وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون عطف قصة على قصة وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم ، فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع ، والتقطيع التفريق ، فيكون محمودا مثل وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا ، ويكون مذموما ، فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع .
فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض .
و ( أمما ) جمع أمة بمعنى الجماعة ، فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعا مذموما أي تفريقا بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى أسر
بني إسرائيل عندما غزا مملكة إسرائيل "
شلمناصر " ملك
بابل ، ونقلهم إلى جبال
أنشور وأرض
بابل سنة : 721 قبل الميلاد . ثم أسر "
بختنصر " مملكة
يهوذا وملكها سنة : 578 قبل الميلاد ، ونقل
اليهود من "
أرشليم " ولم يبق إلا الفقراء والعجز . ثم عادوا إلى
أرشليم سنة : 530 وبنوا البيت المقدس إلى أن أجلاهم "
طيطوس " الروماني وخرب
بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد ، فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي
سبأ .
ووصف الأمم بأنهم منهم الصالحون إيذان بأن التفريق شمل المذنبين وغيرهم ، وأن الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلوا بينها كما دل عليه قوله
وبلوناهم بالحسنات والسيئات .
[ ص: 158 ] وشمل قوله ومنهم دون ذلك كل من لم يكن صالحا على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم .
و ( الصالحون ) هم المتمسكون بشريعة
موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون
بعيسى بعد بعثته . وأن
بني إسرائيل كانوا بعد بعثة
عيسى غير صالحين إلا قليلا منهم : الذين آمنوا به ، وزادوا بعد بعثة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وعدم إيمانهم به ، بعدا عن الصلاح إلا نفرا قليلا منهم مثل
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام ، ومخيريق .
وانتصب ( دون ذلك ) على الظرفية وصفا لمحذوف دل عليه قوله منهم أي ومنهم فريق دون ذلك ، ويجوز أن تكون ( من ) بمعنى بعض اسما عند من يجوز ذلك ، فهي مبتدأ ، و ( دون ) خبر عنه .
ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك
بابل ، وأنهم كانوا في مدة إقامتهم
ببابل منهم الصالحون مثل "
دانيال " وغيره ، ومنهم دون ذلك ؛ لأن التقسيم بمنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين .
وقوله
وبلوناهم بالحسنات والسيئات أي أظهرنا مختلف حال
بني إسرائيل في الصبر والشكر ، أو في الجزع والكفر ، بسبب الحسنات والسيئات ، فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تحسن والتي تسوء ، كما تقدم في قوله
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه وعلى هذا يكون الحسنات والسيئات تفصيلا للبلوى ، فالحسنات والسيئات من فعل الله - تعالى - ، أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم ، توزيعا لحال الضمير المنصوب في قوله بلوناهم .
وجملة (
لعلهم يرجعون ) استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات ، أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك ، على حسب الوجهين المتقدمين .
والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان ، وهو معنى التوبة . هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى قطعناهم .
ويجوز عندي أن يكون قوله وقطعناهم في الأرض أمما ، عودا إلى أخبار المنن عليهم ، فيكون كالبناء على قوله
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ،
[ ص: 159 ] فيكون تقطيعا محمودا . والمراد بالأرض : أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها ، فيكون ذكر الأرض هنا دون آية
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما للدلالة على أنهم عمروها كلها ، ويكون قوله
منهم الصالحون إنصافا لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة ، وقوله
وبلوناهم إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم .