محنة الواثق
قال
حنبل : لم يزل
أبو عبد الله بعد أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة ، ويحدث ويفتي ، حتى مات
المعتصم ، وولي ابنه
الواثق ، فأظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى
أحمد بن أبي دواد وأصحابه .
فلما اشتد الأمر على
أهل بغداد ، وأظهرت القضاة المحنة بخلق القرآن ، وفرق بين
فضل الأنماطي وبين امرأته ، وبين أبي
صالح وبين امرأته ، كان
أبو عبد الله يشهد الجمعة ، ويعيد الصلاة إذا رجع ، ويقول : تؤتى الجمعة لفضلها ، والصلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة .
وجاء نفر إلى
أبي عبد الله ، وقالوا : هذا الأمر قد فشا وتفاقم ، ونحن نخافه على أكثر من هذا ، وذكروا
ابن أبي دواد ، وأنه على أن يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب القرآن كذا وكذا فنحن لا نرضى بإمارته . فمنعهم من ذلك ، وناظرهم .
وحكى
أحمد قصده في مناظرتهم ، وأمرهم بالصبر . قال : فبينا
[ ص: 264 ] نحن في أيام
الواثق ، إذ جاء
يعقوب ليلا برسالة الأمير
إسحاق بن إبراهيم إلى
أبي عبد الله : يقول لك الأمير : إن أمير المؤمنين قد ذكرك ، فلا يجتمعن إليك أحد ، ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها ، فاذهب حيث شئت من أرض الله . قال : فاختفى
أبو عبد الله بقية حياة
الواثق . وكانت تلك الفتنة ، وقتل
أحمد بن نصر الخزاعي . ولم يزل
أبو عبد الله مختفيا في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك
الواثق .
وعن
إبراهيم بن هانئ قال : اختفى
أبو عبد الله عندي ثلاثا ، ثم قال : اطلب لي موضعا ، قلت : لا آمن عليك ، قال : افعل ، فإذا فعلت ، أفدتك . فطلبت له موضعا ، فلما خرج ، قال : اختفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثة أيام ثم تحول .
العجب من
أبي القاسم علي بن الحسن الحافظ ، كيف ذكر ترجمة
أحمد مطولة كعوائده ، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمة مع صحة أسانيدها فإن
حنبلا ألفها في جزءين . وكذلك
صالح بن أحمد وجماعة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12915أبو الحسين بن المنادي ، حدثني جدي
أبو جعفر قال : لقيت
أبا [ ص: 265 ] عبد الله ، فرأيت في يديه مجمرة يسخن خرقة ، ثم يجعلها على جنبه من الضرب . فقال : يا
أبا جعفر ، ما كان في القوم أرأف بي من
المعتصم .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13918أبي عبد الله البوشنجي قال : حدث
أحمد ببغداد جهرة حين مات
المعتصم . فرجعت من
الكوفة ، فأدركته في رجب سنة سبع وعشرين ، وهو يحدث ، ثم قطع الحديث لثلاث بقين من شعبان بلا منع . بل كتب
الحسن بن علي بن الجعد قاضي
بغداد إلى
ابن أبي دواد : إن
أحمد قد انبسط في الحديث ، فبلغ ذلك
أحمد ، فقطع الحديث وإلى أن توفي .
فصل في حال الإمام في دولة المتوكل
قال
حنبل : ولي
المتوكل جعفر ، فأظهر الله السنة ، وفرج عن الناس ، وكان
أبو عبد الله يحدثنا ويحدث أصحابه في أيام
المتوكل . وسمعته يقول : ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا .
قال
حنبل : ثم إن
المتوكل ذكره ، وكتب إلى
إسحاق بن إبراهيم في إخراجه إليه ، فجاء رسول
إسحاق إلى
أبي عبد الله يأمره بالحضور ، فمضى
أبو عبد الله ثم رجع ، فسأله أبي عما دعي له ؟ فقال : قرأ علي كتاب
جعفر يأمرني بالخروج إلى العسكر ، يعني :
سر من رأى ، قال : وقال لي
إسحاق بن إبراهيم : ما تقول في القرآن ؟ فقلت : إن أمير المؤمنين قد نهى عن هذا . قال : وخرج
إسحاق إلى العسكر ، وقدم ابنه
محمدا ينوب عنه
ببغداد .
قال
أبو عبد الله : وقال لي
إسحاق بن إبراهيم : لا تعلم أحدا أني سألتك عن القرآن ! فقلت له : مسألة مسترشد أو مسألة متعنت ؟ قال : بل مسترشد ، قلت : القرآن كلام الله ليس بمخلوق .
[ ص: 266 ]
قال
صالح بن أحمد : قال أبي : قال لي
إسحاق بن إبراهيم : اجعلني في حل من حضوري ضربك ، فقلت : قد جعلت كل من حضرني في حل .
وقال لي : من أين قلت : إنه غير مخلوق ؟ فقلت : قال الله :
ألا له الخلق والأمر ففرق بين الخلق والأمر . فقال
إسحاق : الأمر مخلوق . فقال : يا سبحان الله ! أمخلوق يخلق خلقا ؟ !! قلت يعني : إنما خلق الكائنات بأمره ، وهو قوله : كن قال : ثم قال لي : عمن تحكي أنه ليس بمخلوق ؟ قلت : عن
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر بن محمد قال : ليس بخالق ولا مخلوق .
قال
حنبل : ولم يكن عند
أبي عبد الله ما يتحمل به أو ينفقه ، وكانت عندي مائة درهم ، فأتيت بها أبي ، فذهب بها إليه ، فأصلح بها ما احتاج إليه ، واكترى وخرج ، ولم يمض إلى
محمد بن إسحاق بن إبراهيم ولا سلم عليه . فكتب بذلك
محمد ، إلى أبيه ، فحقدها
إسحاق عليه . وقال : يا أمير المؤمنين ! إن
أحمد خرج من
بغداد ، ولم يأت مولاك
محمدا . فقال
المتوكل : يرد ولو وطئ بساطي - وكان
أحمد قد بلغ
بصرى - فرد ، فرجع وامتنع من الحديث إلا لولده ولنا ، وربما قرأ علينا في منزلنا .
ثم إن رافعا رفع إلى
المتوكل : إن
أحمد ربص علويا في منزله ، يريد أن يخرجه ويبايع عليه . قال : ولم يكن عندنا علم ، فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصيف ، سمعنا الجلبة ، ورأينا النيران في دار
أبي عبد الله ، فأسرعنا ،
[ ص: 267 ] وإذا به قاعد في إزار ،
ومظفر بن الكلبي صاحب الخبر ، وجماعة معهم ، فقرأ صاحب الخبر كتاب
المتوكل : ورد على أمير المؤمنين أن عندكم علويا ربصته لتبايع له ، وتظهره ، في كلام طويل . ثم قال له
مظفر : ما تقول ؟
قال : ما أعرف من هذا شيئا ، وإني لأرى له السمع والطاعة في عسري ويسري ، ومنشطي ومكرهي ، وأثرة علي ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار ، في كلام كثير . فقال
مظفر : قد أمرني أمير المؤمنين أن أحلفك ، قال : فأحلفه بالطلاق ثلاثا ، أن ما عنده طلبة أمير المؤمنين . ثم فتشوا منزل
أبي عبد الله والسرب والغرف والسطوح ، وفتشوا تابوت الكتب ، وفتشوا النساء والمنازل ، فلم يروا شيئا ، ولم يحسوا بشيء ، ورد الله الذين كفروا بغيظهم ، وكتب بذلك إلى
المتوكل ، فوقع منه موقعا حسنا ، وعلم أن
أبا عبد الله مكذوب عليه . وكان الذي دس عليه رجل من أهل البدع . ولم يمت حتى بين الله أمره للمسلمين ، وهو
ابن الثلجي .
فلما كان بعد أيام بينا نحن جلوس بباب الدار ، إذا
يعقوب أحد حجاب
المتوكل قد جاء ، فاستأذن على
أبي عبد الله ، فدخل ، ودخل أبي وأنا ، ومع بعض غلمانه بدرة على بغل ، ومعه كتاب
المتوكل . فقرأه على
أبي عبد الله : إنه صح عند أمير المؤمنين براءة ساحتك ، وقد وجه إليك بهذا المال
[ ص: 268 ] تستعين به . فأبى أن يقبله ، وقال : ما لي إليه حاجة . فقال : يا
أبا عبد الله ، اقبل من أمير المؤمنين ما أمرك به ، فإنه خير لك عنده ، فإنك إن رددته ، خفت أن يظن بك سوءا . فحينئذ قبلها . فلما خرج ، قال : يا
أبا علي ، قلت : لبيك ، قال : ارفع هذه الإنجانة وضعها ، يعني : البدرة ، تحتها . ففعلت وخرجنا . فلما كان من الليل ، إذا أم ولد
أبي عبد الله تدق علينا الحائط ، فقالت : مولاي يدعو عمه ، فأعلمت أبي ، وخرجنا ، فدخلنا على
أبي عبد الله ، وذلك في جوف الليل ، فقال : يا عم ، ما أخذني النوم ، قال : ولم ؟ .
قال : لهذا المال ، وجعل يتوجع لأخذه ، وأبي يسكنه ويسهل عليه . وقال : حتى تصبح وترى فيه رأيك . فإن هذا ليل ، والناس في المنازل ، فأمسك وخرجنا . فلما كان من السحر ، وجه إلى
عبدوس بن مالك ، وإلى ،
الحسن بن البزار فحضرا وحضر جماعة ، منهم :
هارون الحمال ،
nindex.php?page=showalam&ids=12289وأحمد بن منيع ،
وابن الدورقي ، وأبي ، وأنا ،
وصالح ،
وعبد الله . وجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل الستر والصلاح
ببغداد والكوفة . فوجه منها إلى
أبي كريب ،
وللأشج وإلى من يعلمون حاجته . ففرقها كلها ما بين الخمسين إلى المائة وإلى المائتين ، فما بقي في الكيس درهم .
فلما كان بعد ذلك ، مات الأمير
إسحاق بن إبراهيم وابنه
محمد . ثم ولي
بغداد عبد الله بن إسحاق ، فجاء رسوله إلى
أبي عبد الله ، فذهب إليه ، فقرأ عليه كتاب
المتوكل ، وقال له : يأمرك بالخروج يعني : إلى
سامراء .
[ ص: 269 ] فقال : أنا شيخ ضعيف عليل . فكتب
عبد الله بما رد عليه ، فورد جواب الكتاب : أن أمير المؤمنين يأمره بالخروج . فوجه
عبد الله أجنادا ، فباتوا على بابنا أياما ، حتى تهيأ
أبو عبد الله للخروج ، فخرج ومعه
صالح وعبد الله وأبي زميلة . وقال
صالح : كان حمل أبي إلى
المتوكل سنة سبع وثلاثين . ثم وإلى أن مات أبي قل يوم يمضي إلا ورسول
المتوكل يأتيه .
وقال
صالح : وجه
إسحاق إلى أبي : الزم بيتك ، ولا تخرج إلى جماعة ولا جمعة ، وإلا نزل بك ما نزل بك أيام
أبي إسحاق .
وقال
ابن الكلبي : أريد أن أفتش منزلك ومنزل ابنك . فقام
مظفر nindex.php?page=showalam&ids=12861وابن الكلبي ، وامرأتان معهما ، ففتشوا ، ودلوا شمعة في البئر ، ونظروا ثم خرجوا . فلما كان بعد يومين ، ورد كتاب
علي بن الجهم : أن أمير المؤمنين قد صح عنده براءتك . وذكر نحوا من رواية
حنبل .
قال
حنبل : فأخبرني أبي ، قال : دخلنا إلى العسكر ، فإذا نحن بموكب عظيم مقبل ، فلما حاذى بنا ، قالوا : هذا
وصيف ، وإذا بفارس قد أقبل ، فقال
لأبي عبد الله : الأمير
وصيف يقرئك السلام ، ويقول لك : إن الله قد أمكنك من عدوك ، يعني :
ابن أبي دواد ، وأمير المؤمنين يقبل منك ، فلا تدع شيئا إلا تكلمت به . فما رد عليه
أبو عبد الله شيئا . وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين ، ودعوت
لوصيف . ومضينا ، فأنزلنا في دار
[ ص: 270 ] إيتاخ ولم يعرف
أبو عبد الله ، فسأل بعد لمن هذه الدار ؟ قالوا : هذه دار
إيتاخ . قال : حولوني ، اكتروا لي دارا . قالوا : هذه دار أنزلكها أمير المؤمنين ، قال : لا أبيت هاهنا . ولم يزل حتى اكترينا له دارا . وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها
المتوكل والثلج والفاكهة وغير ذلك ، فما ذاق منها
أبو عبد الله شيئا ، ولا نظر إليها . وكان نفقة المائدة في اليوم مائة وعشرين درهما .
وكان
يحيى بن خاقان ، وابنه
عبيد الله ،
وعلي بن الجهم يختلفون إلى
أبي عبد الله برسالة
المتوكل . ودامت العلة
بأبي عبد الله ، وضعف شديدا .
وكان يواصل ، ومكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب ، ففي الثامن دخلت عليه ، وقد كاد أن يطفأ ، فقلت : يا
أبا عبد الله ،
ابن الزبير كان يواصل سبعة ، وهذا لك اليوم ثمانية أيام . قال : إني مطيق . قلت : بحقي عليك . قال : فإني أفعل . فأتيته بسويق فشرب .
ووجه إليه
المتوكل بمال عظيم ، فرده ، فقال له
عبيد الله بن يحيى : فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك . قال : هم مستغنون ، فردها عليه ، فأخذها
عبيد الله ، فقسمها على ولده ، ثم أجرى
المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف . فبعث إليه
أبو عبد الله : إنهم في كفاية ، وليست بهم حاجة . فبعث إليه
المتوكل : إنما هذا لولدك ، فما لك ولهذا ؟ فأمسك
أبو عبد الله ، فلم يزل يجري علينا حتى مات
المتوكل .
وجرى بين
أبي عبد الله وبين أبي كلام كثير . وقال : يا عم ، ما بقي من
[ ص: 271 ] أعمارنا . كأنك بالأمر قد نزل . فالله الله ، فإن أولادنا إنما يريدون أن يأكلوا بنا ، وإنما هي أيام قلائل ، له وإنما هذه فتنة . قال أبي : فقلت : أرجو أن يؤمنك الله مما تحذر . فقال : كيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم ؟ لو تركتموها ، لتركوكم . ماذا ننتظر ؟ إنما هو الموت . فإما إلى جنة ، وإما إلى نار . فطوبى لمن قدم على خير . قال : فقلت : أليس قد أمرت ما جاءك من هذا المال من غير إشراف نفس ، ولا مسألة أن تأخذه ؟ قال : قد أخذت مرة بلا إشراف نفس ، فالثانية والثالثة ؟ ألم تستشرف نفسك ؟ قلت : أفلم يأخذ
ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ؟ فقال : ما هذا وذاك ! وقال : لو أعلم أن هذا المال يؤخذ من وجهه ، ولا يكون فيه ظلم ولا حيف لم أبال .
قال
حنبل : ولما طالت علة
أبي عبد الله ، كان
المتوكل يبعث
بابن ماسويه المتطبب ، فيصف له الأدوية ، فلا يتعالج . ويدخل
ابن ماسويه ، فقال : يا أمير المؤمنين ليست
بأحمد علة ، إنما هو من قلة الطعام والصيام والعبادة ، فسكت
المتوكل .
وبلغ أم
المتوكل خبر
أبي عبد الله ، فقالت لابنها : أشتهي أن أرى هذا الرجل ، فوجه
المتوكل إلى
أبي عبد الله ، يسأله أن يدخل على ابنه
المعتز ، ويدعو له ويسلم عليه ، ويجعله في حجره . فامتنع ، ثم أجاب رجاء أن يطلق ، وينحدر إلى
بغداد ، فوجه إليه
المتوكل خلعة ، وأتوه بدابة يركبها إلى
المعتز ، فامتنع ، وكانت عليه ميثرة نمور . فقدم إليه بغل لتاجر ، فركبه ، وجلس
المتوكل مع أمه في مجلس من المكان ، وعلى المجلس ستر رقيق .
فدخل
أبو عبد الله على
المعتز ، ونظر إليه
المتوكل وأمه . فلما رأته ، قالت : يا بني ، الله الله في هذا الرجل ، فليس هذا ممن يريد ما عندكم ، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله ، فائذن له ليذهب ، فدخل
أبو عبد الله على
[ ص: 272 ] المعتز ، فقال : السلام عليكم ، وجلس ، ولم يسلم عليه بالإمرة . فسمعت
أبا عبد الله بعد يقول : لما دخلت عليه ، وجلست ، قال مؤدبه : أصلح الله الأمير ، هذا هو الذي أمره أمير المؤمنين يؤدبك ويعلمك ؟ فقال الصبي : إن علمني شيئا ، تعلمته ! قال
أبو عبد الله : فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره ، وكان صغيرا .
ودامت علة
أبي عبد الله ، وبلغ
المتوكل ما هو فيه ، وكلمه
يحيى بن خاقان أيضا ، وأخبره أنه رجل لا يريد الدنيا ، فأذن له في الانصراف . فجاء
عبيد الله بن يحيى وقت العصر ، فقال : إن أمير المؤمنين قد أذن لك ، وأمر أن يفرش لك حراقة تنحدر فيها . فقال
أبو عبد الله : اطلبوا لي زورقا أنحدر الساعة . فطلبوا له زورقا ، فانحدر لوقته .
قال
حنبل : فما علمنا بقدومه حتى قيل : إنه قد وافى ، فاستقبلته بناحية القطيعة . وقد خرج من الزورق ، فمشيت معه ، فقال لي : تقدم لا يراك الناس فيعرفوني ، فتقدمته . قال : فلما وصل ألقى نفسه على قفاه من التعب والعياء .
وكان ربما استعار الشيء من منزلنا ومنزل ولده ، فلما صار إلينا من مال السلطان ما صار ، امتنع من ذلك حتى لقد وصف له في علته قرعة تشوى ، فشويت في تنور
صالح ، فعلم ، فلم يستعملها . ومثل هذا كثير .
[ ص: 273 ]
وقد ذكر
صالح قصة خروج أبيه إلى العسكر ورجوعه ، وتفتيش بيوتهم على العلوي ، وورود
يعقوب بالبدرة وأن بعضها كان مائتي دينار ، وأنه بكى ، وقال : سلمت منهم ، حتى إذا كان في آخر عمري ، بليت بهم .
عزمت عليك أن تفرقها غدا ، فلما أصبح ، جاءه
حسن بن البزار ، فقال : جئني يا
صالح بميزان ، وجهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار ، وإلى فلان ، حتى فرق الجميع ، ونحن في حالة ، الله بها عليم . فجاءني ابن لي فطلب درهما ، فأخرجت قطعة ، فأعطيته . فكتب صاحب البريد : إنه تصدق بالكل ليومه حتى بالكيس .
قال
علي بن الجهم : فقلت : يا أمير المؤمنين ، قد تصدق بها ، وعلم الناس أنه قد قبل منك ، وما يصنع
أحمد بالمال ؟ ! وإنما قوته رغيف . قال : صدقت .
قال
صالح : ثم أخرج أبي ليلا ومعنا حراس ، فلما أصبح ، قال : أمعك دراهم ؟ قلت : نعم . قال : أعطهم . وجعل
يعقوب يسير معه ، فقال له : يا
أبا عبد الله ،
ابن الثلجي بلغني أنه كان يذكرك . قال : يا
أبا يوسف ، سل الله العافية . قال : يا
أبا عبد الله ، تريد أن نؤدي عنك رسالة إلى أمير المؤمنين ؟ فسكت ، فقال : إن
عبد الله بن إسحاق أخبرني أن
الوابصي قال له : إني أشهد عليه أنه قال : إن
أحمد يعبد ماني ! فقال : يا
أبا [ ص: 274 ] يوسف يكفي الله ، فغضب
يعقوب ، والتفت إلي فقال : ما رأيت أعجب مما نحن فيه ، أسأله أن يطلق لي كلمة أخبر بها أمير المؤمنين ، فلا يفعل !!
قال : ووجه
يعقوب إلى
المتوكل بما عمل ، ودخلنا العسكر ، وأبي منكس الرأس ، ورأسه مغطى . فقال له
يعقوب : اكشف رأسك ، فكشفه .
ثم جاء
وصيف يريد الدار ، ووجه إلى أبي
بيحيى بن هرثمة ، فقال : يقرئك أمير المؤمنين السلام ، ويقول : الحمد لله الذي لم يشمت بك أهل البدع ، قد علمت حال
ابن أبي دواد ، فينبغي أن تتكلم فيه بما يجب لله . ومضى
يحيى ، وأنزل أبي في دار
إيتاخ ، فجاء
علي بن الجهم ، وقال : قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان التي فرقها ، وأن لا يعلم شيخكم بذلك فيغتم . ثم جاءه
محمد بن معاوية ، فقال : إن أمير المؤمنين يكثر ذكرك ، ويقول : تقيم هنا تحدث . فقال : أنا ضعيف .
وصار إليه
يحيى بن خاقان ، فقال : يا
أبا عبد الله ، قد أمر أمير المومنين أن آتيك لتركب إلى ابنه
المعتز . وقال لي : أمرني ، أمير المؤمنين يجري عليه وعلى قرابتكم أربعة آلاف ثم عاد
يحيى من الغد ، فقال : يا
أبا عبد الله ، تركب ؟ قال : ذاك إليكم ، ولبس إزاره وخفه ، وكان للخف عنده خمسة عشر عاما [ قد رقع ] برقاع [ عدة ] . فأشار يحيى أن يلبس قلنسوة . قلت : ما له قلنسوة . . . إلى أن قال : فدخل دار
المعتز ، وكان
[ ص: 275 ] قاعدا على مصطبة في الدار . فصعد وقعد ، فقال له
يحيى : يا
أبا عبد الله ، إن أمير المؤمنين جاء بك ليسر بقربك ، ويصير ابنه
عبد الله في حجرك . فأخبرني بعض الخدام أن
المتوكل كان قاعدا وراء ستر ، فقال لأمه : يا أمه ، قد أنارت الدار . ثم جاء خادم بمنديل ، فأخذ
يحيى المنديل ، وذكر قصة في إلباس
أبي عبد الله القميص والقلنسوة والطيلسان ، وهو لا يحرك يده; ثم انصرف .
وقد كانوا تحدثوا أنه يخلع عليه سوادا . فلما جاء ، نزع الثياب ، وجعل يبكي ، وقال : سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة ، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم . ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام ، فكيف بمن يجب علي نصحه ؟! يا
صالح : وجه بهذه الثياب إلى
بغداد تباع ، ويتصدق بثمنها ، ولا يشتري أحد منكم منها شيئا ، فوجهت بها إلى
يعقوب بن بختان فباعها ، وفرق ثمنها ، وبقيت عندي القلنسوة .