[ ص: 177 ] ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
فيها كان
مقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ، على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي ، المبير ، قبحه الله وأخزاه .
قال الواقدي : حدثني مصعب بن ثابت ، عن نافع مولى بني أسد - وكان عالما بفتنة ابن الزبير - قال : حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي الحجة سنة ثنتين وسبعين ، وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى ، سنة ثلاث وسبعين ، فكان حصر الحجاج له خمسة أشهر ، وسبع عشرة ليلة .
وقد ذكرنا فيما تقدم أن الحجاج حج بالناس في هذه السنة الخارجة ، وكان في الحج ابن عمر ، وقد كتب عبد الملك إلى الحجاج أن يأتم بابن عمر في المناسك ، كما ثبت ذلك في " الصحيحين " .
فلما استهلت هذه السنة ، استهلت وأهل
الشام محاصرون أهل
مكة ، وقد
[ ص: 178 ] نصب الحجاج المنجنيق على مكة ; ليحصر أهلها ، حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك ، وكان مع الحجاج خلق قدموا عليه من أرض الحبشة ، فجعلوا يرمون بالمنجنيق ، فقتلوا خلقا كثيرا ، وكان معه خمس مجانيق ، فألح عليها بالرمي من كل مكان ، وحبس عنهم الميرة فجاعوا ، وكانوا يشربون من ماء زمزم ، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة ، والحجاج يصيح بأصحابه : يا أهل
الشام ، الله الله في الطاعة ! فكانوا يحملون على ابن الزبير حتى يقال : إنهم آخذوه في هذه الشدة ، فيشد عليهم ابن الزبير وليس معه أحد ، حتى يخرجهم من باب بني شيبة ، ثم يكرون عليه فيشد عليهم ; فعل ذلك مرارا ، وقتل يومئذ جماعة منهم وهو يقول : خذها وأنا ابن الحواري . وقيل لابن الزبير : ألا تكلمهم في الصلح ؟ فقال : والله لو وجدوكم في جوف الكعبة لذبحوكم جميعا ، والله لا أسألهم صلحا أبدا .
وذكر غير واحد أنهم لما رموا بالمنجنيق ، جاءت الصواعق والبروق
[ ص: 179 ] والرعود ، حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق ، ونزلت صاعقة فأصابت من الشاميين اثني عشر رجلا ، فضعفت عند ذلك قلوبهم عن المحاصرة ، فلم يزل الحجاج يشجعهم ، ويقول : إني خبير بهذه البلاد ، هذه بروق
تهامة ورعودها وصواعقها ، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم . وجاءت صاعقة من الغد فقتلت من أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضا ، فجعل الحجاج يقول : ألم أقل لكم إنهم يصابون مثلكم ، وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة ؟
وكان أهل
الشام يرتجزون وهم يرمون بالمنجنيق ; يقولون :
خطارة مثل الفنيق المزبد نرمي بها عواذ هذا المسجد
فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته ، فتوقف أهل
الشام عن الرمي والمحاصرة ، فخطبهم الحجاج فقال : ويحكم ، ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم ؟ فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته . فعادوا إلى المحاصرة .
وما زال أهل
مكة يخرجون إلى الحجاج بالأمان ، ويتركون ابن الزبير ، حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف ، فأمنهم ، وقل أصحاب ابن الزبير جدا ، حتى خرج إلى الحجاج حمزة وخبيب ابنا عبد الله ابن الزبير ، فأخذا
[ ص: 180 ] لأنفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما ، ودخل
عبد الله بن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له ، وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله ، وأنه لم يبق معه إلا اليسير ، ولم يبق لهم صبر ساعة ، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا ، فما رأيك ؟ فقالت : يا بني ، أنت أعلم بنفسك ; إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه ، فقد قتل عليه أصحابك ، ولا تمكن من رقبتك ، يلعب بها غلمان بني أمية ، وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت ; أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك ، وإن كنت على حق فما وهن الدين ، وإلى كم خلودكم في الدنيا ؟ القتل أحسن . فدنا منها ، فقبل رأسها ، وقال : هذا والله رأيي . ثم قال : والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته ، ولكني أحببت أن أعلم رأيك ، فزدتيني بصيرة مع بصيرتي ، فانظري يا أماه ، فإني مقتول من يومي هذا ، فلا يشتد حزنك ، وسلمي لأمر الله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عمل بفاحشة قط ، ولم يجر في حكم الله ، ولم يغدر في أمان ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم يبلغني ظلم عن عامل فرضيته ؛ بل أنكرته ، ولم يكن عندي آثر من رضا ربي عز وجل ، اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي ، اللهم أنت أعلم بي مني ومن غيري ، ولكني أقول ذلك تعزية لأمي لتسلو عني . فقالت أمه : إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني ، أو تقدمتك ففي نفسي ، اخرج يا بني حتى أنظر ما يصير إليه أمرك . فقال : جزاك الله يا أمه خيرا ، فلا تدعي الدعاء قبل وبعد لي . فقالت : لا أدعه أبدا ، فمن قتل على باطل فلقد قتلت على
[ ص: 181 ] حق .
ثم قالت : اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل ، وذلك النحيب ، والظمأ في هواجر
المدينة ومكة ، وبره بأبيه وبي ، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فقابلني في
عبد الله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين ، ثم قالت له : ادن مني أودعك . فدنا منها فقبلته ، ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه ، واعتنقها ليودعها ، وكانت قد أضرت في آخر عمرها ، فوجدته لابسا درعا من حديد ، فقالت : يا بني ، ما هذا لباس من يريد ما تريد من الشهادة . فقال : يا أماه ، إنما لبسته لأطيب خاطرك ، وأسكن قلبك به . فقالت : لا يا بني ، ولكن انزعه . فنزعه ، وجعل يلبس بقية ثيابه ويتشدد ، وهي تقول : شمر ثيابك . وجعل يتحفظ من أسفل ثيابه ; لئلا تبدو عورته إذا قتل ، وجعلت تذكره بأبيه الزبير ، وجده أبي بكر الصديق ، وجدته صفية بنت عبد المطلب ، وخالته عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيدا ، ثم خرج من عندها ، فكان ذلك آخر عهده بها رضي الله عنهما وعن أبيه وأبيها ، ثم قالت : امض على بصيرة . فودعها ، وخرج وهو يقول :
ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما
[ ص: 182 ] قالوا : وكان يخرج من باب المسجد الحرام ، وهناك خمسمائة فارس وراجل ، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمينا وشمالا ، ولا يثبت له أحد ، وهو يقول :
إني إذا أعرف يومي أصبر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
ويقول أيضا :
الموت أكرم من إعطاء منقصة من لم يمت غبطة فالغاية الهرم
وكانت أبواب الحرم قد قل من يحرسها من أصحاب ابن الزبير ، وكان لأهل
حمص حصار الباب الذي يواجه باب الكعبة ، ولأهل
دمشق باب بني شيبة ، ولأهل
الأردن باب الصفا ، ولأهل فلسطين باب بني جمح ، ولأهل
قنسرين باب بني سهم ، وعلى كل باب قائد ، ومعه أهل تلك البلاد ، وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح .
وكان ابن الزبير لا يخرج على أهل باب إلا فرقهم وبدد شملهم ، وهو غير ملبس حتى يخرجهم إلى الأبطح ، ثم يصيح :
لو كان قرني واحدا كفيته
فيقول ابن صفوان وأهل
الشام أيضا : إي والله ، وألف رجل . ولقد كان حجر المنجنيق يقع على طرف ثوبه فلا ينزعج بذلك ، ثم يخرج إليهم ، فيقاتلهم
[ ص: 183 ] كأنه أسد ضار ، حتى جعل الناس يتعجبون من إقدامه وشجاعته ، فلما كان ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من هذه السنة بات ابن الزبير يصلي طول ليلته ، ثم جلس فاحتبى بحميلة سيفه ، فأغفى ثم انتبه مع الفجر على عادته ، ثم قال : أذن يا سعد . فأذن عند المقام ، وتوضأ ابن الزبير ، ثم صلى ركعتي الفجر ، ثم أقيمت الصلاة فصلى الفجر ثم قرأ سورة " ن " حرفا حرفا ، ثم سلم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال لأصحابه : ما أراني اليوم إلا مقتولا ; فإني رأيت في منامي كأن السماء فرجت لي ، فدخلتها ، وإني والله قد مللت الحياة ، وجاوزت سني اثنتين وسبعين سنة ، اللهم إني أحب لقاءك ، فأحب لقائي . ثم قال : اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم ، فكشفوا عن وجوههم وعليهم المغافر ، فحرضهم وحثهم على القتال والصبر ، ثم نهض بهم ، فحمل وحملوا حتى كشفوهم إلى الحجون ، فجاءته آجرة فأصابته في وجهه ، فارتعش لها ، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه تمثل بقول بعضهم :
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم رجع ، فجاءه حجر منجنيق من ورائه فأصابه في قفاه فوقذه ، ثم
[ ص: 184 ] وقع إلى الأرض على وجهه ، ثم انتهض فلم يقدر على القيام ، وابتدره الناس ، فشد عليه رجل من أهل
الشام ، فضرب الرجل فقطع رجليه ، وهو متكئ على مرفقه الأيسر ، وجعل يضرب وما يقدر أن ينتهض حتى كثروا عليه ، فابتدروه بالسيوف ، فقتلوه رضي الله عنه ، وجاءوا إلى الحجاج فأخبروه ، فخر ساجدا - قبحه الله - ثم قام هو وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه ، وهو صريع ، فقال طارق : ما ولدت النساء أذكر من هذا . فقال الحجاج : تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين ؟ قال : نعم ، هو أعذر لنا ; إنا محاصروه وليس هو في حصن ولا خندق ولا منعة ينتصف منا ، بل يفضل علينا في كل موقف ، فلما بلغ ذلك عبد الملك صوب طارقا .
وروى ابن عساكر في ترجمة الحجاج أنه لما قتل ابن الزبير ارتجت
مكة بكاء على
عبد الله بن الزبير رحمه الله ، فخطب الحجاج الناس فقال : أيها الناس ، إن
عبد الله بن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ، ونازعها أهلها ، وألحد في الحرم ، فأذاقه الله من عذاب أليم ، وإن آدم كان أكرم على الله من ابن الزبير ، وكان في الجنة ، وهي أشرف من
مكة ، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التي نهي عنها أخرجه الله من الجنة ، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .
[ ص: 185 ] وقيل : إنه قال : يا أهل
مكة ، بلغني إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير ، فإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة ، حتى رغب في الدنيا ، ونازع الخلافة أهلها ، فخلع طاعة الله ، وألحد في حرم الله ، ولو كانت
مكة شيئا يمنع القضاء لمنعت آدم حرمة الجنة ، وقد خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، فلما عصاه أخرجه من الجنة ، وأهبطه إلى الأرض ، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير ، وإن ابن الزبير غير كتاب الله ، فقال له
عبد الله بن عمر : لو شئت أن أقول لك : كذبت ; لقلت ، والله إن ابن الزبير لم يغير كتاب الله ، بل كان قواما به ، صواما ، عاملا بالحق .
وكتب الحجاج إلى عبد الملك بما وقع ، وبعث برأس ابن الزبير مع رأس
nindex.php?page=showalam&ids=16444عبد الله بن صفوان ، وعمارة بن حزم إلى عبد الملك ، وأمرهم إذا مروا بالمدينة أن ينصبوا الرءوس بها ، ثم يسيروا بها إلى
الشام ، ففعلوا ما أمرهم به .
ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كداء عند الحجون - يقال : منكسة - فما زالت مصلوبة حتى مر به
عبد الله بن عمر فقال : رحمة الله عليك يا أبا خبيب ، أما والله لقد كنت صواما قواما ، ثم قال : أما آن لهذا الراكب أن ينزل ؟ فبعث الحجاج ، فأنزل عن الجذع ، ودفن هناك .
ودخل الحجاج إلى
مكة ، فأخذ البيعة من أهلها لأمير المؤمنين
[ ص: 186 ] عبد الملك بن مروان ، ولم يزل الحجاج مقيما بمكة حتى أقام للناس الحج عامه هذا أيضا ، وهو على
مكة واليمامة واليمن .