الشيخ عبد القادر
الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة ، شيخ الإسلام ، علم الأولياء ، محيي الدين ، أبو محمد ، عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي ، شيخ
بغداد .
مولده
بجيلان في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة .
وقدم
بغداد شابا ، فتفقه على
أبي سعد المخرمي .
[ ص: 440 ] وسمع من :
أبي غالب الباقلاني ،
وأحمد بن المظفر بن سوس ،
وأبي القاسم بن بيان ،
وجعفر بن أحمد السراج ،
وأبي سعد بن خشيش ،
وأبي طالب اليوسفي ، وطائفة .
حدث عنه :
السمعاني ،
وعمر بن علي القرشي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16389والحافظ عبد الغني ،
والشيخ موفق الدين ابن قدامة .
وعبد الرزاق وموسى ولداه ،
والشيخ علي بن إدريس ،
وأحمد بن مطيع الباجسرائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة ،
محمد بن ليث الوسطاني ،
وأكمل بن مسعود الهاشمي ،
وأبو طالب عبد اللطيف بن محمد بن القبيطي ، وخلق ، وروى عنه بالإجازة
الرشيد أحمد بن مسلمة .
أخبرنا
القاضي تاج الدين عبد الخالق بن علوان ببعلبك ، أخبرنا
أبو محمد عبد الله بن أحمد الفقيه سنة إحدى عشرة وستمائة ، أخبرنا شيخ الإسلام
عبد القادر بن أبي صالح الجيلي ، أخبرنا
أحمد بن المظفر التمار ، أخبرنا
أبو علي بن شاذان .
أخبرنا
أبو بكر محمد بن العباس بن نجيح ، أخبرنا
يعقوب بن يوسف القزويني ، حدثنا
محمد بن سعيد ، حدثنا
عمرو بن أبي قيس ، عن
سماك ، عن
عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ، قال : إن
بني إسرائيل استخلفوا خليفة عليهم بعد
موسى ، فقام يصلي في القمر فوق
بيت المقدس ، فذكر أمورا كان صنعها ، فخرج ، فتدلى بسبب ، فأصبح السبب معلقا في المسجد ، وقد ذهب ، فانطلق حتى أتى قوما على شط البحر ، فوجدهم يصنعون لبنا ، فسألهم : كيف تأخذون هذا اللبن ؟ فأخبروه ، فلبن معهم ، وكان يأكل من عمل يده ، فإذا كان حين الصلاة ، تطهر فصلى ، فرفع ذلك العمال إلى قهرمانهم ، إن فينا رجلا يفعل كذا وكذا ، فأرسل إليه ، فأبى أن يأتيه -ثلاث مرات- ثم إنه جاءه بنفسه يسير على دابته ، فلما رآه فر ، واتبعه فسبقه ، فقال : أنظرني أكلمك . قال : فقام
[ ص: 441 ] حتى كلمه ، فأخبره خبره ، فلما أخبره خبره ، وأنه كان ملكا ، وأنه فر من رهبة الله ، قال : إني لأظن أني لاحق بك . فلحقه ، فعبدا الله حتى ماتا
برملة مصر .
قال
عبد الله : لو كنت ثم لاهتديت إلى قبريهما من صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي وصف .
هذا حديث غريب عال .
قال
السمعاني : كان
عبد القادر من أهل
جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره ، فقيه صالح دين خير ، كثير الذكر ، دائم الفكر ، سريع الدمعة ، تفقه على
المخرمي ، وصحب الشيخ
حمادا الدباس ، وكان يسكن
بباب الأزج في مدرسة بنيت له ، مضينا لزيارته ، فخرج وقعد بين أصحابه ، وختموا القرآن ، فألقى درسا ما فهمت منه شيئا ، وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس ، فلعلهم فهموا لإلفهم بكلامه وعبارته .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي كان
أبو سعد المخرمي قد بنى مدرسة لطيفة
بباب الأزج ، ففوضت إلى
عبد القادر ، فتكلم على الناس بلسان الوعظ ، وظهر له صيت بالزهد ، وكان له سمت وصمت ، وضاقت المدرسة بالناس ، فكان يجلس عند سور
بغداد مستندا إلى الرباط ، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير ، فعمرت المدرسة ، ووسعت ، وتعصب في ذلك العوام ، وأقام فيها يدرس ويعظ إلى أن توفي .
[ ص: 442 ] أنبأني
أبو بكر بن طرخان ، أخبرنا الشيخ
موفق الدين أبو محمد بن قدامة -وسئل عن الشيخ
عبد القادر - فقال : أدركناه في آخر عمره ، فأسكننا في مدرسته ، وكان يعنى بنا ، وربما أرسل إلينا ابنه
يحيى ، فيسرج لنا السراج ، وربما يرسل إلينا طعاما من منزله ، وكان يصلي الفريضة بنا إماما ، وكنت أقرأ عليه من حفظي من كتاب
nindex.php?page=showalam&ids=14209الخرقي غدوة ، ويقرأ عليه
الحافظ عبد الغني من كتاب " الهداية " في الكتاب ، وما كان أحد يقرأ عليه في ذلك الوقت سوانا ، فأقمنا عنده شهرا وتسعة أيام ، ثم مات ، وصلينا عليه ليلا في مدرسته ، ولم أسمع عن أحد يحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عنه ، ولا رأيت أحدا يعظمه الناس للدين أكثر منه ، وسمعنا عليه أجزاء يسيرة .
قرأت بخط
الحافظ سيف الدين بن المجد ، سمعت
محمد بن محمود المراتبي ، سمعت الشيخ
أبا بكر العماد رحمه الله يقول : كنت قرأت في أصول الدين ، فأوقع عندي شكا ، فقلت : حتى أمضي إلى مجلس الشيخ
عبد القادر ، فقد ذكر أنه يتكلم على الخواطر ، فمضيت وهو يتكلم .
فقال : اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح والصحابة . فقلت في نفسي : هذا قاله اتفاقا ، فتكلم ثم التفت إلى ناحيتي ، فأعاده ، فقلت ، الواعظ قد يلتفت ، فالتفت إلي ثالثة ، وقال : يا
أبا بكر ، فأعاد القول : ثم قال : قم قد جاء أبوك . وكان غائبا ، فقمت مبادرا ، وإذا أبي قد جاء .
وحدثنا
أبو القاسم بن محمد الفقيه ، حدثني شيخنا
جمال الدين يحيى بن الصيرفي ، سمعت
أبا البقاء النحوي قال : حضرت مجلس
الشيخ عبد القادر ، فقرءوا بين يديه بالألحان ، فقلت في نفسي : ترى لأي شيء ما ينكر الشيخ هذا ؟ فقال : يجيء واحد قد قرأ أبوابا من الفقه ينكر . فقلت في نفسي : لعل أنه قصد غيري ، فقال : إياك نعني بالقول ، فتبت في نفسي
[ ص: 443 ] من اعتراضي ، فقال : قد قبل الله توبتك .
وسمعت
الإمام أبا العباس أحمد بن عبد الحليم ، سمعت
الشيخ عز الدين الفاروثي ، سمعت
شيخنا شهاب الدين السهروردي يقول : عزمت على الاشتغال بأصول الدين ، فقلت في نفسي : أستشير
الشيخ عبد القادر ، فأتيته ، فقال قبل أن أنطق : يا
عمر ، ما هو من عدة القبر ، يا
عمر ، ما هو من عدة القبر .
قال
الفقيه محمد بن محمود المراتبي : قلت
للشيخ الموفق : هل رأيتم من
الشيخ عبد القادر كرامة ؟ قال : لا أظن ، لكن كان يجلس يوم الجمعة ، فكنا نتركه ونمضي لسماع الحديث عند
ابن شافع فكل ما سمعناه لم ننتفع به . قال
الحافظ السيف : يعني لنزول ذلك .
قال
شيخنا الحافظ أبو الحسين علي بن محمد : سمعت
الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الفقيه الشافعي يقول : ما نقلت إلينا كرامات أحد بالتواتر إلا
الشيخ عبد القادر ، فقيل له : هذا مع اعتقاده ، فكيف هذا ؟ فقال : لازم المذهب ليس بمذهب .
قلت : يشير إلى إثباته صفة العلو ونحو ذلك ، ومذهب الحنابلة في ذلك معلوم ، يمشون خلف ما ثبت عن إمامهم -رحمه الله- إلا من يشذ منهم ، وتوسع في العبارة .
قال
ابن النجار في " تاريخه " : دخل
الشيخ عبد القادر بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، فتفقه على
ابن عقيل ،
وأبي الخطاب ،
والمخرمي ،
وأبي الحسين بن الفراء ، حتى أحكم الأصول والفروع
[ ص: 444 ] والخلاف ، وسمع الحديث ، وقرأ الأدب على
أبي زكريا التبريزي ، واشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه ، ثم لازم الخلوة والرياضة والمجاهدة والسياحة والمقام في الخراب والصحراء ، وصحب
الدباس ، ثم إن الله أظهره للخلق ، وأوقع له القبول العظيم ، فعقد مجلس الوعظ في سنة إحدى وعشرين ، وأظهر الله الحكمة على لسانه ، ثم درس ، وأفتى ، وصار يقصد بالزيارة والنذور ، وصنف في الأصول والفروع ، وله كلام على لسان أهل الطريقة عال . وكتب إلي
عبد الله بن أبي الحسن الجبائي : قال لي
الشيخ عبد القادر : طالبتني نفسي يوما بشهوة ، فكنت أضاجرها ، وأدخل في درب ، وأخرج من آخر أطلب الصحراء ، فرأيت رقعة ملقاة ، فإذا فيها : ما للأقوياء والشهوات ، وإنما خلقت الشهوات للضعفاء . فخرجت الشهوة من قلبي . قال : وكنت أقتات بخروب الشوك وورق الخس من جانب النهر .
قال
ابن النجار : قرأت بخط
أبي بكر عبد الله بن نصر بن حمزة التيمي ، سمعت
الشيخ عبد القادر يقول : بلغت بي الضائقة في الغلاء إلى أن بقيت أياما لا آكل طعاما ، بل أتبع المنبوذات ، فخرجت يوما إلى الشط ، فوجدت قد سبقني الفقراء ، فضعفت ، وعجزت عن التماسك ، فدخلت مسجدا ، وقعدت ، وكدت أصافح الموت ، ودخل شاب أعجمي ومعه خبز وشواء ، وجلس يأكل ، فكنت أكاد كلما رفع لقمة أن أفتح فمي ، فالتفت فرآني ، فقال : باسم الله ، فأبيت ، فأقسم علي ، فأكلت مقصرا ، وأخذ يسألني ، ما شغلك ، ومن أين أنت ؟ فقلت : متفقه من
جيلان . قال : وأنا من
جيلان ، فهل تعرف لي شابا جيلانيا اسمه
عبد القادر ، يعرف
بسبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد ؟ فقلت : أنا هو . فاضطرب لذلك ، وتغير
[ ص: 445 ] وجهه ، وقال : والله يا أخي ، لقد وصلت إلى
بغداد ومعي بقية نفقة لي ، فسألت عنك ، فلم يرشدني أحد إلى أن نفدت نفقتي ، وبقيت بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا من مالك ، فلما كان هذا اليوم الرابع ، قلت : قد تجاوزتني ثلاثة أيام ، وحلت لي الميتة ، فأخذت من وديعتك ثمن هذا الخبز والشواء ، فكل طيبا ، فإنما هو لك ، وأنا ضيفك الآن . فقلت : وما ذاك ؟ قال : أمك وجهت معي ثمانية دنانير ، والله ما خنتك فيها إلى اليوم ، فسكنته ، وطيبت نفسه ، ودفعت إليه شيئا منها .
قال
ابن النجار : كتب إلي
عبد الله بن أبي الحسن الجبائي ، قال : قال لي
الشيخ عبد القادر : كنت في الصحراء أكرر في الفقه وأنا في فاقة ، فقال لي قائل لم أر شخصه : اقترض ما تستعين به على طلب الفقه ، فقلت : كيف أقترض وأنا فقير ولا وفاء لي ؟ قال : اقترض وعلينا الوفاء .
فأتيت بقالا ، فقلت : تعاملني بشرط إذا سهل الله أعطيتك ، وإن مت تجعلني في حل ، تعطيني كل يوم رغيفا ورشادا . فبكى ، وقال : أنا بحكمك . فأخذت منه مدة ، فضاق صدري ، فأظن أنه قال : فقيل لي : امض إلى موضع كذا ، فأي شيء رأيت على الدكة ، فخذه ، وادفعه إلى البقال . فلما جئت رأيت قطعة ذهب كبيرة ، فأعطيتها البقلي .
ولحقني الجنون مرة ، وحملت إلى المارستان ، فطرقتني الأحوال حتى [ حسبوا أني ] مت ، وجاءوا بالكفن ، وجعلوني على المغتسل ، ثم سري عني ، وقمت ، ثم وقع في نفسي أن أخرج من
بغداد لكثرة الفتن ،
[ ص: 446 ] فخرجت إلى باب الحلبة ، فقال لي قائل : إلى أين تمشي ؟ ! ودفعني دفعة خررت منها ، وقال : ارجع فإن للناس فيك منفعة ، قلت : أريد سلامة ديني . قال : لك ذاك -ولم أر شخصه - . ثم بعد ذلك طرقتني الأحوال ، فكنت أتمنى من يكشفها لي ، فاجتزت بالظفرية ففتح رجل داره ، وقال : يا
عبد القادر ، أيش طلبت البارحة ؟ فنسيت ، فسكت ، فاغتاظ ، ودفع الباب في وجهي دفعة عظيمة ، فلما مشيت ذكرت ، فرجعت أطلب الباب ، فلم أجده ، قال : وكان
حمادا الدباس ، ثم عرفته بعد ، وكشف لي جميع ما كان يشكل علي .
وكنت إذا غبت عنه لطلب العلم وجئت ، يقول : أيش جاء بك إلينا ، أنت فقيه ، مر إلى الفقهاء ، وأنا أسكت ، فلما كان يوم جمعة خرجت مع الجماعة في شدة البرد ، فدفعني ألقاني في الماء ، فقلت : غسل الجمعة ، باسم الله .
وكان علي جبة صوف ، وفي كمي أجزاء ، فرفعت كمي لئلا تهلك الأجزاء ، وخلوني ، ومشوا ، فعصرت الجبة ، وتبعتهم ، وتأذيت بالبرد كثيرا ، وكان الشيخ يؤذيني ويضربني ، وإذا جئت يقول : جاءنا اليوم الخبز الكثير والفالوذج ، وأكلنا وما خبأنا لك وحشة عليك ، فطمع في أصحابه ، وقالوا : أنت فقيه ، أيش تعمل معنا ؟ فلما رآهم يؤذونني ، غار لي ; وقال : يا كلاب ، لم تؤذونه ؟ والله ما فيكم مثله ، وإنما أوذيه لأمتحنه ، فأراه جبلا ، لا يتحرك .
ثم بعد مدة ، قدم رجل من
همذان يقال له :
يوسف الهمذاني ، وكان يقال : إنه القطب ، ونزل في رباط ، فمشيت إليه ، فلم أره ، وقيل لي : هو في السرداب ، فنزلت إليه ، فلما رآني قام ، وأجلسني ، ففرشني ، وذكر لي جميع أحوالي ، وحل لي المشكل علي ، ثم قال لي : تكلم على الناس ؟ فقلت : يا سيدي ، أنا رجل
[ ص: 447 ] أعجمي قح أخرس ، أتكلم على فصحاء
بغداد ! ؟ فقال لي : أنت حفظت الفقه وأصوله ، والخلاف والنحو واللغة وتفسير القرآن لا يصلح لك أن تتكلم ؟ ! اصعد على الكرسي وتكلم ; فإني أرى فيك عذقا سيصير نخلة .
قال
الجبائي : وقال لي
الشيخ عبد القادر : كنت أومر وأنهى في النوم واليقظة ، وكان يغلب علي الكلام ، ويزدحم على قلبي إن لم أتكلم به حتى أكاد أختنق ، ولا أقدر أسكت ، وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة ، ثم تسامع الناس بي ، وازدحم علي الخلق ، حتى صار يحضر مجلسي نحو من سبعين ألفا .
وقال : فتشت الأعمال كلها ، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام ، أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع ، كفي مثقوبة لا تضبط شيئا ، لو جاءني ألف دينار لم أبيتها ، وكان إذا جاءه أحد بذهب ، يقول : ضعه تحت السجادة .
وقال لي : أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول لا أرى الخلق ولا يروني .
ثم قال : أراد الله مني منفعة الخلق ، فقد أسلم على يدي أكثر من خمسمائة ، وتاب على يدي أكثر من مائة ألف ، وهذا خير كثير ، وترد علي الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسخت ، فأضع جنبي على الأرض ، وأقول :
فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني . وقال : إذا ولد لي ولد أخذته على يدي ، وأقول : هذا ميت ، فأخرجه من قلبي ، فإذا مات لم يؤثر عندي موته شيئا .
قال
عبد الرزاق ابن الشيخ : ولد لأبي تسعة وأربعون ولدا ، سبعة وعشرون ذكرا ، والباقي إناث .
[ ص: 448 ] وقال
الجبائي : كنت أسمع في " الحلية " على
ابن ناصر ، فرق قلبي ، وقلت : اشتهيت لو انقطعت ، وأشتغل بالعبادة ، ومضيت ، فصليت خلف
الشيخ عبد القادر ، فلما جلسنا ، نظر إلي ، وقال : إذا أردت الانقطاع ، فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدب ، وإلا فتنقطع وأنت فريخ ما ريشت .
وعن
أبي الثناء النهرملكي قال : تحدثنا أن الذباب ما يقع على
الشيخ عبد القادر ، فأتيته ، فالتفت إلي ، وقال : أيش يعمل عندي الذباب ، لا دبس الدنيا ، ولا عسل الآخرة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء العكبري : سمعت
يحيى بن نجاح الأديب يقول : قلت في نفسي : أريد أن أحصي كم يقص
الشيخ عبد القادر شعر تائب ، فحضرت المجلس ومعي خيط ، فلما قص شعرا ، عقدت عقدة تحت ثيابي من الخيط وأنا في آخر الناس ، وإذا به يقول : أنا أحل وأنت تعقد ؟ !
قال
ابن النجار : سمعت شيخ الصوفية
عمر بن محمد السهروردي يقول : كنت أتفقه في صباي ، فخطر لي أن أقرأ شيئا من علم الكلام ، وعزمت على ذلك من غير أن أتكلم به ، فصليت مع عمي
nindex.php?page=showalam&ids=11919أبي النجيب ، فحضر عنده
الشيخ عبد القادر مسلما ، فسأله عمي الدعاء لي ، وذكر له أني مشتغل بالفقه ، وقمت قبلت يده ، فأخذ يدي ، فقال : تب مما عزمت عليه من الاشتغال به ، فإنك تفلح ، ثم سكت ، ولم يتغير عزمي عن الاشتغال بالكلام حتى شوشت علي جميع أحوالي ، وتكدر وقتي ، فعلمت أن ذلك بمخالفة الشيخ .
[ ص: 449 ] ابن النجار : سمعت
أبا محمد بن الأخضر يقول : كنت أدخل على
الشيخ عبد القادر في وسط الشتاء وقوة برده وعليه قميص واحد ، وعلى رأسه طاقية ، وحوله من يروحه بالمروحة . قال : والعرق يخرج من جسده كما يكون في شدة الحر .
ابن النجار : سمعت
عبد العزيز بن عبد الملك الشيباني ، سمعت
الحافظ عبد الغني ، سمعت
أبا محمد بن الخشاب النحوي يقول : كنت وأنا شاب أقرأ النحو ، وأسمع الناس يصفون حسن كلام
الشيخ عبد القادر ، فكنت أريد أن أسمعه ولا يتسع وقتي ، فأتفق أني حضرت يوما مجلسه ، فلما تكلم لم أستحسن كلامه ، ولم أفهمه ، وقلت في نفسي : ضاع اليوم مني . فالتفت إلى ناحيتي ، وقال : ويلك ، تفضل النحو على مجالس الذكر ، وتختار ذلك ؟ ! اصحبنا نصيرك سيبويه .
قال
أحمد بن ظفر بن هبيرة : سألت جدي أن أزور
الشيخ عبد القادر ، فأعطاني مبلغا من الذهب لأعطيه ، فلما نزل عن المنبر سلمت عليه ، وتحرجت من دفع الذهب إليه في ذلك الجمع ، فقال : هات ما معك ولا عليك من الناس ، وسلم على الوزير .
قال صاحب " مرآة الزمان " كان سكوت
الشيخ عبد القادر أكثر من كلامه ، وكان يتكلم على الخواطر ، وظهر له صيت عظيم وقبول تام ، وما كان يخرج من مدرسته إلا يوم الجمعة أو إلى الرباط ، وتاب على يده معظم أهل
بغداد ، وأسلم خلق ، وكان يصدع بالحق على المنبر ، وكان له كرامات ظاهرة .
[ ص: 450 ] قلت : ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثر من
الشيخ عبد القادر ، لكن كثيرا منها لا يصح ، وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة .
قال
الجبائي : كان
الشيخ عبد القادر يقول : الخلق حجابك عن نفسك ، ونفسك حجابك عن ربك .
عاش
الشيخ عبد القادر تسعين سنة ، وانتقل إلى الله في عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة ، وشيعه خلق لا يحصون ، ودفن بمدرسته -رحمه الله تعالى .
وفيها مات
أبو المحاسن إسماعيل بن علي بن زيد بن شهريار الأصبهاني ، سمع من
رزق الله التميمي ، والمحدث العلامة
أبو محمد عبد الله بن محمد الأشيري المغربي ، ودفن بظاهر
بعلبك ،
والإمام الرئيس أبو طالب عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي واقف المدرسة
بحلب .
وعلي بن أحمد الحرستاني راوي جزء
الرافقي ،
وأبو رشيد محمد بن علي بن محمد بن عمر الأصبهاني الباغبان ،
وأبو عبد الله الرستمي وأبو طاهر إبراهيم بن الحسن بن الحصني الشافعي بدمشق ،
والقاضي مهذب الدين الحسن بن علي بن الرشيد بن الزبير الأسواني الشاعر أخو
الرشيد أحمد .
وأبو محمد عبد الله بن الحسين بن رواحة الأنصاري الحموي [ ص: 451 ] المقرئ الشاعر والمسند
nindex.php?page=showalam&ids=13175ابن رفاعة والفقيه المقرئ
عبد الصمد بن الحسين بن أحمد بن تميم التميمي الدمشقي ، وشيخ القراء
أبو حميد عبد العزيز بن علي السماني الإشبيلي ، والشيخ
علي بن أحمد الحرستاني راوي جزء
الرافقي .
وفي الجملة
الشيخ عبد القادر كبير الشأن ، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه ، والله الموعد ، وبعض ذلك مكذوب عليه .