وفي سنة 84 : كان
صلاح الدين لا يفتر ولا يقر عن قتال
الفرنج .
وسار عسكر
الناصر عليهم الوزير
ابن يونس فعمل المصاف مع السلطان
طغرل فانهزم عسكر
الناصر وتقاعسوا ، وثبت
ابن يونس في نفر بيده مصحف منشور وسيف مشهور ، فأخذ رجل بعنان فرسه وقاده إلى مخيم فأنزله ، فجاء إليه السلطان ووزيره فلزم معهم قانون الوزارة ، ولم يقم ، فعجبوا ، ولم يزل محترما حتى رد ، وأما صاحب " المرآة " فقال أحضر
ابن يونس بين يدي
طغرل ، فألبسه طرطورا بجلاجل ، وتمزق العسكر ، وسار
قزل أخو
البهلوان فهزم
طغرل ، ومعه
ابن يونس فسار إلى
خلاط ، فأنكر عليه
بكتمر ما فعله ، قال : هم بدءوني ، قال : فأطلق الوزير فما قدر يخالفه ، فجهزه
بكتمر بخيل ومماليك ، فرد ذلك ، وأخذ بغلين برحلين وسار معه غلامه في زي صوفي إلى
الموصل متنكرا ، ثم ركب إلى
بغداد في سفينة .
[ ص: 209 ] وفي سنة خمس وثمانين : نفذ
طغرل تحفا وهدايا ، واعتذر واستغفر .
وظهر
ابن يونس ، فولي نظر المخزن ، ثم عزل بعد أشهر .
وفيها وفي المقبلة كان الحصار الذي لم يسمع بمثله أبدا على
عكا ، كان السلطان قد افتتحها وأسكنها المسلمين ، فأقبلت
الفرنج برا وبحرا من كل فج عميق ، فأحاطوا بها ، وسار
صلاح الدين فيدفعهم فما تزعزعوا ولا فكروا بل أنشئوا سورا وخندقا على معسكرهم ، وجرت غير وقعة ; وقتل خلق كثير يحتاج بسط ذلك إلى جزء ، وامتدت المنازلة والمطاولة والمقاتلة نيفا وعشرين شهرا ، وكانت الأمداد تأتي العدو من أقصى البحار ، واستنجد
صلاح الدين بالخليفة وغيره حتى أنه نفذ رسولا إلى صاحب
المغرب يعقوب المؤمني يستجيشه فما نفع ، وكل بلاء
النصارى ذهاب
بيت المقدس منهم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير لبس القسوس السواد حزنا على
القدس ، وأخذهم بترك
القدس وركب بهم البحر يستنفرون
الفرنج ، وصوروا
المسيح وقد ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجرحه ، فعظم هذا المنظر على
النصارى ، وحشدوا وجمعوا من الرجال والأموال ما لا يحصى ، فحدثني كردي كان يغير مع
الفرنج بحصن
الأكراد أنهم أخذوه معهم في البحر ، قال : فانتهى بنا الطواف إلى
رومية فخرجنا منها وقد ملأنا الشواني الأربعة فضة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير فخرجوا على الصعب والذلول برا وبحرا ، ولولا
[ ص: 210 ] لطف الله بإهلاك ملك
الألمان وإلا لكان يقال : إن
الشام ومصر كانتا للمسلمين .
قلت : كانت عساكر العدو فوق المائتي ألف ، ولكن هلكوا جوعا ووباء وهلكت دوابهم ، وجافت الأرض بهم ، وكانوا قد ساروا فمروا على جهة
القسطنطينية ثم على ممالك
الروم تقتل وتسبي ، والتقاه سلطان
الروم فكسره ملك
الألمان ، وهجم
قونية فاستباحها ، ثم هادنه
ابن قلج رسلان ومروا على بلاد
سيس ، ووقع فيهم الفناء فمات الملك وقام ابنه .
قلت : قتل من العدو في بعض المصافات الكبيرة التي جرت في حصار
عكا في يوم اثنا عشر ألفا وخمسمائة ، والتقوا مرة أخرى فقتل منهم ستة آلاف ، وعمروا على
عكا برجين من أخشاب عاتية ، البرج سبع طبقات فيها مسامير كبار يكون المسمار نصف قنطار ، وصفحوا البرج بالحديد ، فبقي منظرا مهولا ودفعوا البرج ببكر تحته حتى ألصقوه بسور
عكا وبقي أعلى منها بكثير فسلط عليه
أهل عكا المجانيق حتى خلخلوه ، ثم رموه بقدرة نفط فاشتعل مع أنه كان عليه لبود منقوعة بالخل تمنع عمل النفط فأوقد وجعل الملاعين يرمون نفوسهم منه وكان يوما مشهودا ، ثم عملوا كبشا عظيما رأسه قناطير مقنطرة من حديد ليدفعوه على السور فيخرقه فلما دحرجوه وقارب السور ساخ في الرمل لعظمه ، وهد الكلاب بدنة وبرجا فسد المسلمون ذلك وأحكموه في ليلة ، وكان السلطان يكون أول راكب وآخر نازل في هذين
[ ص: 211 ] العامين ، ومرض وأشرف على التلف ثم عوفي . قال
العماد : حزر ما قتل من العدو فكان أكثر من مائة ألف .
ومن إنشاء
الفاضل إلى الديوان وهم على
عكا " يمدهم البحر بمراكب أكثر من أمواجه ، ويخرج لنا أمر من أجاجه ، وقد زر هذا العدو عليه من الخنادق دروعا ، واستجن من الجنونات بحصون ، فصار مصحرا ممتنعا حاسرا مدرعا ، وأصحابنا قد أثرت فيهم المدة الطويلة في استطاعتهم لا في طاعتهم ، وفي أجوالهم لا في شجاعتهم فنقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة ونرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة ، وقد حرم باباهم - لعنه الله - كل مباح واستخرج منهم كل مذخور وأغلق دونهم الكنائس ، ولبسوا الحداد ، وحكم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة .
فيا عصبة نبينا - صلى الله عليه وسلم - اخلفه في أمته بما تطمئن به مضاجعه ، ووفه الحق فينا ، فها نحن عندك ودائعه ، ولولا أن في التصريح ما يعود على العدالة بالتجريح لقال الخادم ما يبكي العيون وينكي القلوب ، ولكنه صابر محتسب وللنصر مرتقب ، رب لا أملك إلا نفسي وها هي في سبيلك مبذولة ، وأخي وقد هاجر
[ ص: 212 ] هجرة نرجوها مقبولة ، وولدي وقد بذلت للعدو صفحات وجوههم ، ونقف عند هذا الحد ، ولله الأمر من قبل ومن بعد " .
ومن كتاب إلى الديوان " قد بلي الإسلام منهم بقوم استطابوا الموت ، وفارقوا الأهل طاعة لقسيسهم ، وغيرة لمعبدهم ، وتهالكا على قمامتهم حتى لسارت ملكة منهم بخمسمائة مقاتل التزمت بنفقاتهم ، فأخذها المسلمون برجالها بقرب
الإسكندرية ، فذوات المقانع مقنعات دارعات تحمل الطوارق والقبطاريات ، ووجدنا منهم عدة بين القتلى ، وبابا
رومية حكم بأن من لا يتوجه إلى
القدس فهو محرم لا منكح له ولا مطعم ، فلهذا يتهافتون على الورود ويتهالكون على يومهم الموعود ، وقال لهم : إنني واصل في الربيع جامع على استنفار الجميع ، وإذا نهض فلا يقعد عنه أحد ، ويقبل معه كل من قال : لله ولد " .
ومن كتاب : " ومعاذ الله أن يفتح الله علينا البلاد ثم يغلقها ، وأن يسلم على يدينا
القدس ثم ننصره ، ثم معاذ الله أن نغلب عن النصر أو أن نغلب عن الصبر
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم .
ولست بقرم هازم لنظيره ولكنه الإسلام للشرك هازم
إلى أن قال : والمشهور الآن أن ملك
الألمان خرج في مائتي ألف وأنه الآن في دون خمسة آلاف " .
[ ص: 213 ] وخرج جيش الخليفة عليهم نجاح إلى
دقوقا لحرب
طغرل فقدم بعد أيام ولد
طغرل صبي مميز يطلب العفو عن أبيه .
سنة سبع وثمانين اشتدت مضايقة العدو
عكا وأمدادهم متواترة ، فوصل ملك
الإنكيتر وقد مر
بقبرص وغدر بصاحبها ، وتملكها كلها ، ثم سار إلى
عكا في خمس وعشرين قطعة ، وكان ماكرا داهية شجاعا ، فخارت قوى من بها من المسلمين وضعفوا بخروج أميرين منها في شيني وقلقوا فبعث إليهم السلطان : أن اخرجوا كلكم من البلد على حمية وسيروا مع البحر واحملوا عليهم وأنا أجيئهم من ورائهم وأكشف عنكم ، فشرعوا في هذا فما تهيأ ثم خرج أمير
عكا ابن المشطوب إلى ملك
الفرنج وطلب الأمان فأبى .
قال : فنحن لا نسلم
عكا حتى نقتل جميعا ورجع ، فزحف العدو عليها ، وأشرفوا على أخذها فطلب المسلمون الأمان على أن يسلموا
عكا ومائتي ألف دينار وخمسمائة أسير وصليب الصلبوت فأجيبوا ، وتملك العدو
عكا في رجب ووقع البكاء والأسف على المسلمين ، ثم سارت
الفرنج تقصد
عسقلان ، فسار السلطان في عراضهم ، وبقي
اليزك يقتتلون كل وقت ، ثم كانت وقعة
نهر القصب ، ثم وقعة
أرسوف فانتصر المسلمون ، وأتى
صلاح الدين عسقلان فأخلاها ، وشرع في هدمها وهدم
الرملة ولد ، وشرعت
الفرنج [ ص: 214 ] في عمارة
يافا ، وطلبوا الهدنة ، ثم جرت وقعات صغار ، وقصدت الملاعين
بيت المقدس وبها السلطان ، فبالغ في تحصينها .
وفيها ولي الأستاذ
دارية ابن يونس الذي كان وزيرا .
وفيها ظهر
السهروردي الساحر
بحلب ، وأفتى الفقهاء بقتله فقتل بالجوع وأحرقت جثته ، وكان سيماويا فيلسوفا منحلا .