صفحة جزء
من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون

هذه الجملة تذييل للقصة والمثل وما أعقبا به من وصف حال المشركين ، فإن هذه الجملة تحصل ذلك كله وتجري مجرى المثل ، وذلك أعلى أنواع التذييل ، وفيها تنويه بشأن المهتدين وتلقين للمسلمين للتوجه إلى الله - تعالى - بطلب الهداية منه والعصمة من مزالق الضلال ، أي فالذين لم يهتدوا إلى الحق بعد أن جاءهم دلت حالهم على أن الله غضب عليهم فحرمهم التوفيق .

والهداية حقيقتها إبانة الطريق ، وتطلق على مطلق الإرشاد لما فيه النفع سواء اهتدى المهدي إلى ما هدي إليه أم لم يهتد ، قال - تعالى - إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وقال وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى .

ثم قد علم أن الفعل الذي يسند إلى الله - تعالى - إنما يراد به أتقن أنواع تلك الماهية وأدومها ، ما لم تقم القرينة على خلاف ذلك ، فقوله من يهد الله يعني به من يقدر الله اهتداءه ، وليس المعنى من يرشده الله بالأدلة أو بواسطة الرسل ، [ ص: 181 ] وقد استفيد ذلك من القصة المذيلة فإنه قال فيها الذي آتيناه آياتنا فإيتاء الآيات ضرب من الهداية بالمعنى الأصلي ، ثم قال فيها فانسلخ منها وقال ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه وقال ولو شئنا لرفعناه بها فعلمنا أن الله أرشده ، ولم يقدر له الاهتداء ، فالحالة التي كان عليها قبل أن يخلد إلى الأرض ليست حالة هدى ، ولكنها حالة تردد وتجربة ، كما تكون حالة المنافق عند حضوره مع المسلمين إذ يكون متلبسا بمحاسن الإسلام في الظاهر ، ولكنه غير مبطن لها كما قدمناه عند قوله - تعالى - مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم في سورة البقرة ، فتعين أن يكون المعنى هنا : من يقدر الله له أن يكون مهتديا فهو المهتدي .

والقصر المستفاد من تعريف جزأي الجملة فهو المهتدي قصر حقيقي ادعائي باعتبار الكمال واستمرار الاهتداء إلى وفاة صاحبه ، وهي مسألة الموافاة عند الأشاعرة ، أي وأما غيره فهو وإن بان مهتديا فليس بالمهتدي لينطبق هذا على حال الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وكان الشأن أن يرفع بها .

وبهذا تعلم أن قوله من يهد الله فهو المهتدي ليس من باب قول أبي النجم " وشعري شعري " وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله لأن ذلك فيما ليس في مفاد الثاني منه شيء زائد على مفاد ما قبله بخلاف ما في الآية فإن فيها القصر .

وكذلك القول في ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون وزيد في جانب الخاسرين الفصل باسم الإشارة لزيادة الاهتمام بتمييزهم بعنوان الخسران تحذيرا منه ، فالقصر فيه مؤكد .

وجمع الوصف في الثاني مراعاة لمعنى من الشرطية ، وإنما روعي معنى من الثانية دون الأولى لرعاية الفاصلة ولتبين أن ليس المراد ب من الأولى مفردا .

وقد علم من مقابلة الهداية بالإضلال ، ومقابلة المهتدي بالخاسر أن المهتدي فائز رابح فحذف ذكر ربحه إيجازا .

والخسران استعير لتحصيل ضد المقصود من العمل كما يستعار الربح لحصول [ ص: 182 ] الخير من العمل كما تقدم عند قوله - تعالى - ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في هذه السورة ، وفي قوله فما ربحت تجارتهم في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية