صفحة جزء
فصل في ذكر أعيان من قتل يوم الجمل من السادة النجباء من الصحابة وغيرهم من الفريقين ، رضي الله عنهم أجمعين

وقد قدمنا أن عدة القتلى نحو من عشرة آلاف ، وأما الجرحى فلا [ ص: 474 ] يحصون كثرة .

ولم يكن في الفريقين من الصحابة إلا القليل . وقال الإمام أحمد : ثنا إسماعيل ، ثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عشرات ألوف ، فلم يحضرها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين . وقال أحمد أيضا : ثنا إسماعيل - هو ابن علية - ثنا منصور بن عبد الرحمن قال : قال الشعبي : لم يشهد الجمل من أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، غير علي ، وعمار ، وطلحة ، والزبير ، فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب . قلت : قد حضرها عائشة ، وابن الزبير ، والحسن ، والحسين ، ومحمد بن أبي بكر ، وسهل بن حنيف ، وآخرون . فممن قتل يومئذ في المعركة

طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، أبو محمد القرشي التيمي .

[ ص: 475 ] ويعرف بطلحة الخير ، وطلحة الفياض ; لكثرة بره ، وكثرة جوده . أسلم قديما على يدي أبي بكر الصديق ، فكان نوفل بن خويلد بن العدوية يشدهما في حبل واحد ، ولا تستطيع بنو تيم أن تمنعهما منه ، ولذلك كان يقال لطلحة وأبي بكر : القرينان . وقد هاجر وآخى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بينه وبين أبي أيوب الأنصاري ، وشهد مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، المشاهد كلها إلا بدرا ، فإنه كان بالشام في تجارة وقيل : في رسالة ; لهذا ضرب له رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بسهمه وأجره من بدر . وكانت له يوم أحد اليد البيضاء وشلت يده يومئذ ; لأنه وقى بها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، واستمرت كذلك إلى أن مات . وكان الصديق إذا حدث عن يوم أحد يقول : ذاك يوم كان كله لطلحة . وقد قال له رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يومئذ : " أوجب طلحة " . وذلك أنه كان على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، درعان ، فأراد أن ينهض وهما عليه ليصعد صخرة هنالك فما استطاع فطأطأ له طلحة ، فصعد على ظهره حتى استوى عليها ، وقال : " أوجب طلحة " .

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأحد الستة أصحاب الشورى ، وقد [ ص: 476 ] صحب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فأحسن صحبته حتى توفي وهو عنه راض ، وكذلك أبو بكر وعمر . فلما كانت قضية عثمان اعتزل عنه ، فنسبه بعض الناس إلى تحامل عليه ; فلهذا لما حضر يوم الجمل واجتمع به علي فوعظه ، تأخر فوقف في بعض الصفوف ، فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته . وقيل : في رقبته . والأول أشهر ، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس ، فجمح به حتى كاد يلقيه وجعل يقول : إلي عباد الله . فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله البصرة ، فمات بدار فيها . ويقال : إنه مات بالمعركة ، وإن عليا لما دار بين القتلى رآه فجعل يمسح عن وجهه التراب وقال : رحمة الله عليك أبا محمد ، يعز علي أن أراك مجدلا تحت نجوم السماء . ثم قال : إلى الله أشكو عجري وبجري ، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة . ويقال : إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم ، وقال لأبان بن عثمان : قد كفيتك رجلا من قتلة عثمان . وقد قيل : إن الذي رماه غيره . وهذا عندي أقرب وإن كان الأول مشهورا . والله أعلم . وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين .

ودفن طلحة إلى جانب الكلاء وكان عمره ستين سنة . وقيل : بضعا وستين سنة .

[ ص: 477 ] وكان آدم وقيل : أبيض . حسن الوجه كثير الشعر ، إلى القصر أقرب ، وكانت غلته في كل يوم ألف درهم

وروى حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أبيه أن رجلا رأى طلحة في منامه وهو يقول : حولوني عن قبري فقد آذاني الماء . ثلاث ليال ، فأتى ابن عباس - وكان نائبا على البصرة - فأخبره فاشتروا له دارا بالبصرة بعشرة آلاف درهم فحولوه من قبره إليها ، فإذا هو قد اخضر من جسده ما يلي الماء ، وإذا هو كهيئته يوم أصيب .

وقد وردت له فضائل كثيرة ; فمنها ما رواه أبو بكر بن أبي عاصم : حدثنا الحسن بن علي بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله ، حدثني أبي ، عن جده ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه قال : سماني رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يوم أحد طلحة الخير ، ويوم العسرة طلحة الفياض ، ويوم حنين طلحة الجود .

وقال أبو يعلى الموصلي : ثنا أبو كريب ، ثنا يونس بن بكير ، عن طلحة بن يحيى ، عن موسى وعيسى ، ابني طلحة ، عن أبيهما أن ناسا من [ ص: 478 ] أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قالوا لأعرابي جاء يسأل عمن قضى نحبه فقالوا : سل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فسأله في المسجد فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ، ثم اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر ، فقال رسول الله : " أين السائل ؟ " . قال : ها أنا ذا . فقال : " هذا ممن قضى نحبه " .

وقال أبو القاسم البغوي ثنا داود بن رشيد ، ثنا مكي بن إبراهيم ، ثنا الصلت بن دينار ، عن أبي نضرة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله وقال الترمذي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، ثنا أبو عبد الرحمن بن منصور العنزي - اسمه النضر - ثنا عقبة بن علقمة اليشكري : سمعت علي بن أبي طالب يقول : سمعت أذناي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : " طلحة والزبير جاراي في الجنة "

وقد روي من غير وجه عن علي أنه قال : إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة [ ص: 479 ] والزبير وعثمان ممن قال الله ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين [ الحجر : 47 ] .

وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب أن رجلا كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي ، فجعل سعد ينهاه ويقول : لا تقع في إخواني . فأبى فقام سعد فصلى ركعتين ثم قال : اللهم إن كان هذا مسخطا لك فيما يقول ، فأرني فيه اليوم آية واجعله للناس عبرة . فخرج الرجل فإذا هو ببختي يشق الناس فأخذه بالبلاط ، فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله . قال سعيد بن المسيب : فأنا رأيت الناس يتبعون سعدا ويقولون : هنيئا لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك .

والزبير بن العوام بن خويلد ، بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو عبد الله القرشي الأسدي

[ ص: 480 ] وأمه صفية بنت عبد المطلب ; عمة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أسلم الزبير قديما وعمره خمس عشرة سنة ، وقيل : أقل . وقيل : أكثر . وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فآخى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش ، وقد شهد المشاهد كلها ، وقد قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يوم الأحزاب : " من يأتينا بخبر القوم ؟ " . فقال : أنا . ثم ندب الناس فانتدب الزبير ، ثم ندبهم ، فانتدب الزبير ، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " إن لكل نبي حورايا وحواري الزبير " ثبت ذلك من رواية زر ، عن علي ، وثبت عن الزبير أنه قال : جمع لي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أبويه يوم بني قريظة .

وروي أنه أول من سل سيفا في سبيل الله ; وذلك بمكة حين بلغ الصحابة أن رسول الله قد قتل فجاء الزبير شاهرا سيفه حتى رأى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فشام سيفه .

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأحد الستة الذين توفي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو عنهم راض . وصحب الصديق فأحسن صحبته ، وكان ختنه على ابنته [ ص: 481 ] أسماء ، وابنه عبد الله منها ; أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة . وخرج مع الناس إلى الشام مجاهدا ، فشهد اليرموك فتشرفوا بحضوره ، وكانت له بها اليد البيضاء ، والهمة العلياء ، اخترق جيوش الروم وصفوفهم من بين الناس مرتين من أولهم إلى آخرهم . وكان من جملة من دافع عن عثمان وجاحف عنه . فلما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به - كما تقدم - فرجع عن القتال ، وكر راجعا إلى المدينة ، فمر بقوم الأحنف بن قيس - وكانوا قد اعتزلوا الفريقين - فقال قائل منهم ; يقال : هو الأحنف : ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعا إلى أهله ؟ من رجل يكشف لنا خبره ؟ فاتبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ، ونفيع في طائفة من غواة بني تميم ، فيقال : إنهم لما أدركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه . ويقال : بل أدركه عمرو بن جرموز ، فقال له عمرو : إن لي إليك حاجة . فقال : ادن . فقال مولى الزبير ; واسمه عطية : أرى معه سلاحا . فقال : وإن كان . فتقدم إليه فجعل يحادثه وحان وقت الصلاة ، فقال له الزبير : الصلاة . فقال : الصلاة . فتقدم الزبير ليصلي بهما ، فطعنه عمرو بن جرموز فقتله . ويقال : بل أدركه عمرو بواد يقال له : وادي السباع . وهو نائم في القائلة ، فهجم عليه فقتله . وهذا القول هو الأشهر ، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ، وكان آخر [ ص: 482 ] من تزوجها - وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها أيضا ، وكانت قبل عمر تحت عبد الله بن أبي بكر الصديق فقتل عنها - فلما قتل الزبير رثته بقصيدة جيدة الشعر محكمة المعنى ، فقالت :


غدر ابن جرموز بفارس بهمة يوم اللقاء وكان غير معرد     يا عمرو لو نبهته لوجدته
لا طائشا رعش الجنان ولا اليد     ثكلتك أمك أن ظفرت بمثله
ممن بقي ممن يروح ويغتدي     كم غمرة قد خاضها لم يثنه
عنها طرادك يا ابن فقع القردد     والله ربي إن قتلت لمسلما
حلت عليك عقوبة المتعمد

ولما قتله عمرو بن جرموز احتز رأسه وذهب به إلى علي ، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده ، فاستأذن فقال علي : لا تأذنوا له وبشروه بالنار . وفي رواية أن عليا قال : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : بشر قاتل ابن صفية [ ص: 483 ] بالنار . ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير ، فقال علي : إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . فيقال : إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه . وقيل : بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق ، فاختفى منه ، فقيل لمصعب : إن عمرو بن جرموز هاهنا وهو مختف ، فهل لك فيه ؟ فقال : مروه فليظهر فهو آمن ، والله ما كنت لأقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلا للزبير .

وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات دارة كثيرة جدا ، ولما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله ، فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتي ألف فوفوها عنه ، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي كان أوصى به ، ثم قسمت التركة بعد ذلك ، فأصاب كل واحدة من زوجاته - وكن أربعا - من ربع الثمن ، ألف ألف ومائتا ألف درهم ; فعلى هذا يكون مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف ، والثلث الموصى به تسعة عشر ألف ألف ومائتي ألف ، فالجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف ، والدين المخرج قبل ذلك ألفا ألف ومائتا ألف ، فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف ، وإنما نبهنا على هذا ; لأنه وقع في " صحيح البخاري " ما فيه نظر ينبغي أن ينبه له . والله أعلم . وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة ، والمآثر الوثيرة ، من الحلال ، مما أفاء الله [ ص: 484 ] عليه من الجهاد ، ومن خمس الخمس مما يختص به منه ، ومن التجارة المبرورة . وقد قيل : إنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج ، فربما تصدق في بعض الأيام بخراجهم كلهم ، رضي الله عنه وأرضاه .

وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ، وقد نيف على الستين سنة بست أو سبع ، وكان أسمر ربعة من الرجال ، معتدل اللحم خفيف اللحية ، رضي الله عنه .

وفي هذه السنة أعني سنة ست وثلاثين ، ولى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين نيابة الديار المصرية لقيس بن سعد بن عبادة ، وكان على نيابتها في أيام عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فلما توجه أولئك الأحزاب من خوارج المصريين إلى عثمان ليقتلوه وكان الذي جهزهم إليه مع عبد الله بن سبأ - المعروف بابن السوداء - محمد بن أبي حذيفة بن عتبة ، وكان لما قتل أبوه باليمامة قد أوصى به إلى عثمان ، فكفله ورباه في حجره ومنزله ، وأحسن إليه إحسانا كثيرا ، ونشأ في عبادة وزهادة ، وسأل من عثمان أن يوليه عملا ، فقال له : متى ما صرت أهلا لذلك وليتك . فتعتب في نفسه على عثمان ، فسأل من عثمان أن يخرج إلى الغزو فأذن له ، فقصد الديار المصرية وحضر مع أميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزوة الصواري ، كما قدمنا . وشرع ينتقص عثمان ، [ ص: 485 ] رضي الله عنه ، وساعده على ذلك محمد بن أبي بكر الصديق ، فكتب بذلك ابن أبي سرح إلى عثمان يشكوهما إليه ، فلم يعبأ بهما عثمان شيئا ، ولم يزل ذلك دأب محمد بن أبي حذيفة حتى استنفر أولئك إلى عثمان ، فلما بلغه أنهم قد حصروا عثمان ، تغلب على الديار المصرية ، وأخرج منها ابن أبي سرح ، وصلى بالناس فيها ، فلما كان ابن أبي سرح ببعض الطريق جاءه الخبر بقتل عثمان ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون . وبلغه أن عليا قد بعث على إمرة مصر قيس بن سعد بن عبادة ، فشمت بمحمد بن أبي حذيفة إذ لم يمتع بملك الديار المصرية سنة . وسار عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى الشام إلى معاوية ، فأخبره بما كان من أمره بديار مصر ، وأن محمد بن أبي حذيفة قد استحوذ عليها ، فسار معاوية وعمرو بن العاص إليه ليخرجاه منها ; لأنه من أكبر الأعوان على قتل عثمان ، مع أنه كان قد رباه وكفله وأحسن إليه ، فعالجا دخول مصر فلم يقدرا ، فلم يزالا يخدعانه حتى خرج إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها ، وجاءه عمرو بن العاص فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوا . ذكره محمد بن جرير

ثم سار إلى مصر قيس بن سعد بولاية من علي ، فدخلها في سبعة نفر ، [ ص: 486 ] فرقي المنبر وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم كثيرا الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن الله بحسن صنيعه وتقديره وتدبيره اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله ، وبعث به الرسل إلى عباده ، وخص به من انتخب من خلقه ، فكان مما أكرم الله به هذه الأمة وخصهم به من الفضيلة أن بعث محمدا ، صلى الله عليه وسلم ، يعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة ; لكيما يهتدوا ، وجمعهم لكيلا يتفرقوا ، وزكاهم لكي يتطهروا ، ووفقهم لكيلا يجوروا ، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه ، صلوات الله وسلامه عليه وبركاته ورحمته ، ثم إن المسلمين استخلفوا بعده أميرين صالحين ، عملا بالكتاب ، وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة ، ثم توفاهما الله تعالى ، فرحمهما الله ، ثم ولى بعدهما وال أحدث أحداثا ، فوجدت الأمة عليه مقالا فقالوا ، ثم نقموا عليه فغيروا ، ثم جاءوني فبايعوني ، فأستهدي الله بهداه ، وأستعينه على التقوى ، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسول الله ، والقيام عليكم بحقه ، والنصح لكم بالغيب - والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل - وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة ، فوازروه وكانفوه وأعينوه على الحق ، وقد أمرته [ ص: 487 ] بالإحسان إلى محسنكم ، والشدة على مريبكم ، والرفق بعوامكم وخواصكم ، وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته ، أسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا ، وثوابا جزيلا ، ورحمة واسعة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وكتب عبيد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين .

قال : ثم قام قيس بن سعد فخطب الناس ودعاهم إلى البيعة لعلي ، فقام الناس فبايعوه ، واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها : خربتا . فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان ، وكانوا سادة الناس ووجوههم ، وكانوا في نحو من عشرة آلاف - منهم بسر بن أبي أرطاة ، ومسلمة بن مخلد ، ومعاوية بن حديج ، وجماعة من الأكابر - وعليهم رجل يقال له : يزيد بن الحارث المدلجي . وبعثوا إلى قيس بن سعد فوادعهم ، وكذلك مسلمة بن مخلد الأنصاري تأخر عن البيعة فتركه قيس ووادعه .

ثم كتب معاوية بن أبي سفيان بعد أن استوثق له أمر الشام بحذافيره إلى أقصى بلاد الروم والسواحل - وجزيرة قبرس أيضا تحت [ ص: 488 ] حكمه يأتيه حملها - وبعض بلاد الجزيرة ; كالرها وحران وقرقيسياء وغيرها ، وقد أتاه الذين هربوا يوم الجمل من العثمانية ، وقد أراد الأشتر انتزاع هذه البلاد من نواب معاوية ، فبعث إليه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ففر منه الأشتر وهرب ، واستقر أمر معاوية على تلك البلاد ، فلما استوسقت له البلاد كما ذكرنا ، كتب إلى قيس بن سعد يدعوه إلى القيام بطلب دم عثمان ، وأن يكون مؤازرا له على ما هو بصدده من القيام في ذلك ، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تم له الأمر ما دام سلطانا .

فلما بلغه الكتاب - وكان قيس رجلا حازما - لم يخالفه ولم يوافقه ، بل بعث يلاطف معه الأمر ; وذلك لبعده عن علي وقربه من بلاد الشام وما مع معاوية من الجنود ، فسالمه قيس وتاركه ولم يوافقه على ما دعاه إليه ، ولا خالفه عليه . فكتب معاوية إليه : إنه لا يسعك معي تسويفك بي ، وخديعتك لي ، ولا بد أن أعلم أنك سلم لي أو عدو - وكان معاوية حازما أيضا . فكتب إليه - قيس لما صمم عليه : إني مع علي ; إذ هو أحق بالأمر منك . فلما بلغ [ ص: 489 ] ذلك معاوية ، يئس منه ورجع عنه .

ثم أشاع بعض أهل الشام أن قيسا يكاتبهم في الباطن ويمالئهم على أهل العراق . وروى ابن جرير أنه جاءهم من جهته كتاب مزور بمبايعة قيس معاوية . فالله أعلم بصحته .

فلما جاء الكتاب إلى علي اتهمه ، وكتب إليه أن يغزو أهل خربتا الذين تخلفوا عن البيعة ، فبعث يعتذر إليه بأنهم كثير عددهم ، وهم وجوه الناس ، وكتب إليه : إن كنت إنما أمرتني بهذا لتختبرني ; لأنك اتهمتني في طاعتك ، فابعث على عملك بمصر غيري . فبعث علي الأشتر النخعي ، فسار إليها فلما بلغ القلزم شرب شربة من عسل فكان فيها حتفه . فبلغ ذلك أهل الشام فقالوا : إن لله جندا من عسل . فلما بلغ عليا مهلك الأشتر ، بعث محمد بن أبي بكر على إمرة مصر ، وقد قيل - وهو الأصح - : إنه إنما ولاه مصر بعد قيس بن سعد فارتحل قيس إلى المدينة ، ثم ركب هو وسهل بن حنيف إلى علي فاعتذر إليه قيس بن سعد فعذره علي ، وشهدا معه صفين ، كما سنذكره . فلم يزل محمد بن أبي بكر قائم الأمر مهنيا بالديار المصرية ، حتى كانت وقعة صفين ، وبلغ أهل مصر صبر معاوية ومن معه من أهل الشام في قتال أهل العراق ، وصاروا إلى [ ص: 490 ] التحكيم ، فعند ذلك طمع أهل مصر في محمد بن أبي بكر ، واجترءوا عليه وبارزوه بالعداوة ، فكان من أمره ما سنذكره . وكان عمرو بن العاص قد بايع معاوية على القيام بطلب دم عثمان وكان قد خرج من المدينة حين أرادوا حصره ; لئلا يشهد مهلكه ، مع أنه كان متعتبا على عثمان بسبب عزله له عن ديار مصر وهو الذي فتحها ، وتوليته بدله عبد الله بن أبي سرح ، فخرج من المدينة على تغضب وغيظ ، فنزل قريبا من الأردن ، فلما قتل عثمان ، رضي الله عنه ، صار إلى معاوية فبايعه على ما ذكرنا من القيام بدم عثمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية