[ ص: 257 ] ثم دخلت
سنة ست وسبعين
وكان في أولها في مستهل صفر منها ليلة الأربعاء اجتماع
صالح بن مسرح أمير
الصفرية ، nindex.php?page=showalam&ids=16090وشبيب بن يزيد أحد شجعان
الخوارج ، فقام فيهم
صالح بن مسرح ، فأمرهم بتقوى الله ، وحثهم على الجهاد ، وأن لا يقاتلوا أحدا حتى يدعوه إلى الدخول معهم .
ثم مالوا إلى دواب
محمد بن مروان ، نائب
الجزيرة لأخيه
عبد الملك ، فأخذوها فتقووا بها ، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة ، وتحصن منهم أهل دارا ونصيبين وسنجار ، فبعث إليهم
محمد بن مروان نائب
الجزيرة خمسمائة فارس ، عليهم
عدي بن عدي بن عميرة ، ثم زاده خمسمائة أخرى ، فسار في ألف من
حران إليهم ، وكأنما يساق إلى الموت وهو ينظر ; لما يعلم من جلد
الخوارج وقوتهم وشدة بأسهم ، فلما التقى مع
الخوارج هزموه هزيمة شنيعة بالغة ، واحتووا على ما في معسكره ، ورجع فلهم إلى
[ ص: 258 ] محمد بن مروان فغضب ، وبعث إليهم ألفا وخمسمائة مع
الحارث بن جعونة ، وألفا وخمسمائة مع
خالد بن جزء السلمي ، وقال لهما : أيكما سبق إليهم فهو الأمير على الناس . فساروا إليهم في ثلاثة آلاف مقاتل ،
والخوارج في نحو من مائة نفس ، وعشرة أنفس ، فلما انتهوا إلى
آمد توجه
صالح إلى
خالد بن جزء في شطر الناس ، ووجه
شبيبا إلى
الحارث بن جعونة في الباقين ، فاقتتل الناس في هذا اليوم قتالا شديدا إلى الليل ، فلما كان المساء انكف كل من الفريقين عن الآخر ، وقد قتل من
الخوارج نحو السبعين ، وقتل من أصحاب
ابن مروان نحو الثلاثين ، وهربت
الخوارج في الليل ، فخرجوا من
الجزيرة ، وأخذوا في أرض
الموصل ، ومضوا حتى قطعوا
الدسكرة ، فبعث إليهم
الحجاج ثلاثة آلاف مع
الحارث بن عميرة ، فسار نحوهم حتى لحقهم بأرض
الموصل ، وليس مع
صالح سوى تسعين رجلا ، فالتقى معهم ،
[ ص: 259 ] وقد جعل
صالح أصحابه ثلاثة كراديس ; فهو في كردوس
، وشبيب عن يمينه في كردوس
، وسويد بن سليمان عن يساره في كردوس ، وحمل عليهم
الحارث بن عميرة ، وعلى ميمنته
أبو الرواغ الشاكري ، وعلى ميسرته
الزبير بن الأروح التميمي ، فصبرت
الخوارج على قلتهم صبرا شديدا ، ثم انكشف
وسويد بن سليمان ، ثم قتل
صالح بن مسرح أميرهم ، وصرع
شبيب عن فرسه ، فالتف عليه بقية
الخوارج حتى احتملوه ، فدخلوا به حصنا هنالك ، وقد بقي معهم سبعون رجلا ، فأحاط بهم
الحارث بن عميرة ، وأمر أصحابه أن يحرقوا الباب ، ففعلوا ، ورجع الناس إلى معسكرهم ينتظرون حريق الباب ، فيأخذون
الخوارج قهرا ، فلما رجع الناس واطمأنوا خرجت عليهم
الخوارج من الباب على الصعب والذلول ، فبيتوا جيش
الحارث بن عميرة ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وهرب الناس سراعا إلى
المدائن ، واحتاز
شبيب وأصحابه ما في معسكرهم ، فكان جيش
الحارث بن عميرة أول جيش هزمه
شبيب ، وكان مقتل
صالح بن مسرح في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من هذه السنة .
وفيها دخل
شبيب الكوفة ومعه زوجته
غزالة ، وذلك أن
شبيبا جرت له
[ ص: 260 ] فصول يطول تفصيلها بعد مقتل
صالح بن مسرح ، واجتمعت عليه
الخوارج وبايعوه ، وبعث إليه
الحجاج جيشا آخر ، فقاتلوه فهزموه ثم هزمهم بعد ذلك ، ثم سار فحاصر
المدائن ، فلم ينل منها شيئا ، فسار فأخذ دواب
nindex.php?page=showalam&ids=14078للحجاج من
كلواذا ، ومن عزمه أن يبيت
أهل المدائن ، فهرب من فيها من الجند إلى
الكوفة فلما وصل الفل إلى
الحجاج جهز جيشا أربعة آلاف مقاتل إلى
شبيب ، فمروا على
المدائن ، ثم ساروا في طلب
شبيب ، فجعل
شبيب يسير بين أيديهم قليلا قليلا ، وهو يريهم أنه خائف منهم ، ثم يكر في كل وقت على المقدمة فيكسرها ، وينهب ما فيها ، ولا يواجه أحدا إلا هزمه
، والحجاج يلح في طلبه ، ويجهز إليه السرايا والبعوث والمدد
، وشبيب لا يبالي بأحد ، وإن ما معه مائة وستون فارسا ، وهذا من أعجب العجب ، ثم سار من طريق أخرى حتى واجه
الكوفة ، وهو يريد أن يحاصرها ، فخرج الجيش بكماله إلى
السبخة لقتاله ، وبلغه ذلك فلم يبال بهم ، وانزعج الناس ، وخافوا منه وفرقوا ، وهموا أن يدخلوا
الكوفة خوفا منه ، فيتحصنوا فيها منه ، حتى قيل لهم : إن
سويد بن عبد الرحمن في آثارهم ، وقد اقترب منهم
، وشبيب نازل
بالكوفة بالدير ، ليس عنده خبر منهم ولا خوف ، وقد أمر بطعام وشواء أن يصنع له ، فقيل له : قد جاءك الجند فأدرك نفسك . فجعل لا يلتفت إلى ذلك ولا يكترث بهم ، ويقول للدهقان
[ ص: 261 ] الذي يصنع له الطعام : عجل به . فلما استوى أكله ، ثم توضأ ، ثم صلى بأصحابه صلاة تامة بتطويل وطمأنينة ، ثم لبس درعه ، وتقلد سيفين ، وأخذ عمود حديد ، ثم قال : أسرجوا لي البغلة . فقال له أخوه
مصاد : أفي هذا اليوم تركب بغلة ، وقد أحاط بك الأعداء من كل جانب ؟ قال : نعم . فركبها ، ثم فتح باب الدير الذي هو فيه ، وهو يقول : أنا أبو المدله ، لا حكم إلا لله ، وتقدم إلى أمير الجيش الذي تقدموا إليه ، فضربه بالعمود الحديد فقتله ، وهو
سعيد بن المجالد ، وحمل على الجيش الآخر الكثيف فصرع أميره ، وهرب الناس من بين يديه ، ولجئوا إلى
الكوفة ، ومضى
شبيب حتى أغار على أسفل الفرات ، وقتل جماعة هناك ، وخرج
الحجاج من
الكوفة إلى
البصرة ، واستخلف على
الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة ، ثم اقترب
شبيب من
الكوفة يريد دخولها ، فأعلم الدهاقين
عروة بن المغيرة بذلك ، فكتب إلى
الحجاج يعلمه بذلك ، فأسرع
الحجاج الخروج من
البصرة ، وقصد
الكوفة ، فأسرع السير ، وبادره
شبيب إلى
الكوفة ، فسبقه
الحجاج إليها ، فدخلها العصر ، ووصل
شبيب إلى
المربد عند الغروب ، فلما كان آخر الليل دخل
شبيب الكوفة ، وقصد
[ ص: 262 ] قصر الإمارة ، فضرب بابه بعموده الحديد ، فأثرت ضربته في الباب ، فكانت تعرف بعد ذلك ؛ يقال : هذه ضربة
شبيب ، وسلك في طرق
المدينة ، وتقصد محال القبائل ، وقتل رجالا من رؤساء
أهل الكوفة وأشرافهم ، منهم
أبو سليم والد
ليث بن أبي سليم ،
وعدي بن عمرو ،
وأزهر بن عبد الله العامري ، في طائفة كثيرة من
أهل الكوفة ، وكان مع
شبيب امرأته
غزالة ، وكانت معروفة بالشجاعة ، فدخلت مسجد
الكوفة ، وجلست على منبره ، وجعلت تذم
بني مروان .
ونادى
الحجاج في الناس : يا خيل الله اركبي وأبشري . فخرج
شبيب من
الكوفة ، فجهز
الحجاج في أثره ستة آلاف مقاتل ، فساروا وراءه ، وهو بين أيديهم ، ينعس ويهز رأسه ، وفي أوقات كثيرة يكر عليهم
شبيب ، فيقتل منهم جماعة ، حتى قتل من جيش
الحجاج خلقا كثيرا ، وقتل جماعة من الأمراء ، منهم :
زائدة بن قدامة - قتله
شبيب ، وهو ابن عم المختار - فوجه
الحجاج مكانه لحربه
nindex.php?page=showalam&ids=12582عبد الرحمن بن الأشعث ، فلم يقابل
شبيبا ورجع ، فوجه مكانه
عثمان بن قطن الحارثي ، فالتقوا في آخر السنة ، فقتل
عثمان بن قطن ، وانهزمت جموعه بعد أن قتل من أصحابه ستمائة نفس ، فمن أعيانهم
عقيل بن شداد السلولي ،
[ ص: 263 ] وخالد بن نهيك الكندي ،
والأسود بن ربيعة .
واستفحل أمر
شبيب ، وتزلزل له
nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان ، و
الحجاج ، وسائر الأمراء ، وخاف
عبد الملك منه خوفا شديدا ، فبعث له جيشا من
أهل الشام ، فقدموا في السنة الآتية ، وإن ما مع
شبيب شرذمة قليلة ، وقد ملأ قلوب الناس رعبا ، وجرت خطوب كثيرة له معهم ، ولم يزل ذلك دأبه ودأبهم حتى استهلت هذه السنة .
قال
ابن جرير : وفي هذه السنة نقش
nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان على الدراهم والدنانير ، وهو أول من نقشها .
وقال القاضي الماوردي في كتاب " الأحكام السلطانية " : اختلف في أول من ضربها بالعربية في الإسلام ; فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب :
أول من ضرب الدراهم المنقوشة nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان ، وكانت الدنانير رومية ، والدراهم كسروية . قال
أبو الزناد وكان نقشه لها في سنة أربع وسبعين . وقال
المدائني : خمس وسبعين . وضربت في الآفاق سنة ستة وسبعين . وذكر أنه ضرب على الجانب الواحد منها " الله أحد " ، وعلى الوجه الآخر " الله
[ ص: 264 ] الصمد " ، قال : وحكى
يحيى بن النعمان الغفاري ، عن أبيه ، أن أول من ضرب الدراهم
مصعب بن الزبير ، عن أمر أخيه
عبد الله بن الزبير ، سنة سبعين ، على ضرب الأكاسرة ، وعليها " الملك بركة " من جانب ، و " لله " من جانب ، ثم غيرها
الحجاج ، وكتب اسمه عليها من جانب ، ثم خلصها بعده
يوسف بن هبيرة في أيام
nindex.php?page=showalam&ids=17369يزيد بن عبد الملك ، ثم خلصها أجود منها
nindex.php?page=showalam&ids=14998خالد بن عبد الله القسري في أيام
هشام ، ثم
يوسف بن عمر أجود منهم كلهم . ولذلك كان
المنصور لا يقبل منها إلا الهبيرية والخالدية واليوسفية .
وذكر أنه قد كان للناس نقود مختلفة ، منها الدرهم البغلي ، وكان ثمانية دوانق ، والطبري وكان أربعة دوانق ، والمصري ثلاثة دوانق ، واليمني دانقا ، فجمع
عمر بن الخطاب بين البغلي والطبري ، ثم أخذ نصفها فجعله الدرهم الشرعي ، وهو نصف مثقال وخمس مثقال ، وذكروا أن المثقال لم يغيروا وزنه في جاهلية ولا إسلام ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .
وفيها ولد
nindex.php?page=showalam&ids=17068مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ، وهو مروان
[ ص: 265 ] الحمار ، آخر من تولى الخلافة من
بني أمية بالشام ، ومنه أخذها
بنو العباس .
وفيها ولى
nindex.php?page=showalam&ids=16491عبد الملك بن مروان نيابة
المدينة nindex.php?page=showalam&ids=11795لأبان بن عثمان ، وعزل عنها
يحيى بن مروان عمه ، واستدعاه إلى
الشام .
وفيها حج بالناس
nindex.php?page=showalam&ids=11795أبان بن عثمان بن عفان نائب
المدينة ، وكان على إمرة
العراق الحجاج ، وعلى
خراسان أمية بن عبد الله ، والله أعلم .