صفحة جزء
المهدي وذريته

عبيد الله أبو محمد ، أول من قام من الخلفاء الخوارج العبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام ، وأعلنوا بالرفض ، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية وبثوا الدعاة ، يستغوون الجبلية والجهلة .

وادعى هذا المدبر أنه فاطمي من ذرية جعفر الصادق فقال : أنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد .

وقيل : بل قال : أنا عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق .

وقيل : لم يكن اسمه عبيد الله ; بل إنما هو سعيد بن أحمد ، وقيل : سعيد بن الحسين .

[ ص: 142 ] وقيل : كان أبوه يهوديا .

وقيل : من أولاد ديصان الذي ألف في الزندقة .

وقيل : لما رأى اليسع صاحب سجلماسة الغلبة ، دخل فذبح المهدي ، فدخل أبو عبد الله الشيعي ، فرآه قتيلا وعنده خادم له ، فأبرز الخادم ، وقال للناس : هذا إمامكم .

والمحققون على أنه دعي ; بحيث إن المعز منهم لما سأله السيد ابن طباطبا عن نسبه ، قال : غدا أخرجه لك . ثم أصبح وقد ألقى عرمة من الذهب ، ثم جذب نصف سيفه من غمده ، فقال : هذا نسبي . وأمرهم بنهب الذهب ، وقال : هذا حسبي .

[ ص: 143 ] وقد صنف ابن الباقلاني وغيره من الأئمة في هتك مقالات العبيدية وبطلان نسبهم ، فهذا نسبهم ، وهذه نحلتهم ، وقد سقت في حوادث " تاريخنا " من أحوال هؤلاء وأخبارهم في تفاريق السنين عجائب .

وكان هذا من أهل سلمية له غور ، وفيه دهاء ومكر ، وله همة علية ، فسرى على أنموذج علي بن محمد الخبيث صاحب الزنج الذي خرب البصرة وغيرها ، وتملك بضع عشرة سنة ، وأهلك البلاد والعباد ، وكان بلاء على الأمة ، فقتل سنة سبعين ومائتين .

فرأى عبيد الله أن ما يرومه من الملك لا ينبغي أن يكون ظهوره بالعراق ولا بالشام ، فبعث أولا له داعيين شيطانين داهيتين ، وهما الأخوان أبو عبد الله الشيعي وأخوه أبو العباس ، فظهر أحدهما باليمن ، والآخر بإفريقية ، وأظهر كل منهما الزهد والتأله ، وأدبا أولاد الناس ، وشوقا إلى الإمام المهدي .

[ ص: 144 ] ولهم البلاغات السبعة : فالأول للعوام وهو الرفض ، ثم البلاغ الثاني للخواص ، ثم البلاغ الثالث لمن تمكن ، ثم الرابع لمن استمر سنتين ، ثم الخامس لمن ثبت في المذهب ثلاث سنين ، ثم السادس لمن أقام أربعة أعوام ، ثم الخطاب بالبلاغ السابع هو الناموس الأعظم .

قال محمد بن إسحاق النديم : قرأته فرأيت فيه أمرا عظيما من إباحة المحظورات ، والوضع من الشرائع وأصحابها ، وكان في أيام معز الدولة ظاهرا شائعا ، والدعاة منبثون في النواحي ، ثم تناقص .

قلت : ثم استحكم أمر أبي عبد الله بالمغرب ، وتبعه خلق من البربر ، ثم لحق به أخوه ، وعظم جمعه ، حتى حارب متولي المغرب وقهره ، وجرت له أمور طويلة في أزيد من عشرة أعوام .

فلما سمع عبيد الله بظهور داعيه سار بولده في زي تجار ، والعيون عليهما إلى أن ظفر بهما متولي الإسكندرية فسر بهما ، وكاشر لهما التشيع فيه فدخلا المغرب فظفر بهما أمير المغرب فسجنهما ، ولم يقرا له بشيء ثم التقى هو وأبو عبد الله الشيعي ، فانتصر أبو عبد الله ، وتملك البلاد ، وأخرج المهدي من السجن ، وقبل يده وقال لقواده : هذا إمامنا . فبايعه الملأ .

[ ص: 145 ] ووقع بعد بينه وبين داعييه لكونه ما أنصفهما ، ولا جعل لهما كبير منصب ، فشككا فيه خواصهما ، وتفرقت كلمة الجنود ، ووقع بينهم مصاف فانتصر عبيد الله ، وذبح الأخوين ودانت له الأمم ، وأنشأ مدينة المهدية ولم يتوجه لحربه جيش لبعد الشقة ولوهن شأن الخلافة بإمارة المقتدر وجهز من المغرب ولده ليأخذ مصر ، فلم يتم له ذلك .

قال أبو الحسن القابسي ، صاحب الملخص إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة ، فاختاروا الموت ، فقال سهل الشاعر :

وأحل دار النحر في أغلاله من كان ذا تقوى وذا صلوات

ودفن سائرهم في المنستير وهو بلسان الفرنج : المعبد الكبير .

وكانت دولة هذا بضعا وعشرين سنة .

حكى الوزير القفطي في سيرة بني عبيد ، قال : كان أبو عبد الله الشيعي أحد الدواهي ; وذلك أنه جمع مشايخ كتامة ليشككهم في الإمام ، [ ص: 146 ] فقال : إن الإمام كان بسلمية قد نزل عند يهودي عطار يعرف بعبيد ، فقام به وكتم أمره ، ثم مات عبيد عن ولدين ، فأسلما هما وأمهما على يد الإمام ، وتزوج بها ، وبقي مختفيا ، وبقي الأخوان في دكان العطر ، فولدت للإمام ابنين ، فعند اجتماعي به سألته : أي الاثنين إمامي بعدك ؟ فقال : من أتاك منهما فهو إمامك .

فسيرت أخي لإحضارهما ، فوجد أباهما قد مات هو وابنه الواحد ، فأتى بهذا ، وقد خفت أن يكون أحد ولدي عبيد .

فقالوا : وما أنكرت منه ؟ قال : إن الإمام يعلم الكائنات قبل وقوعها . وهذا قد دخل معه بولدين ، ونص الأمر في الصغير بعده ، ومات بعد عشرين يوما -يعني الولد- ولو كان إماما لعلم بموته ، قالوا : ثم ماذا ؟ قال : والإمام لا يلبس الحرير والذهب ، وهذا قد لبسهما ، وليس له أن يطأ إلا ما تحقق أمره ، وهذا قد وطئ نساء زيادة الله يعني متولي المغرب - ، قال : فشككت كتامة في أمره ، وقالوا : فما ترى ؟ قال : قبضه ثم نسير من يكشف لنا عن أولاد الإمام على الحقيقة . فأجمعوا أمرهم ، وخف كبير كتامة ، فواجه المهدي ، وقال : قد شككنا فيك ، فأت بآية . فأجابه بأجوبة قبلها عقله .

وقال : إنكم تيقنتم ، واليقين لا يزول إلا بيقين لا بشك ، وإن الطفل لم يمت ، وإنه إمامك ، وإنما الأئمة ينتقلون ، وقد انتقل لإصلاح جهة أخرى . قال : آمنت ، فما لبسك الحرير ؟ قال : أنا نائب الشرع أحلل لنفسي ما أريد ، وكل الأموال لي ، وزيادة الله كان عاصيا .

وأما عبد الله الشيعي وأخوه ، فإنهما أخذا يخببان عليه فقتلهما .

[ ص: 147 ] وخرج عليه خلق من كتامة ، فظفر بحيلة وقتلهم .

وخرج عليه أهل طرابلس ، فجهز ولده القائم ، فافتتحها عنوة ، وافتتح برقة ثم فتح صقلية وجهز القائم مرتين لأخذ مصر ، ويرجع مهزوما وبنى المهدية في سنة ثمان وثلاثمائة .

وخلف ستة بنين ، وسبع بنات ، وآخرهم وفاة أحمد ; عاش إلى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة بمصر .

وفي أيام المهدي عاثت القرامطة بالبحرين ، وأخذوا الحجيج ، وقتلوا وسبوا ، واستباحوا حرم الله ، وقلعوا الحجر الأسود . وكان عبيد الله يكاتبهم ويحرضهم ، قاتله الله .

وقد ذكرت في " تاريخ الإسلام " أن في سنة سبعين ومائتين ظهرت دعوة المهدي باليمن ، وكان قد سير داعيين أبا القاسم بن حوشب الكوفي وأبا الحسين ، وزعم أنه ابن محمد بن إسماعيل بن الصادق جعفر بن محمد .

ونقل المؤيد الحموي في " تاريخه " أن المهدي اسمه فيما [ ص: 148 ] كان قيل : سعيد بن الحسين ، وأن أباه الحسين قدم سلمية ، فوصفت له امرأة يهودي حداد قد مات عنها فتزوجها الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله القداح هذا ، وكان لها ولد من اليهودي ، فأحبه الحسين وأدبه ، ولما احتضر عهد إليه بأمور ، وعرفه أسرار الباطنية ، وأعطاه أموالا ، فبث له الدعاة .

وقد اختلف المؤرخون ، وكثر كلامهم في قصة عبيد الله القداح بن ميمون بن ديصان ; فقالوا : إن ديصان هذا هو صاحب " كتاب الميزان " في الزندقة ، وكان يتولى أهل البيت ، وقال : ونشأ لميمون بن ديصان ابنه عبد الله ، فكان يقدح العين ، وتعلم من أبيه حيلا ومكرا .

سار عبد الله في نواحي أصبهان ، وإلى البصرة . ثم إلى سلمية يدعو إلى أهل البيت ، ثم مات ، فقام ابنه أحمد بعده ، فصحبه رستم بن حوشب النجار الكوفي ، فبعثه أحمد إلى اليمن يدعو له ، فأجابوه ، فسار إليه أبو عبد الله الشيعي من صنعاء -وكان بعدن - فصحبه ، وصار من كبراء أصحابه .

وكان لأبي عبد الله هذا دهاء وعلوم وذكاء ، وبعث ابن حوشب دعاة إلى المغرب ، فأجابته كتامة ، فنفذ ابن حوشب إليهم أبا عبد الله ومعه ذهب كثير في سنة ثمانين ومائتين ، فصار من أمره ما صار .

فهذا قول ، ونرجع إلى قول آخر هو أشهر ، فسير -أعني والد المهدي - أبا عبد الله الشيعي ، فأقام باليمن أعواما ، ثم حج ، فصادف طائفة من كتامة حجاجا ، فنفق عليهم ، وأخذوه إلى المغرب فأضلهم وكان [ ص: 149 ] يقول : إن لظواهر الآيات والأحاديث بواطن هي كاللب ، والظاهر كالقشر ، وقال : لكل آية ظهر وبطن ، فما وقف على علم الباطن فقد ارتقى عن رتبة التكاليف .

وكان أبو عبد الله ذا مكر ودهاء وحيل وربط ، وله يد في العلم ، فاشتهر بالقيروان ، وبايعته البربر ، وتألهوه لزهده ، فبعث إليه متولي إفريقية يخوفه ويهدده ، فما ألوى عليه ، فلما هم بقبضه استنهض الذين تبعوه ، وحارب فانتصر مرات ، واستفحل أمره ، فصنع صاحب إفريقية صنع محمد بن يعفر صاحب اليمن ، فرفض الإمارة ، وأظهر التوبة ، ولبس الصوف ، ورد المظالم ، ومضى غازيا نحو الروم ، فتملك بعده ابنه أبو العباس بن إبراهيم بن أحمد ، ووصل الأب إلى صقلية ، ومنها إلى طبرمين فافتتحها ، ثم مات مبطونا في ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين ، كانت دولته ثمانيا وعشرين سنة ، ودفن بصقلية .

وشهر الشيعي بالمشرق ، وكثرت جيوشه ، وزاد الطلب لعبيد الله ، فسار بابنه وهو صبي ومعهما أبو العباس أخو الداعي الشيعي ، فتحيلوا حتى وصلوا إلى طرابلس المغرب ، وتقدمهما أبو العباس إلى القيروان ، وبالغ زيادة الله الأغلبي في تطلبهما ، فوقع بأبي العباس فقرره ، فأصر على الإنكار ، فحبسه برقادة .

وعرف بذلك المهدي ، فعدل إلى سجلماسة ، وأقام بها يتجر ، فعلم به زيادة الله ، وقبض متولي البلد على المهدي وابنه ، ثم [ ص: 150 ] التقى زيادة الله والشيعي غير مرة ، وينتصر الشيعي ، وانهزم من السجن أبو العباس ، ثم أمسك .

وأما زيادة الله فأيس من المغرب ، ولحق بمصر ، وأقبل الشيعي وأخوه في جمع كثير ، فقصدا سجلماسة ، فبرز لهما متوليها اليسع ، فانهزم جيشه في سنة ست وتسعين ومائتين ، وأخرج الشيعي عبيد الله وابنه ، واستولى على البلاد ، وتمهدت له المغرب .

ثم سار في أربعين ألفا برا وبحرا يقصد مصر ، فنزل لبدة ، وهي على أربعة مراحل من الإسكندرية ، ففجر تكين الخاصة عليهم النيل ، فحال الماء بينهم وبين مصر .

قال المسبحي فكانت وقعة برقة ، فسلمها المنصور وانهزم إلى مصر .

وفيها سار حباسة الكتامي في عسكر عظيم طليعة بين يدي ابن المهدي ، فوصل إلى الجيزة ، فتاه على المخاضة ، وبرز إليه عسكر ومنعوه ، وكان النيل زائدا ، فرجع جيش المهدي وعاثوا وأفسدوا .

[ ص: 151 ] ثم قصدوا مصر في سنة ست وثلاثمائة مع القائم ، فأخذ الإسكندرية ، وكثيرا من الصعيد ، ثم رجع ، ثم أقبلوا في سنة ثمان وملكوا الجيزة .

وفي نسب المهدي أقوال حاصلها أنه ليس بهاشمي ولا فاطمي .

وكان موته في نصف ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ، وله اثنتان وستون سنة ، وكانت دولته خمسا وعشرين سنة وأشهرا .

وقام بعده ابنه القائم .

نقل القاضي عياض في ترجمة أبي محمد الكستراتي أنه سئل عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل ؟ فقال : يختار القتل ولا يعذر ، ويجب الفرار ; لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز .

قال القاضي عياض : أجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة .

وقيل : إن عبيد الله تملك المغرب ، فلم يكن يفصح بهذا المذهب إلا للخواص ، فلما تمكن أكثر القتل جدا ، وسبى الحريم ، وطمع في أخذ مصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية