحفظ ظهور المسلمين من ورائهم ، ومن كان ردءا لهم ، ومنسوبا إليهم .
وأما أمير المؤمنين فإنه كان يدعو الله ليلا ونهارا لهم ، دعاء الحوامل المقربات ، وابتهال ذوي الضرورات ، وقد استبطأ الخبر عنهم ، فبينا رجل من المسلمين ظاهر
المدينة إذا هو براكب ، فسأله من أين أقبل ؟ فقال : من
نهاوند . فقال : ما فعل الناس ؟ قال : فتح الله عليهم وقتل الأمير ، وغنم المسلمون غنيمة
[ ص: 124 ] عظيمة ، أصاب الفارس ستة آلاف ، والراجل ألفان . ثم فاته وقدم ذلك الرجل
المدينة ، فأخبره الناس وشاع الخبر حتى بلغ أمير المؤمنين فطلبه فسأله عمن أخبره ، فقال : راكب . فقال : إنه لم يجئني ، وإنما هو رجل من الجن ، وهو بريدهم ، واسمه
عثيم .
ثم قدم
طريف بالفتح بعد ذلك بأيام ، وليس معه سوى الفتح ، فسأله
عمر عمن قتل
النعمان فلم يكن معه علم ، حتى قدم الذين معهم الأخماس فأخبروا بالأمر على جليته ، فإذا ذلك الجني قد شهد الوقعة ورجع سريعا إلى قومه نذيرا . ولما أخبر
عمر بمقتل
النعمان بكى وسأل
السائب عمن قتل من المسلمين فقال : فلان وفلان وفلان . لأعيان الناس وأشرافهم . ثم قال : وآخرون من أفناد الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين . فجعل
عمر يبكي ويقول : وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين ! لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة ، وما يصنعون بمعرفة
عمر . ثم أمر بقسمة الخمس على عادته ، وحملت ذانك السفطان إلى منزل
عمر ، ورجعت الرسل . فلما أصبح
عمر طلبهم فلم يجدهم ، فأرسل في إثرهم البرد فما لحقهم البريد إلا
بالكوفة .
قال
السائب بن الأقرع : فلما أنخت بعيري
بالكوفة ، أناخ البريد بعيره على عرقوب بعيري ، وقال : أجب أمير المؤمنين . فقلت : لماذا ؟ فقال : لا أدري . فرجعنا على إثرنا حتى انتهيت إليه . قال : مالي ولك يا
ابن أم السائب ، بل ما
لابن أم السائب ومالي . قال : فقلت : وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال :
[ ص: 125 ] ويحك ، والله إن هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها ، فباتت ملائكة الله تسحبني إلى ذينك السفطين وهما يشتعلان نارا ، يقولون : لنكوينك بهما . فأقول : إني سأقسمهما بين المسلمين . فاذهب بهما لا أبا لك فبعهما فاقسمهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم ، فإنهم لا يدرون ما وهبوا ولم تدر أنت معهم . قال
السائب : فأخذتهما حتى جئت بهما
مسجد الكوفة وغشيتني التجار ، فابتاعهما مني
nindex.php?page=showalam&ids=146عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف ، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف ، فما زال أكثر
أهل الكوفة مالا بعد ذلك .
قال
سيف : ثم قسم ثمنهما بين الغانمين ، فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين .
قال
الشعبي : وحصل للفارس من أصل الغنيمة ستة آلاف ، وللراجل ألفان ، وكان المسلمون ثلاثين ألفا
قال :
وافتتحت نهاوند في أول سنة تسع عشرة لسبع سنين من إمارة عمر . رواه
سيف ، عن
عمرو بن محمد عنه .
وبه عن
الشعبي قال : لما قدم بسبي
نهاوند إلى
المدينة جعل
أبو لؤلؤة -
فيروز غلام المغيرة بن شعبة - لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى ، وقال : أكل
عمر كبدي . وكان أصل
أبي لؤلؤة من
نهاوند فأسرته
الروم أيام
فارس ،
[ ص: 126 ] وأسرته المسلمون بعد ، فنسب إلى حيث سبي .
قالوا : ولم تقم للأعاجم بعد هذه الوقعة قائمة . وألحق
عمر الذين أبلوا فيها في ألفين تشريفا لهم وإظهارا لشأنهم .
وفي هذه السنة افتتح المسلمون أيضا بعد
نهاوند مدينة جي - وهي مدينة أصبهان - بعد قتال كثير وأمور طويلة ، فصالحوا المسلمين ، وكتب لهم
عبد الله بن عبد الله كتاب أمان وصلح ، وفر منهم ثلاثون نفرا إلى
كرمان لم يصالحوا المسلمين . وقيل : إن الذي فتح
أصبهان هو
النعمان بن مقرن وأنه قتل بها ، ووقع أمير المجوس وهو
ذو الحاجبين عن فرسه فانشق بطنه ومات وانهزم أصحابه . والصحيح أن الذي فتح
أصبهان عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، الذي كان نائب
الكوفة .
وفيها افتتح
أبو موسى قم وقاشان ، وافتتح
سهيل بن عدي مدينة
كرمان .
وذكر
ابن جرير ، عن
الواقدي ، أن
عمرو بن العاص سار في جيش معه إلى
أنطابلس - قال : وهي
برقة - فافتتحها صلحا على ثلاثة عشر ألف دينار في كل سنة .
قال : وفيها بعث
عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري إلى
زويلة ففتحها
[ ص: 127 ] بصلح ، وصار ما بين
برقة إلى
زويلة سلما للمسلمين .
قال : وفيها ولى
عمر nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر على
الكوفة بدل
زياد بن حنظلة الذي ولاه بعد
عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، وجعل
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود على بيت المال ، فاشتكى
أهل الكوفة من
عمار ، فاستعفى
عمار من
عمر ، فعزله وولى
جبير بن مطعم ، وأمره أن لا يعلم أحدا . وبعث
المغيرة بن شعبة امرأته إلى امرأة
جبير يعرض عليها طعاما للسفر ، فقالت : اذهبي فائتيني به . فذهب
المغيرة إلى
عمر فقال : بارك الله يا أمير المؤمنين في من وليت على
الكوفة . فقال : وما ذاك ؟ وبعث إلى
جبير بن مطعم ، فعزله وولى
المغيرة بن شعبة ثانية ، فلم يزل عليها حتى مات
عمر ، رضي الله عنهم .
قال : وفيها حج
عمر واستخلف على
المدينة nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت ، وكان عماله على البلدان المتقدمون في السنة التي قبلها سوى
الكوفة .
قال
الواقدي : وفيها توفي
خالد بن الوليد بحمص ، وأوصى إلى
عمر بن الخطاب وقال غيره : توفي سنة ثلاث وعشرين . وقيل :
بالمدينة . والأول أصح .
وقال غيره : وفيها توفي
nindex.php?page=showalam&ids=386العلاء بن الحضرمي فولى
عمر مكانه
nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة . وقد قيل : إن
العلاء توفي قبل هذا . كما تقدم . والله أعلم .
[ ص: 128 ] وقال
ابن جرير فيما حكاه عن
الواقدي : وكان أمير
دمشق في هذه السنة
عمير بن سعيد ، وهو أيضا على
حمص وحوران وقنسرين والجزيرة ، وكان
معاوية على
البلقاء والأردن ، وفلسطين ، والسواحل وأنطاكية وغير ذلك .