المستنصر بالله
صاحب
مصر ، المستنصر بالله ، أبو تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله علي بن الحاكم أبي علي منصور بن العزيز بن المعز ، العبيدي المصري .
ولي الأمر بعد أبيه ، وله سبع سنين ، وذلك في شعبان سنة سبع وعشرين ، فامتدت أيامه ستين سنة وأربعة أشهر . .
وفي وسط دولته خطب له بإمرة المؤمنين على منابر
العراق في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ، والتجأ
القائم بأمر الله الخليفة إلى أمير العرب فأجاره ، ثم بعد عام عاد إلى خلافته .
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم قد هدم
القمامة التي
بالقدس ، فأذن
المستنصر لطاغية
الروم أن يجددها ، وهادنه على إطلاق خمسة آلاف أسير مسلمين ، وغرم أموالا على عمارتها .
[ ص: 187 ] وفي خلافته ظهر
بمصر سنة أربع وثلاثين
سكين الذي كان يشبه
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم ، فادعى أنه هو ، وقد خرج من الغيبة ، فتبعه خلق من الغوغاء ممن يعتقدون رجعة
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم ، وقصدوا القصر ، فثارت الفتنة ، ثم أسر هذا ، وصلب هو وجماعة
بالقاهرة .
وفي سنة 34 جهز جيشا لمحاربة صاحب
حلب ثمال بن مرداس .
وفي سنة أربعين خلع
المعز بن باديس متولي
القيروان للعبيدية طاعتهم ، وأقام الدعوة
لبني العباس ، وقطع دعوة
المستنصر فبعث إليه يتهدده ، فما التفت ، فجهز لحربه عسكرا من العرب فحاربوه ، وهم
بنو زغبة وبنو رياح وجرت خطوب يطول شرحها .
وفي هذا الوقت غزت
الغز مع
إبراهيم ينال السلجوقي ، وقيل : ما كان معهم ، فغزوا إلى قريب
القسطنطينية ، وغنموا وسبوا أزيد من مائة ألف ، وقيل : جرت المكاسب على عشرة آلاف عجلة . وكان فتحا عظيما .
وفيها صرف
المستنصر عن نيابة
دمشق ناصر الدولة ، وسيفها
ابن حمدان بطارق الصقلبي ثم عزل
طارقا بعد أشهر ، ثم لم يطول ، فعزل
[ ص: 188 ] برفق المستنصري ووزر معه
أبو محمد الماشلي .
وكان الرفض أيضا قويا
بالعراق .
وفي سنة ست وأربعين ملكت
العرب المصريون مدينة
طرابلس ، وملكوا
مؤنس بن يحيى المرداسي ، وحاصروا المدائن ، ونهبوا القرى ، وحل بالناس أعظم بلاء ، فبرز
ابن باديس في ثلاثين ألفا ، وكانت العرب ثلاثة آلاف فالتقوا ، وثبت الجمعان ، ثم انكسر
ابن باديس ، واستحر القتل بجيشه ، وحازت العرب الخيل والخيام بما حوت .
وإن ابن باديس لأفضل مالك ولكن لعمري ما لديه رجال ثلاثون ألفا منهم هزمتهم
ثلاثة ألف ، إن ذا لمحال
ثم قصدهم
ابن باديس وهجم عليه ، فانكسر أيضا ، وقتل عسكره ، فساق على
حمية ، وحاصرت العرب
القيروان ، وتحيز
المعز بن باديس إلى
المهدية ، وجرت حروب تشيب النواصي في هذه الأعوام .
وفي سنة 48 كان
بالأندلس القحط الذي ما سمع بمثله ، ويسمونه الجوع الكبير .
وكان
بمصر القحط والفناء .
وفي سنة تسع تسلم نواب
المستنصر حلب .
[ ص: 189 ] وكان غلاء مفرط
ببغداد وفناء وأما
بما وراء النهر فتجاوز الوصف .
وفي سنة خمسين جاء من
مصر ناصر الدولة الحمداني على إمرة
دمشق .
وفي سنة خمس وخمسين ولي
دمشق أمير الجيوش بدر .
وفي سنة سبع تمت ملحمة كبرى
بالمغرب بين
تميم بن المعز بن باديس ، وبين قرابته
الناصر الذي بنى
بجاية وانهزم
الناصر ، وقتل من
البربر أربعة وعشرون ألفا وفيها بنيت
بجاية وببغداد النظامية .
وفي سنة إحدى وستين كان حريق
جامع دمشق ، ودثرت محاسنه ، واحترقت
الخضراء معه -وكانت دار الملك- من حرب وقع بين عسكر
العراق ، وعسكر
مصر .
[ ص: 190 ] وفي سنة اثنتين وستين قطعت من
مكة الدعوة المستنصرية ، وخطب
للقائم بأمر الله ، وترك الأذان " بحي على خير العمل " وذلك لذلة المصريين بالقحط الأكبر وفنائهم ، وأكل بعضهم بعضا ، وتمزقوا في البلاد من الجوع ، وتمحقت خزائن
المستنصر ، وافتقر ، وتعثر .
وفي هذه النوبة نقل صاحب " المرآة " أن امرأة خرجت وبيدها مد لؤلؤ لتشتري به مد قمح ، فلم يلتفت إليها أحد ، فرمته فما كان له من يلتقطه فكاد الخراب أن يستولي على سائر الأقاليم ; حتى لأبيع الكلب بستة دنانير والقط بثلاثة دنانير ، حتى أبيع الإردب بمائة دينار .
وفي سنة 63 هزم
السلطان ألب أرسلان طاغية
الروم وأسره ، وقتل من العدو ستون ألفا .
وأقبل
أتسز الخوارزمي ، أحد أمراء
ألب أرسلان ، فاستولى على
الشام إلا قليلا ، وعسف وتمرد وعتا .
واشتغل جيش
مصر بنفوسهم ، ثم اختلفوا واقتتلوا مدة ، وصاروا
[ ص: 191 ] فرقتين : فرقة العبيد
وعرب الصعيد ، وفرقة
الترك والمغاربة ، ورأسهم
ابن حمدان ، فالتقوا
بكوم الريش ، فهزمهم
ابن حمدان . وقتل وغرق نحو من أربعين ألفا ، ونفدت خزائن
المستنصر على
الترك ، ثم اختلفوا ، ودام الحرب أياما ، وطمعوا في
المستنصر ، وطالبوه حتى أبيعت فرش القصر وأمتعته بأبخس ثمن ، وغلبت العبيد على
الصعيد ، وقطعوا الطرق ، وكان نقد
الأتراك في الشهر أربعمائة ألف دينار ، واشتدت وطأة
ناصر الدولة وصار هو الكل ، فحسده الأمراء وحاربوه ، فهزموه ، ثم جمع وأقبل ، فانتصر ، وتعثرت الرعية بالهيج مع القحط ، ونهبت الجند دور العامة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير : اشتد الغلاء حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفا بألف دينار ، باعت عروضا تساوي ألف دينار بثلاثمائة دينار ، فاشترت بها جوالق قمح ، فانتهبه الناس ، فنهبت هي منه فحصل لها ما خبز رغيفا .
واضمحل أمر
المستنصر بالمرة ، وخمل ذكره ، وبعث
ابن حمدان يطالبه بالعطاء ، فرآه رسوله على حصير ، وما حوله سوى ثلاثة غلمان ، فقال : أما يكفي
ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا الحال ؟ فبكى الرسول ، ورق له
ناصر الدولة ، وقرر له كل يوم مائة دينار .
وكان
ناصر الدولة يظهر التسنن ، ويعيب
المستنصر لخبث رفضه وعقيدته ، وتفرق عن
المستنصر أولاده وأهله من الجوع ، وتفرقوا في
[ ص: 192 ] البلاد ، ودام الجهد عامين ، ثم انحط السعر في سنة خمس وستين .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير : بالغ
ابن حمدان في إهانة
المستنصر ، وفرق عنه عامة أصحابه ، وكان غرضه أن يخطب
لأمير المؤمنين القائم ، ويزيل دولة
الباطنية ، وما زال حتى قتله الأمراء ، وقتلوا أخويه :
فخر العرب ،
وتاج المعالي ، وانقطعت دولتهم .
وفي سنة سبع وستين ولي الأمور
أمير الجيوش بدر فقتل
أمير الأمراء الدكز والوزير ابن كدينة وكان
المستنصر قد كتب إليه سرا ليقدم من
عكا ، فأعاد الجواب أن الجند
بمصر قد فسد نظامهم ، فإن شئت أتيت بجند معي . فأذن له أن يفعل ما أحب ، فاستخدم عسكرا وأبطالا ، وركبوا البحر في الشتاء مخاطرة ، وبغت
مصر وسلم ، فولاه
المستنصر ما وراء بابه ، فلما كان الليل بقي يبعث إلى كل أمير طائفة بصورة رسالة ،
[ ص: 193 ] فيخرج الأمير فيقتلونه ، ويأتون برأسه ، فما أصبح إلا وقد مهد البلد ، واحتاط على أموال الجميع ، ونقله إلى القصر ، وسار إلى
دمياط فهذبها ، وقتل الذين تغلبوا عليها ، وحاصر
الإسكندرية ودخلها بالسيف ، وقتل عدة ، وقتل
بالصعيد اثني عشر ألفا .
وأخذ عشرين ألف امرأة وخمسة عشر ألف فرس ، فتجمعوا لحربه ثانيا ، فكانوا ستين ألفا ، فساق ، وبيتهم في جوف الليل ، فقتل خلق ، وغرق خلق ، ونهبت أثقالهم ثم عمل معهم مصافا آخر وقهرهم ، وعمر البلاد ، وأحسن إلى الرعية ، وأطلق للناس الخراج ثلاث سنين ، حتى تماثلت البلاد بعد الخراب .
وفيها مات
القائم ، وبويع حفيده
المقتدي وأعيدت الدعوة
بمكة للمستنصر واختلفت العرب
بإفريقية ، وتحاربوا مدة .
وفي سنة ثمان وستين اشتد القحط
بالشام ، وحاصر
أتسز الخوارزمي دمشق ، فهرب أميرها
المعلى بن حيدرة ، وكان جبارا عسوفا وولي بعده
رزين الدولة انتصار المصمودي ثم أخذ
دمشق أتسز ، وأقام الدعوة العباسية ، خافه المصريون ثم قصدهم في سنة تسع وستين ، وحاصرهم ، ولم يبق إلا أن يتملك ، فتضرع الخلق عند
الواعظ الجوهري ،
[ ص: 194 ] فرحل شبه منهزم ، وعصى عليه
أهل القدس مدة ، ثم أخذها ، وقتل وتمرد ، وفعل كل قبيح ; ذبح قاضي
القدس والشهود صبرا .
وتملك في سنة إحدى وسبعين
دمشق تاج الدولة تتش السلجوقي وقتل
أتسز ، وتحبب إلى الرعية .
وتملك
قصرا وقونية وغير ذلك
الملك سليمان بن قتلمش السلجوقي في هذا الحدود ، ثم سار في جيوشه ، فنازل
أنطاكية ، حتى أخذها من أيدي
الروم ، وكانت في أيديهم من مائة وبضعة عشر عاما .
وأما
الأندلس فجرت فيها حروب مزعجة ; وكانت وقعة الزلاقة بين
الفرنج وبين صاحب
الأندلس المعتمد بن عباد ، ونجده
أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بجيوش
البربر الملثمين ، فكان العدو خمسين ألفا ، فيقال : ما نجا منهم ثلاثمائة نفس .
وافتتح
السلطان ملكشاه حلب والجزيرة ورد إلى
بغداد [ ص: 195 ] وعمل عرس بنته على الخليفة .
وفي سنة 483 أقبل عسكر
المستنصر ، فحاصروا
عكا وصور .
ومات
أمير الجيوش بدر الجمالي متولي مصر وكان قد بلغ رتبة عظيمة ، وقام بعده ابنه
شاهان شاه أحمد على قاعدة أبيه .
وقيل : إنما مات بعيد
المستنصر ، وفي دولة
المستنصر المتخلف ، وقع القحط المذكور لاحتراق النيل الذي ما عهد مثله
بمصر من زمن
يوسف -عليه السلام- ، ودام سنوات ; بحيث إن والدة
المستنصر وبناته سافرن من
مصر خوفا من الجوع وآل أمره إلى عدم كل الدواب ببلاد
مصر ، بحيث بقي له فرس يركبها .
واحتاج إلى دابة يركبها حامل الجتر يوم العيد وراءه ، فما وجدوا سوى بغلة
ابن هبة كاتب السر ، فوقفت على باب القصر ، فازدحم عليها
الحرافشة وذبحوها وأكلوها في الحال ، فأخذهم الأعوان وشنقوا ، فأصبحت عظامهم على الجذوع قد أكلوا تحت الليل .
مات
المستنصر في ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة وقد
[ ص: 196 ] قارب السبعين ، وكان سب الصحابة فاشيا في أيامه ، والسنة غريبة مكتومة ، حتى إنهم منعوا
الحافظ أبا إسحاق الحبال من رواية الحديث ، وهددوه ، فامتنع . ثم قام بعد
المستنصر ابنه
أحمد .