صفحة جزء
[ ص: 199 ] قال ابن النجار : دانت للناصر السلاطين ، ودخل تحت طاعته المخالفون ، وذلت له العتاة ، وانقهرت بسيفه البغاة ، واندحض أضداده ، وفتح البلاد العديدة ، وملك ما لم يملكه غيره ، وخطب له بالأندلس وبالصين ، وكان أسد بني العباس تتصدع لهيبته الجبال ، وتذل لسطوته الأقيال ، وكان حسن الخلق ، أطيف الخلق ، كامل الظرف ، فصيحا بليغا ، له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة ، كانت أيامه غرة في وجه الدهر ، ودرة في تاج الفخر .

حدثني الحاجب علي بن محمد بن جعفر قال : برز منه توقيع إلى صدر المخزن جلال الدين بن يونس : " لا ينبغي لأرباب هذا المقام أن يقدموا على أمر لم ينظروا في عاقبته ، فإن النظر قبل الإقدام خير من الندم بعد الفوات ، ولا يؤخذ البرآء بقول الأعداء ، فلكل ناصح كاشح ، ولا يطالب بالأموال من لم يخن في الأعمال ، فإن المصادرة مكافأة للظالمين ، وليكن العفاف والتقى رقيبين عليك " . وبرز منه توقيع : " قد تكرر تقدمنا إليك مما افترضه الله علينا ويلزمنا القيام به ، كيف يهمل حال الناس حتى تم عليهم ما قد بين في باطنها ، فتنصف الرجل وتقابل العامل إن لم يفلج بحجة شرعية " .

قال القاضي ابن واصل : كان الناصر شهما شجاعا ذا فكرة صائبة وعقل رصين ومكر ودهاء ، وكانت هيبته عظيمة جدا ، وله أصحاب أخبار بالعراق وسائر الأطراف يطالعونه بجزئيات الأمور ; حتى ذكر أن رجلا ببغداد [ ص: 200 ] عمل دعوة وغسل يده قبل أضيافه فطالعه صاحب الخبر ، فكتب في جواب ذلك : " سوء أدب من صاحب الدار وفضول من كاتب المطالعة " .

قال : وكان رديء السيرة في الرعية ، مائلا إلى الظلم والعسف ، فخربت في أيامه العراق وتفرق أهلها وأخذ أملاكهم ، وكان يفعل أفعالا متضادة ، ويتشيع بخلاف آبائه .

قال : وبلغني أن رجلا كان يرى صحة خلافة يزيد ، فأحضره ليعاقبه ، فسأله : ما تقول في خلافة يزيد ؟ قال : أنا أقول لا ينعزل بارتكاب الفسق ، فأعرض عنه ، وأمر بإطلاقه ، وخاف من المحاققة .

قال : وسئل ابن الجوزي والخليفة يسمع : " من أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : " أفضلهم بعده من كانت بنته تحته " . وهذا جواب جيد يصدق على أبي بكر وعلى علي . قيل كتب إلى الناصر خادم اسمه يمن يتعتب ، فوقع فيها " بمن يمن يمن ، ثمن يمن ثمن " .

[ ص: 201 ] قال سبط الجوزي : قل بصر الناصر في الآخر ، وقيل : ذهب جملة ، وكان خادمه رشيق قد استولى على الخلافة ، وبقي يوقع عنه ، وكان بالخليفة أمراض منها عسر البول والحصى ، فشق ذكره مرارا ومآل أمره منه كان الموت . قال : وغسله خالي محيي الدين .

قال الموفق عبد اللطيف : أما مرض موته فسهو ونسيان ; بقي به ستة أشهر ولم يشعر أحد من الرعية بكنه حاله حتى خفي على الوزير وأهل الدار ، وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه ، فكانت تكتب مثل خطه ، فكانت تكتب على التواقيع بمشورة القهرمانة ، وفي أثناء ذلك نزل جلال الدين محمد بن تكش خوارزم شاه على ضواحي بغداد هاربا منفضا من الرجال والمال والدواب ، فأفسد بما وصلت يده إليه ، فكانوا يدارونه ولا يمضون فيه أمرا لغيبة رأي الناصر ، ثم نهب دقوقا ، وراح إلى أذربيجان .

نقل العدل شمس الدين الجزري في " تاريخه " عن أبيه قال : سمعت المؤيد بن العلقمي الوزير لما كان على الأستاذ دارية يقول : إن الماء الذي يشربه الإمام الناصر كان تجيء به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ ويغلى سبع غلوات ثم يحبس في الأوعية أسبوعا ثم يشرب منه ، وما مات حتى سقي المرقد ثلاث مرار ، وشق ذكره وأخرج منه الحصى . وقال ابن الأثير : بقي الناصر ثلاث سنين عاطلا عن الحركة [ ص: 202 ] بالكلية ، وقد ذهبت إحدى عينيه ، وفي الآخر أصابه دوسنطاريا عشرين يوما ومات ، وما أطلق في مرضه شيئا مما كان أحدثه من الرسوم .

قال : وكان سيئ السيرة ، خرب العراق في أيامه ، وتفرق أهله في البلاد ، وأخذ أموالهم وأملاكهم . إلى أن قال : وجعل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة .

ونقل الظهير الكازروني فيما أجاز لنا أن الناصر في وسط خلافته هم بترك الخلافة وبالانقطاع إلى التعبد ، وكتب عنه ابن الضحاك توقيعا قرئ على الأعيان ، وبنى رباطا للفقراء ، واتخذ إلى جانب الرباط دارا لنفسه كان يتردد إليها ويحادث الصوفية ، وعمل له ثيابا كبيرة بزي القوم . قلت : ثم نبذ هذا ومل .

ومن الحوادث في دولته قدوم أسرى الفرنج إلى بغداد وقد هزمهم صلاح الدين نوبة مرج العيون ومن التحف ضلع حوت طوله عشرة أذرع في عرض ذراع ، وجواهر مثمنة . وقيل : بل كان ذلك في آخر دولة المستضيء .

[ ص: 203 ] وأهلك وزير العراق ظهير الدين بن العطار فعرفت الغوغاء بجنازته فرجموه ، فهرب الحمالون فأخرج من تابوته ، وسحب ، فتعرى من الأكفان ، وطافوا به ، نسأل الله الستر ، وكان جبارا عنيدا .

أنبأني عز الدين بن البزوري في " تاريخه " قال : حكى التيمي ،

قال : كنت بحضرة ابن العطار ، وقد ورد عليه شيخ فوعظه بكلام لطيف ونهاه ، فقال : أخرجوه الكلب سحبا ، وكرر ذلك ، وقيل : هو الذي دس الباطنية على الوزير عضد الدين ابن رئيس الرؤساء حتى قتلوه . وبقي الناصر يركب ويتصيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية