[ ص: 156 ]
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين
فيها
غزا بسر بن أبي أرطاة بلاد الروم ، فوغل فيها حتى بلغ مدينة
قسطنطينية ، وشتى ببلادهم فيما زعمه
الواقدي ، وأنكر ذلك آخرون ، وقالوا : لم يكن بها مشتى لأحد . فالله أعلم .
قال
ابن جرير وفيها
مات عمرو بن العاص بمصر ،
ومحمد بن مسلمة . قلت : وسنذكر ترجمة كل منهما في آخرها .
فولى
معاوية بعد
عمرو بن العاص على ديار
مصر ولده
عبد الله بن عمرو . قال
الواقدي : فعمل له عليها سنتين .
وقد كانت في هذه السنة - أعني
سنة ثلاث وأربعين - وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة وذلك أنهم صمموا ، كما قدمنا ، على الخروج على الناس في هذا الحين ، فاجتمعوا في قريب من ثلاثمائة ، عليهم
المستورد بن علفة ، فجهز إليهم
المغيرة بن شعبة جندا عليهم
معقل بن قيس في ثلاثة آلاف ، فسار إليهم ، وقدم بين يديه
أبا الرواغ في طليعة ، هي ثلاثمائة على عدة
الخوارج ، فلقيهم
أبو الرواغ بمكان يقال له :
المذار . فاقتتلوا معهم ، فهزمتهم
الخوارج ، ثم كروا عليهم ، فهزمتهم
الخوارج ، ولكن لم يقتل أحد منهم ، فلزموا
[ ص: 157 ] مكانهم في مقابلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش
معقل بن قيس عليهم ، فما قدم عليهم إلا في آخر نهار بعد أن غربت الشمس ، فنزل وصلى بأصحابه ، ثم شرع في مدح
أبي الرواغ ، فقال له : أيها الأمير ، إن لهم شدات منكرة ، فكن أنت ردء الناس ، ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك . فقال
معقل بن قيس : نعم ما رأيت . فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت
الخوارج على
معقل وأصحابه ، فانجفل عنه عامة أصحابه ، فترجل عند ذلك
معقل بن قيس وقال : يا معشر المسلمين ، الأرض الأرض . فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس منهم
أبو الرواغ الشاكري ، فحمل عليهم
المستورد بن علفة أمير
الخوارج بأصحابه ، فاستقبلوهم بالرماح والسيوف ، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان ، فذمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار ، فرجع الناس إلى
معقل وهو يقاتل
الخوارج بمن معه قتالا شديدا ، والناس يتراجعون في أثناء الليل ، فصفهم
معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم وقال : لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم . فما أصبحوا حتى هزمت
الخوارج ، فرجعوا من حيث أتوا ، فسار
معقل في طلبهم ، وقدم بين يديه
أبا الرواغ في ستمائة ، فالتقوا بهم عند طلوع الشمس ، فثار إليهم
الخوارج ، فتبارزوا ساعة ، ثم حملوا حملة رجل واحد ، فصبر لهم
أبو الرواغ بمن معه ، وجعل يذمرهم وينهاهم عن الفرار ، ويحثهم على الصبر ، فصبروا وصدقوا في الثبات ، حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم ، فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم ، فما يكون دون
[ ص: 158 ] قتلهم شيء فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا
دجلة ، ووقعوا في أرض
بهرسير ، وتبعهم
أبو الرواغ ، ولحقه
معقل بن قيس ، ووصلت
الخوارج إلى
المدينة العتيقة ، فركب إليهم
سماك بن عبيد نائب المدائن ، ولحقهم
أبو الرواغ بمن معه من المقدمة .
وحج بالناس في هذه السنة nindex.php?page=showalam&ids=17065مروان بن الحكم نائب
المدينة .
وممن توفي بها
عمرو بن العاص ،
ومحمد بن مسلمة ، رضي الله عنهما .
أما
nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي أبو عبد الله ، ويقال : أبو محمد . أحد رؤساء
قريش في الجاهلية ، وهو الذي أرسلوه إلى
النجاشي ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده ، فلم يجبهم إلى ذلك لعدله ، ووعظ
عمرو بن العاص في ذلك ، فيقال : إنه أسلم على يديه . والصحيح أنه إنما أسلم قبل الفتح بستة أشهر هو
nindex.php?page=showalam&ids=22وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدري . وكان أحد أمراء الإسلام ، وهو أمير غزوة ذات السلاسل ، وأمده رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدد ، عليهم
أبو عبيدة ومعه
الصديق وعمر الفاروق ، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على
عمان ، فلم يزل عليها مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقره عليها
الصديق .
[ ص: 159 ] وقد قال الترمذي : ثنا
قتيبة ، ثنا
ابن لهيعة ثنا
مشرح بن هاعان ، عن
عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص " .
وقال أيضا : ثنا
إسحاق بن منصور ، ثنا
أبو أسامة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17194نافع بن عمر الجمحي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=55طلحة بن عبيد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" إن عمرو بن العاص من صالحي قريش " . وفي الحديث الآخر
" ابنا العاص مؤمنان " وفي الحديث الآخر
" نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله " رووه في
فضائل عمرو بن العاص
ثم إن
الصديق بعثه في جملة من بعث من أمراء الجيش إلى
الشام ، فكان ممن شهد تلك الحروب ، وكانت له الآراء السديدة ، والمواقف الحميدة ، والأحوال السعيدة ، ثم بعثه
عمر إلى
مصر فافتتحها واستنابه عليها ، وأقره عليها
عثمان بن عفان أربع سنين ، ثم عزله ، كما قدمنا ، وولى عليها
nindex.php?page=showalam&ids=16436عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فاعتزل
عمرو بفلسطين ، وبقي في نفسه من
عثمان ، رضي الله عنهما ، فلما قتل
عثمان سار إلى
معاوية ، فشهد مواقفه كلها بصفين وغيرها ، وكان هو أحد الحكمين ، ثم لما أن استرجع
معاوية مصر وانتزعها من يد
محمد بن أبي بكر الصديق استعمل
عمرو بن العاص عليها ، فلم يزل نائبها إلى أن مات في هذه السنة على المشهور ، وقيل : إنه توفي سنة سبع وأربعين . وقيل : سنة ثمان
[ ص: 160 ] وأربعين . وقيل : سنة إحدى وخمسين . رحمه الله .
وقد كان معدودا من دهاة العرب وشجعانهم وذوي آرائهم ، وله أمثال حسنة وأشعار جيدة . وقد روي أنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل . ومن شعره :
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما قضى وطرا منه وغادر سبة
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وقال الإمام
أحمد : حدثنا
علي بن إسحاق ، ثنا
عبد الله - يعني
ابن المبارك - أنا
ابن لهيعة ، حدثني
يزيد بن أبي حبيب ، أن
عبد الرحمن بن شماسة حدثه قال :
لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى ، فقال له ابنه عبد الله : لم تبكي ؟ أجزعا من الموت ؟ فقال : لا والله ، ولكن مما بعد الموت . فقال له : قد كنت على خير . فجعل يذكره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه
الشام . فقال
عمرو : تركت أفضل من ذلك كله ; شهادة أن لا إله إلا الله ، إنى كنت على ثلاثة أطباق ، ليس فيها طبق إلا عرفت نفسي فيه ، كنت أول شيء كافرا ، وكنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو مت حينئذ وجبت لي النار ، فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشد الناس حياء منه ، فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا راجعته فيما أريد ، حتى لحق بالله ; حياء منه ، فلو مت
[ ص: 161 ] يومئذ قال الناس : هنيئا
لعمرو ; أسلم وكان على خير فمات عليه ، نرجو له الجنة . ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء ، فلا أدري علي أم لي ، فإذا مت فلا تبكين علي باكية ، ولا تتبعني مادحا ولا نارا ، وشدوا علي إزاري فإني مخاصم ، وشنوا علي التراب شنا ، فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر ، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرا ، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها ; أستأنس بكم . وقد روى
مسلم هذا الحديث في " صحيحه " من حديث
يزيد بن أبي حبيب بإسناده نحوه ، وفيه زيادات على هذا السياق حسنة ، فمنها قوله : كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع به رسل ربي ، عز وجل . وفي رواية أنه بعد هذا حول وجهه إلى الجدار وجعل يقول : اللهم أمرتنا فعصينا ، ونهيتنا فما انتهينا ، ولا يسعنا إلا عفوك . وفي رواية أنه وضع يده على موضع الغل من عنقه ، ورفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم لا قوي فأنتصر ، ولا بريء فأعتذر ، ولا مستكبر بل مستغفر ، لا إله إلا أنت . فلم يزل يرددها حتى مات ، رضي الله عنه .
[ ص: 162 ] وأما
محمد بن مسلمة الأنصاري ، فإنه
أسلم على يدي nindex.php?page=showalam&ids=104مصعب بن عمير قبل nindex.php?page=showalam&ids=168أسيد بن حضير nindex.php?page=showalam&ids=307وسعد بن معاذ ، شهد بدرا وما بعدها إلا تبوك ; فإنه استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على
المدينة في قول ، وقيل : استخلفه في
قرقرة الكدر . وكان فيمن قتل
كعب بن الأشرف اليهودي ، وقيل : إنه الذي قتل
مرحبا اليهودي يوم
خيبر أيضا . وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو من خمس عشرة سرية ، وكان ممن اعتزل تلك الحروب
بالجمل وصفين وغيرهما ، واتخذ سيفا من خشب . وقد ورد في حديث قدمناه أنه أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وخرج إلى
الربذة . وكان من سادات الصحابة ، وكان هو بريد
عمر إلى عماله ، وهو الذي شاطرهم عن أمره ، وله وقائع عظيمة وصيانة وأمانة بليغة ، رضي الله عنه ، واستعمله
عمر على صدقات
جهينة ، وقيل : إنه توفي سنة ست أو سبع وأربعين . وقيل غير ذلك . وقد جاوز السبعين ، وترك بعده عشرة ذكور وست بنات ، وكان أسمر شديد السمرة طويلا أصلع ، رضي الله عنه .
وممن توفي فيها عبد الله بن سلام ، أبو يوسف الإسرائيلي ، أحد أحبار اليهود ، كان حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة في نخل له ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة انجفل الناس إليه ، فكنت فيمن انجفل إليه ، فلما رأيت وجهه
[ ص: 163 ] عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول :
" أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام " . وقد ذكرنا صفة إسلامه أول الهجرة ، وماذا سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسئلة النافعة الحسنة ، رضي الله عنه . وهو ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وهو ممن يقطع له بدخولها .