ذكر
رفع أهل الشام المصاحف مكرا منهم بأهل العراق وخديعة
فعند ذلك رفع
أهل الشام المصاحف فوق الرماح ، وقالوا : هذا بيننا وبينكم ، قد فني الناس فمن للثغور ؟ ومن لجهاد المشركين والكفار ؟
وذكر
ابن جرير وغيره من أهل التاريخ ، أن الذي أشار برفع المصاحف هو
عمرو بن العاص ، وذلك لما رأى أن
أهل العراق قد ظهروا وانتصروا ، أحب أن ينفصل الحال ، وأن يتأخر الأمر ، فإن كلا من الفريقين صابر للآخر ، والناس
[ ص: 544 ] يتفانون ، فقال
لمعاوية : إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا إلا اجتماعا ، ولا يزيد
أهل العراق إلا تفرقا واختلافا ، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها ، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال هذه الساعة ، وإن اختلفوا فيما بينهم - بأن يقول بعضهم : نجيبهم . وبعضهم : لا نجيبهم . فشلوا وذهبت ريحهم .
وقال الإمام
أحمد : حدثنا
يعلى بن عبيد ، عن
عبد العزيز بن سياه ، عن
حبيب بن أبي ثابت ، قال : أتيت
أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم
علي بالنهروان ، فيم استجابوا له وفيم فارقوه ، وفيم استحل قتالهم ؟ فقال : كنا
بصفين ، فلما استحر القتل
بأهل الشام اعتصموا بتل ، فقال
عمرو بن العاص لمعاوية : أرسل إلى
علي بمصحف فادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك . فجاء به رجل فقال : بيننا وبينكم كتاب الله
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون [ آل عمران : 544 ] فقال
علي : نعم ، أنا أولى بذلك ، بيننا وبينكم كتاب الله . قال فجاءته
الخوارج - ونحن ندعوهم يومئذ القراء - وسيوفهم على عواتقهم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ما تنتظر بهؤلاء القوم الذين
[ ص: 545 ] على التل ، ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فتكلم
سهل بن حنيف ، فقال : يا أيها الناس اتهموا أنفسكم ، فلقد رأيتنا يوم
الحديبية - يوم الصلح الذي كان بين رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين - ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء
عمر إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على باطل ؟ وذكر تمام الحديث كما تقدم في موضعه .
فلما رفعت المصاحف ، قال
أهل العراق : نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه . قال
أبو مخنف : حدثني
عبد الرحمن بن جندب الأزدي ، عن أبيه أن
عليا قال : عباد الله ، امضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم ; فإن
معاوية nindex.php?page=showalam&ids=59وعمرو بن العاص وابن أبي معيط nindex.php?page=showalam&ids=200وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح nindex.php?page=showalam&ids=190والضحاك بن قيس ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، وقد صحبتهم أطفالا ، وصحبتهم رجالا ، فكانوا شر أطفال ، وشر رجال ، ويحكم ! والله إنهم ما رفعوها رفع من يقرأها ويعمل بما فيها وإنما رفعوها خديعة
[ ص: 546 ] ودهاء ومكيدة ومكرا وتخذيلا لكم ، وكسرا لحدتكم وقتالكم ، ولم يبق إلا هزيمتهم وفرارهم ونصركم عليهم . فقالوا له : ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله ونجيب إليه . فقال لهم : إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب ; فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به ، وتركوا عهده ، ونبذوا كتابه . فقال له
مسعر بن فدكي التميمي ، وزيد بن حصن الطائي ثم السنبسي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا بعد ذلك
خوارج : يا
علي أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم ، أو نفعل بك ما فعلنا
بابن عفان ، إنه لما ترك العمل بكتاب الله قتلناه ، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك . قال : فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي ، أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا ، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم . قالوا : فابعث إلى
الأشتر فليأتك ويكف عن القتال . فبعث إليه
علي ليكف عن القتال .
وقد ذكر
الهيثم بن عدي في كتابه الذي صنفه في
الخوارج ، فقال : قال
ابن عباس : فحدثني
محمد بن المنتشر الهمداني ، عن من شهد
صفين ، وعن ناس من رءوس
الخوارج ممن لا يتهم على كذب ، أن
nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر كره ذلك وأبى ،
[ ص: 547 ] وقال في
علي بعض ما أكره ذكره ، ثم قال
عمار : من رائح إلى الله قبل أن يبتغي غير الله حكما ؟ فحمل فقاتل حتى قتل ، رضي الله عنه . وكان ممن دعا إلى ذلك في ذلك اليوم من سادات الشاميين
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص ; قام في
أهل العراق فدعاهم إلى الموادعة والكف وترك القتال والائتمار بما في القرآن ، وذلك عن أمر
معاوية له في ذلك ، رضي الله عنهما ، وكان ممن أشار على
علي بالقبول والدخول في ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=185الأشعث بن قيس الكندي ، رضي الله عنه ، فروى
أبو مخنف من وجه آخر أن
عليا لما بعث إلى
الأشتر قال : قل له : إن هذه ساعة ليس ينبغي أن تزيلني عن موقفي فيها ، إني قد رجوت أن يفتح الله
علي فلا تعجلني . فرجع الرسول - وهو
يزيد بن هانئ - إلى
علي فأخبره بما قال
الأشتر ، وصمم
الأشتر على القتال لينتهز الفرصة ، فارتفع الهرج وعلت الأصوات ، فقال أولئك القوم
لعلي : والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل . فقال
علي : أرأيتموني ساررت الرسول ، ألم أبعث إليه جهرة وأنتم تسمعون ؟ فقالوا : فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك . فقال
علي ليزيد بن هانئ : ويحك ! قل له : أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت . فلما رجع إليه
يزيد بن هانئ وأبلغه ما قال
علي أنه يقبل إليه ، جعل
[ ص: 548 ] الأشتر يتململ ويقول : ويحك ! ألا ترى ما نحن فيه من النصر ، ولم يبق إلا القليل ؟ فقلت : أيما أحب إليك ; أن ترجع أو يقتل أمير المؤمنين كما قتل
عثمان ؟ ثم ماذا تغني عنك نصرتك هاهنا ؟ قال : فأقبل
الأشتر إلى
علي وترك القتال ، فقال
الأشتر : يا
أهل العراق ، يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم ، وظهرتم وظنوا أنكم لهم قاهرون ; رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها ، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها ، وسنة من أنزل عليه القرآن ، فلا تجيبوهم ، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح . قالوا : لا . قال : أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر . قالوا : إذا ندخل معك في خطيئتك . ثم أخذ
الأشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة
أهل الشام بما حاصله : إن كان أول قتالكم لهؤلاء حقا فاستمروا عليه ، وإن كان باطلا فاشهدوا لقتلاكم بالنار . فقالوا : دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبدا ، ونحن قاتلنا هؤلاء في الله وتركنا قتالهم لله . فقال لهم
الأشتر : خدعتم والله فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب السوء ، كنا نظن صلاتكم زهادة في
[ ص: 549 ] الدنيا وشوقا إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ، يا أشباه النيب الجلالة ، ما أنتم بربانيين بعدها ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون . فسبوه وسبهم فضربوا وجه دابته بسياطهم ، وجرت بينهم أمور طويلة ، ورغب أكثر الناس من العراقيين والشاميين بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعلهم يتفقون على أمر يكون فيه مصلحة لحقن دماء المسلمين ، فإن الناس قد تفانوا في هذه المدة ، ولا سيما في هذه الثلاثة الأيام المتأخرة التي كان آخرها ليلة الجمعة ، وهي ليلة الهرير . وقد صبر كل من الجيشين للآخر صبرا لم ير مثله لما كان فيهم من الشجعان والأبطال ما ليس يوجد مثلهم في الدنيا ، ولهذا لم يفر أحد عن أحد بل صبروا حتى قتل من الفريقين - فيما ذكره غير واحد - سبعون ألفا ; خمسة وأربعون ألفا من
أهل الشام وخمسة وعشرون ألفا من
أهل العراق . قاله غير واحد ; منهم
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين ، وسيف وغيره . وزاد
أبو الحسن بن البراء : وكان في
أهل العراق خمسة وعشرون
[ ص: 550 ] بدريا . قال : وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفا . واختلفا في مدة المقام
بصفين ; فقال
سيف : سبعة أشهر أو تسعة أشهر . وقال
أبو الحسن بن البراء : مائة وعشرة أيام . قلت : ومقتضى كلام
nindex.php?page=showalam&ids=12145أبي مخنف أنه كان من مستهل ذي الحجة في يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر ، وذلك ثلاثة وسبعون يوما . فالله أعلم . وقال
الزهري : بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسا . هذا كله ملخص من كلام
ابن جرير ، nindex.php?page=showalam&ids=11890وابن الجوزي في كتابه " المنتظم " .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من طريق
يعقوب بن سفيان ، عن
أبي اليمان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16230صفوان بن عمرو قال : كان أهل
الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا ، وكان أهل
العراق مائة وعشرين ألفا فقتل منهم أربعون ألفا . وحمل
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي هذه الوقعة على الحديث الذي أخرجاه في " الصحيحين " عن
أبي [ ص: 551 ] هريرة . ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من طريق أخرى ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :
لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يقتل بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة . ورواه
مجالد ، عن
أبي الحواري ، عن
أبي سعيد مرفوعا مثله . ورواه
الثوري ، عن
ابن جدعان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12179أبي نضرة ، عن
أبي سعيد قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم :
لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة ; فبينما هم كذلك إذ مرقت منهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق . وقد تقدم ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، عن
ابن مهدي وإسحاق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري ، عن
منصور ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15883ربعي بن حراش ، عن
البراء بن ناجية الكاهلي ، عن
ابن مسعود قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،
إن رحى الإسلام ستزول لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين ، فإن يهلكوا فسبيل من هلك ، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما . فقال عمر : يا رسول الله أمما مضى أم مما بقي ؟ [ ص: 552 ] قال : بل مما بقي .
وقد رواه
إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتاب جمعه في سيرة
علي ; رواه عن
إبراهيم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12180أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن
شريك ، عن
منصور به مثله . وقال أيضا : حدثنا
أبو نعيم ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16101شريك بن عبد الله النخعي ، عن
مجالد ، عن
الشعبي ، عن
مسروق ، عن
عبد الله قال : قال لنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512397إن رحى الإسلام ستزول بعد خمس وثلاثين سنة ; فإن يصطلحوا فيما بينهم يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا ، وإن يقتتلوا يركبوا سنن من كان قبلهم . وقال
ابن ديزيل : حدثنا
عبد الله بن عمر ، ثنا
عبد الله بن خراش الشيباني ، عن
العوام بن حوشب ، عن
إبراهيم التيمي قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم :
تدور رحى الإسلام عند قتل رجل من بني أمية يعني
عثمان ، رضي الله عنه . وهذا مرسل . وقال أيضا : حدثنا
الحكم ، عن
نافع ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16230صفوان بن عمرو ، عن الأشياخ
أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، دعي إلى جنازة رجل من الأنصار فقال وهو قاعد ينتظرها : " كيف أنتم إذا رأيتم خيلين في الإسلام ؟ " . [ ص: 553 ] قالوا : أو يكون ذلك في أمة إلهها واحد ونبيها واحد ؟ قال : " نعم " . قال أبو بكر : أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال : " لا " . قال عمر : أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال : " لا " . قال عثمان : أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم ! بك ينشئون الحرب . وقال
عمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس : كيف يختلفون وإلههم واحد وقبيلتهم واحدة ؟ فقال : إنه سيجيئ قوم لا يفهمون القرآن كما نفهم فيختلفون فيه ، فإذا اختلفوا اقتتلوا . فأقر
عمر بذلك . وقال أيضا : حدثنا
أبو نعيم ، ثنا
سعيد بن عبد الرحمن - أخو
أبي حمزة - ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين قال : لما قتل
عثمان قال
عدي بن حاتم : لا ينتطح في قتله عنزان . فلما كان يوم
صفين فقئت عينه ، فقيل : لا ينتطح في قتله عنزان ! فقال : بلى ، وتفقأ عيون كثيرة . وروي عن
كعب الأحبار أنه مر
بصفين ، فرأى حجارتها فقال : لقد اقتتل في هذا الموضع
بنو إسرائيل تسع مرات ، وإن العرب ستقتتل فيها العاشرة ، حتى يتقاذفوا بالحجارة التي تقاذف بها
بنو إسرائيل ، ويتفانوا كما تفانوا .
وقد ثبت في الحديث أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال :
سألت ربي أن لا [ ص: 554 ] يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها ، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم ، فيستبيح بيضتهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يسلط بعضهم على بعض فمنعنيها . ذكرنا ذلك عند تفسير قوله تعالى :
أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض [ الأنعام : 65 ] . قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، هذا أهون .