النوري
وهو أحمد بن محمد الخراساني البغوي الزاهد ، شيخ الطائفة
بالعراق ، وأحذقهم بلطائف الحقائق ، وله عبارات دقيقة ، يتعلق بها من انحرف من الصوفية ، نسأل الله العفو .
صحب
السري السقطي وغيره ، وكان
الجنيد يعظمه ; لكنه في الآخر رق له وعذره لما فسد دماغه .
[ ص: 71 ] وقد ساح
النوري إلى
الشام ، وأخذ عن
أحمد بن أبي الحواري ، وقد جرت له محنة ، وفر عن
بغداد في قيام غلام خليل على الصوفية ، فأقام
بالرقة مدة متخليا منعزلا . حكى ذلك
أبو سعيد بن الأعرابي ، قال : ثم عاد إلى
بغداد وقد فقد جلاسه وأناسه وأشكاله ، فانقبض لضعف قوته ، وضعف بصره .
وقال
أبو نعيم : سمعت
عمر البناء البغدادي بمكة يحكي محنة
غلام خليل ، قال : نسبوا
الصوفية إلى الزندقة ، فأمر الخليفة
المعتمد في سنة أربع وستين ومائتين بالقبض عليهم ، فأخذ في جملتهم
النوري ، فأدخلوا على الخليفة ، فأمر بضرب أعناقهم ، فبادر
النوري إلى السياف ، فقيل له في ذلك ، فقال : آثرت حياتهم على نفسي ساعة ، فتوقف السياف عن قتله ، ورفع أمره إلى الخليفة ، فرد الخليفة أمرهم إلى قاضي القضاة
إسماعيل بن إسحاق ، فسأل
أبا الحسين النوري عن مسائل في العبادات ، فأجاب ، ثم قال : وبعد هذا ، فلله عباد ينطقون بالله ، ويأكلون بالله ، ويسمعون بالله . فبكى
إسماعيل القاضي ، وقال : إن كان هؤلاء القوم زنادقة ، فليس في الأرض موحد . فأطلقوهم .
أبو نعيم سمعت
أبا الفرج الورثاني ، سمعت
علي بن عبد الرحيم يقول : دخلت على
النوري ، فرأيت رجليه منتفختين ، فسألته عن أمره ، فقال : طالبتني نفسي بأكل تمر ، فدافعتها ، فأبت علي فاشتريته ، فلما أكلت ، قلت : قومي فصلي ، فأبت ، فقلت : لله علي إن قعدت على الأرض أربعين يوما ، فما قعدت - يعني إلا في صلاة .
[ ص: 72 ] وعن
النوري قال : من رأيته يدعي مع الله حالة تخرج عن الشرع ، فلا تقربن منه .
قال
أبو العباس بن عطاء : سمعت
أبا الحسين النوري يقول : كان في نفسي من هذه الكرامات ، فأخذت من الصبيان قصبة ، ثم قمت بين زورقين وقلت : وعزتك لئن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي .
قال : فخرجت لي سمكة ثلاثة أرطال . قال : فبلغ ذلك
الجنيد ، فقال كان حكمه أن تخرج له أفعى فتلدغه .
وعن
النوري قال : سبيل الفانين الفناء في محبوبهم ، وسبيل الباقين البقاء ببقائه ، ومن ارتفع عن الفناء والبقاء ، فحينئذ لا فناء ولا بقاء .
عن
القناد قال : كتبت إلى
النوري وأنا حدث :
إذا كان كل المرء في الكل فانيا أبن لي عن أي الوجودين يخبر
فأجاب لوقته :
إذا كنت فيما ليس بالوصف فانيا فوقتك في الأوصاف عندي تحير
قلت : هذا يحتاج إلى شرح طويل ، وتحرز عن الفناء الكلي ، ومرادهم بالفناء ، فناء الأوصاف النفسانية ونحوها ، ونسيانها بالاشتغال بالله -تعالى- وبعبادته ; فإن ذات العارف وجسده لا ينعدم ما عاش ، والكون وما حوى فمخلوق ، والله خالق كل شيء ومبدعه ، أعاذنا الله وإياكم من قول
[ ص: 73 ] الاتحاد ; فإنه زندقة .
قال
فارس الحمال : رأيت
النوري خرج من البادية ، ولم يبق منه إلا خاطره ، فقال له رجل : هل يلحق الأسرار ما يلحق الصفات ؟ -يريد الضنا الذي رأى به- فقال : إن الله أقبل على الأسرار فحملها ، وأعرض عن الصفات فمحقها ، ثم أنشأ يقول :
أهكذا صيرني أزعجني عن وطني
! حتى إذا غبت به وإذ بدا غيبني
واصلني . . حتى إذا واصلته قاطعني
يقول لا تشهد ما تشهد أو تشهدني
قال : ولما مات
النوري قال
الجنيد : ذهب نصف العلم بموته .
وقيل : قال
النوري للجنيد : غششتهم فصدروك ، ونصحت لهم فرموني بالحجارة .
قيل : كان
النوري يلهج بفناء صفات العارف ، فكان ذلك أبو جاد فناء ذات العارف كما زعمت
الاتحادية ، فقالوا بتعميم فناء السوى ، وقالوا : ما في الكون سوى الله ، وصرحوا بأنه -تعالى- اتحد لخلقه ، وأنت أنا ، وأنا أنت ، وأنشدوا :
[ ص: 74 ] وألتذ إن مرت على جسدي يدي لأني في التحقيق لست سواكم
فنعوذ بالله من الضلال .
قال
ابن الأعرابي : مضيت يوما ، أنا
ورويم وأبو بكر العطار نمشي على شاطئ نهر ، فإذا نحن برجل في مسجد بلا سقف ، فقال
رويم : ما أشبه هذا
بأبي الحسين النوري ! فملنا إليه ، فإذا هو هو ، فسلمنا وعرفنا ، وذكر . أنه ضجر من
الرقة فانحدر ، وأنه الآن قدم ولا يدري أين يتوجه ، وكان قد غاب عن
بغداد أربع عشرة سنة ، فعرضنا عليه مسجدنا ، فقال : لا أريد موضعا فيه
الصوفية ، قد ضجرت منهم ، فلم نزل نطلب إليه حتى طابت نفسه . وكانت السوداء قد غلبت عليه ، وحديث النفس ، ثم ضعف بصره ، وانكسر قلبه ، وفقد إخوانه ، فاستوحش من كل أحد .
ثم إنه تأنس وسألنا عن
نصر بن رجاء ،
وعثمان ، وكانا صديقين له ; إلا أن
نصرا تنكر له ، فقال : ما أخاف
بغداد إلا من
نصر . فعرفناه أنه بخلاف ما فارقه ، فجاء معنا إلى
نصر ، فلما دخل مسجده ، قام
نصر وما أبقى في إكرامه غاية ، وبتنا عنده .
ولما كان يوم الجمعة ، ركبنا مع
نصر زورقا من زوارقه إلى مكان ، وصعدنا إلى
الجنيد ، فقام القوم وفرحوا ، وأقبل عليه
الجنيد ، يذاكره ويمازحه ، فسأله
ابن مسروق مسألة ، فقال : عليكم
بأبي القاسم ، فقال
الجنيد : أجب يا
أبا الحسين ; فإن القوم أحبوا أن يسمعوا جوابك . قال : أنا قادم وأنا أحب أن أسمع ، فتكلم
الجنيد والجماعة ،
والنوري ساكت . فعرضوا له ليتكلم ، فقال : قد لقبتم ألقابا لا أعرفها ، وكلاما غير ما كنت أعهد ، فدعوني حتى أسمع ، وأقف على مقصودكم ، فسألوه عن الفرق الذي بعد الجمع : ما علامته ؟ وما الفرق بينه وبين الفرق الأول ؟ - لا أدري سألوه بهذا اللفظ أو بمعناه .
[ ص: 75 ] وكنت قد لقيته
بالرقة سنة سبعين ومائتين ، فسألني عن
الجنيد ، فقلت : إنهم يشيرون إلى شيء يسمونه الفرق الثاني والصحو . فقال : اذكر لي شيئا منه . فذكرته ، فضحك وقال : ما يقول
ابن الخلنجي ؟ قلت : ما يجالسهم .
قال :
فأبو أحمد القلانسي ؟ قلت : مرة يخالفهم ، ومرة يوافقهم . قال : فما تقول أنت ؟ قلت : ما عسى أن أقول أنا ؟ ثم قلت : أحسب أن هذا الذي يسمونه فرقا ثانيا هو عين من عيون الجمع ، يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع . فقال : هو كذاك ، أنت إنما سمعت هذا من
القلانسي . فقلت : لا .
فلما قدمت
بغداد حدثت
أبا أحمد القلانسي بذلك ، فأعجبه قول
النوري . وأما
أبو أحمد فكان ربما يقول : هو صحو وخروج عن الجمع ، وربما قال : بل هو شيء من الجمع . ثم إن
النوري شاهدهم فقال : ليس هو عين من عيون الجمع ، ولا هو صحو من الجمع ، ولكنهم رجعوا إلى ما يعرفون ، ثم بعد ذلك ذكر
رويم وابن عطاء أن
النوري يقول الشيء وضده ، ولا نعرف هذا إلا قول سوفسطا ومن قال بقوله . وكان بينهم وحشة ، وكان يكثر منهم التعجب ، وقالوا
للجنيد فأنكر عليهم وقال : لا تقولوا مثل هذا
لأبي الحسين ، ولكنه رجل لعله قد تغير دماغه .
ثم إن
أبا الحسين انقبض عن جمعهم ، وجفاهم ، وغلبت عليه العلة ، وعمي ، ولزم الصحاري ، والمقابر ، وكانت له في ذلك أحوال يطول شرحها ، وسمعت جماعة يقولون : من رأى
النوري بعد قدومه من
الرقة ، ولم يكن رآه قبلها فكأنه لم يره لتغيره ، رحمه الله .
[ ص: 76 ] قال
ابن جهضم : حدثني
أبو بكر الجلاء ، قال : كان
النوري إذا رأى منكرا غيره ، ولو كان فيه تلفه . نزل يوما ، فرأى زورقا فيه ثلاثون دنا ، فقال للملاح : ما هذا ؟ قال : ما يلزمك ؟ فألح عليه ، فقال : أنت -والله- صوفي كثير الفضول ، هذا خمر
للمعتضد ، قال : أعطني ذلك المدرى . فاغتاظ وقال لأجيره : ناوله حتى أبصر ما يصنع ، فأخذه ، ونزل فكسرها كلها غير دن ، فأخذ وأدخل إلى
المعتضد ، فقال : من أنت ويلك ؟ قال : محتسب . قال : ومن ولاك الحسبة ؟ قال : الذي ولاك الإمامة يا أمير المؤمنين ! فأطرق وقال : ما حملك على فعلك ؟ قال : شفقة مني عليك ! قال : كيف سلم هذا الدن ؟ فذكر أنه كان يكسر الدنان ونفسه مخلصة خاشعة ، فلما وصل إلى هذا الدن أعجبته نفسه ، فارتاب فيها ، فتركه .
عن
أبي أحمد المغازلي ، قال : ما رأيت أحدا قط أعبد من
النوري . قيل : ولا
الجنيد؟ ؟ قال : ولا
الجنيد .
وقيل : إن
الجنيد مرض مرة فعاده
النوري ، فوضع يده عليه ، فعوفي لوقته .
توفي
النوري قبل
الجنيد ، وذلك في سنة خمس وتسعين ومائتين وقد شاخ -رحمه الله- ، وقد مر موت
الجنيد في سنة ثمان وتسعين . قال
أبو بكر العطوي : كنت عند
الجنيد لما احتضر ، فختم القرآن ثم ابتدأ سورة البقرة ، فتلا سبعين آية ومات .
قال
الخلدي : رأيته في النوم فقلت : ما فعل الله بك ؟ فقال : طاحت
[ ص: 77 ] تلك الإشارات ، وغابت تلك العبارات ، وفنيت تلك العلوم ، ونفدت تلك الرسوم ، وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12915أبو الحسين بن المنادي : ذكر لي أنهم حزروا الجمع يوم جنازة
الجنيد ، الذين صلوا عليه نحو ستين ألفا ، وما زالوا ينتابون قبره في كل يوم نحو الشهر ، ودفن عند
السري السقطي .
قلت : غلط من ورخه في سنة سبع وتسعين ، والله أعلم .